المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الألفاظ المكشوفة في هذا الكتاب طبيعية وينبغي ألا يجهلها البشر - جمهرة مقالات محمود شاكر - جـ ٢

[محمود شاكر، أبو فهر]

فهرس الكتاب

- ‌الناسخون الماسخون

- ‌إكمال ثلاثة خروم من كتاب التنبيه على أوهام أبي علي في أماليه

- ‌من خط البغدادي *

- ‌مقاليد الكتب

- ‌أدب الجاحظ

- ‌الصاحب بن عباد

- ‌أبو نواس

- ‌ضحى الإسلام

- ‌الشريف الكتانى

- ‌نابغة بني شيبان

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - كتاب "حافظ وشوقي

- ‌2 - كتاب الرثاء

- ‌3 - كتاب الخط الكوفي *

- ‌4 - صلاح الدين وشوقي *

- ‌5 - كتاب الشخصية *

- ‌6 - كتاب أمير الشعراء شوقي *

- ‌مقاليد الكتب

- ‌حاضر العالم الإسلامي

- ‌ذكرى الشاعرين

- ‌ماضي الحجاز وحاضره

- ‌الوحي المحمدي

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - ملوك المسلمين المعاصرون ودولهم

- ‌2 - ابن عبد ربه وعقده

- ‌3 - رحلة إلى بلاد المجد المفقود

- ‌4 - تنبيهات اليازجي على محيط البستاني جمعها وحل رموزها

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - أنتم الشعراء

- ‌2 - تاريخ مصر الإسلامية

- ‌3 - آلاء الرحمن في تفسير القرآن

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - ابن خلدون: حياته وتراثه الفكرى

- ‌2 - قلب جزيرة العرب

- ‌الينبوع

- ‌النثر الفني في القرن الرابع

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - ديوان عبد المطلب

- ‌2 - مرشد المتعلم

- ‌3 - مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام

- ‌ ملوك الطوائف، ونظرات في تاريخ الإسلام

- ‌الإسلام والحضارة العربية

- ‌وَحْيُ القلم

- ‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (1)

- ‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (2)

- ‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (3)

- ‌عبقرية عمر

- ‌شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة- 1

- ‌شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة- 2

- ‌شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة- 3

- ‌ جمعية الشبان المسلمين

- ‌ تاريخ اليوم الأول

- ‌ دعوة الشباب إلى الجمعية

- ‌ الاجتماع الأول

- ‌ الاجتماع الثاني والثالث

- ‌ انتخاب مجلس الإدارة

- ‌في حلبة الأدب

- ‌كتاب تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي

- ‌ عن كتاب تطور الأساليب النثرية" رد على مؤلفه

- ‌ترجمة القرآن وكتاب البخاري

- ‌ترجمة القرآن في صحيح البخاري

- ‌من أين؟ وإلى أين

- ‌لماذا، لماذا

- ‌تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات

- ‌شكر

- ‌أنا وحدى

- ‌الطريق إلى الأدب- 1

- ‌الطريق إلى الأدب- 2

- ‌فوضى الأدب وأدب الفوضى

- ‌الأدب والحرب

- ‌إلى على ماهر باشا

- ‌لا تبكوا. .! لا تنوحوا

- ‌تجديد التاريخ المصري ساعة واحدة

- ‌أحلام مبعثرة

- ‌أهوال النفس

- ‌وقاحة الأدب أدباء الطابور الخامس

- ‌قلوب جديدة

- ‌القلم المعطَّل

- ‌اللغة والمجتمع

- ‌أوطانَ

- ‌(حول قصيدة القوس العذراء)

- ‌صَدَى النقد طبقات فحول الشعراء رد على نقد

- ‌[الاستعمار البريطاني لمصر]

- ‌المتنبي

- ‌حديث رمضان. عبادة الأحرار

- ‌مع الشيطان الأخرس

- ‌ يحيى حقي صديق الحياة الذي افتقدته

- ‌لا تنسوا

- ‌عدوى وعدوكم واحد

- ‌أندية لا ناد واحد

- ‌لا تخدعونا

- ‌احذروا أعداءكم

- ‌في خدمة الاستعمار

- ‌حكم بلا بينة

- ‌تاريخ بلا إيمان

- ‌المسلمون

- ‌ لا تسبُوا أصحَابي

- ‌طلب الدراهم من الحجارة

- ‌ألسنَةُ المفترين

- ‌جرأة العلماء

- ‌أحمد محمد شاكر إمام المحدّثين

- ‌ قُرَىَ عَرَبِيَّةَ

- ‌كانت الجامعة. . . هي طه حسين

- ‌مواقف

- ‌في الطريق إلى حضارتنا

- ‌الأندلس تاريخ اسم وتطوره

- ‌المتنبي ليتني ما عرفته- 1

- ‌المتنبي ليتني ما عرفته- 2

- ‌القول في "تذوق الشعر

- ‌القول في "الشعر

- ‌القول في "التذوق

- ‌المتنبي ليتني ما عرفته- 3

- ‌تتمة القول في التذوق

- ‌قضية "التذوق" عندي

- ‌تاريخ "التذوق" عندي

- ‌من هؤلاء

- ‌قضية اللغة العربية

- ‌في زمان الغفلة

- ‌هؤلاء الخمسة

- ‌الفقيه الجليل ورموز التكنولوجيا

- ‌النكبات الثلاث

- ‌الجبرتى الكبير

- ‌الألفاظ المكشوفة في هذا الكتاب طبيعية وينبغي ألا يجهلها البشر

- ‌ذكريات مع محبى المخطوطات

- ‌[تعقيب]

- ‌كلام منقول بنصه

- ‌في الطبعة الجديدة "للمتنبى

- ‌ الجيل المفرغ

- ‌كتاب الشعر الجاهلي

- ‌هل يبقى الاتهام

- ‌تهمة أكبر

- ‌ليس شكا أزهريا

الفصل: ‌الألفاظ المكشوفة في هذا الكتاب طبيعية وينبغي ألا يجهلها البشر

‌الألفاظ المكشوفة في هذا الكتاب طبيعية وينبغي ألا يجهلها البشر

الحديث هذه الأيام عن كتاب ألف ليلة وليلة، مؤسف ومحزن في الوقت نفسه، وفي ظنى أن المعلن حتى بهذه الكيفية المؤسفة المحزنة حول هذا الكتاب أقل بكثير إذا قيس بمثيله غير المعلن. والذي ربما يكشف عن جوانب سيئة رهيبة مخيفة. . تضاف إلى غيرها من الجوانب التي تندرج في النهاية تحت عنوان فساد حياتنا الثقافية بوجه عام. هذا الفساد الذي لم يكن وليد هذه الأيام وإنما يرجع تاريخه إلى عشرات السنين.

لذلك أرى أن المسألة قبل أن تكون احتراما للتراث الذي ينبغي علينا احترامه والمحافظة عليه هي احترام لعقولنا التي تمتهن بمثل هذا الأسلوب. . الذي من صُوَرِه أن ينظر أحدنا إلى الأشياء نظرة مختلة. وفي الأغلب والأعم يعلم البعض كنه هذه النظرة. ومع ذلك نجد أن هذا البعض يشاء -قاصدًا أو غير قاصد- التأثر بهذه النظرة، ويستطيب له مواصلة السير مع صاحب هذه النظرة المختلة. وتكون النتيجة التي لا مفر منها هي أن تتسم أحوالنا بأنها ولدت في غيبة تامة من التفكير العقلي والنظرة الصحيحة، والرؤية الهادئة. وهكذا تكون أغلب أفعالنا، وتكون النتيجة المنتظرة. . فسادا وتضليلًا وزيفا وغشًّا لأمور واضحة أمامنا.

مثلا إن ما يثار حول كتاب ألف ليلة وليلة، وخلاصته أن في هذا الكتاب من الألفاظ المكشوفة ما يمكن أن يفسد عقول شباب وشابات هذه الأمة. ولذلك يقدم الكتاب للمحاكمة. هذا الذي يثار حول هذا الكتاب يقدم دليلًا جديدًا لهذا السخف اخترناه لمسيرة حياتنا الثقافية.

هذه القضية كانت تتطلب منا معالجة أخرى غير ما تعاملنا به معها. كانت

(*) مجلة القاهرة، العدد الرابع عشر. الثلاثاء 7 مايو سنة 1985 م- 17 شعبان سنة 1405 هـ، ص 7.

ص: 1215

تتطلب منا -إذا أردنا تحري الدقة- بحثا هادئًا يبدأ بقراءة أجزاء هذا الكتاب نفسه، والوقوف طويلًا عند صفحاته، وتأمل عباراته وسطوره، واستخراج هذه الألفاظ التي ترى أنها مفسدة للعقول، كل لفظ حسب موقعه من السطر والصفحة والجزء، ولنرى بعد ذلك حاصل ما يجتمع لدينا من هذه الألفاظ. عندئذ سوف نجد أن ما يجتمع لدينا لا يزيد عن الصفحة أو الصفحتين على أكثر تقدير من الألفاظ المتكررة منتشرة على صفحات المجلدات الأربعة من كتاب ألف ليلة وليلة.

وتأتي الخطوة الثانية بأن نسأل عما لدينا من ألفاظ مكشوفة جمعناها من الكتاب وهل هذه الألفاظ المكشوفة معروفة لنا أم مجهولة؟ وهل لكوننا لا نستعمل هذه الألفاظ في كتاباتنا معناه اتهامها ومحاكمتها؟

بعد ذلك تأتي الخطوة الثالثة وهي حول بحث درجة تأثير هذه الألفاظ المكشوفة كل على حدة. إذا فعلنا ذلك فسوف لا نجد لها أي تأثير. بل إننا إذا قمنا بمقارنة هذه الألفاظ المكشوفة التي نستهجنها ونطالب بمحاكمتها بغيرها من الصور والتراكيب التي تزخر بها كتابات هذا الزمان نجد أن هذه الألفاظ أرحم بكثير مما تقرأه من صور وتراكيب مصنوعة وموضوعة على الصفحات بأسلوب معين يجعل لها أكبر التأثير بالنسبة لأبنائنا وبناتنا.

أقول ذلك بالنسبة للكلمة المقروءة أما بالنسبة للكلمة المسموعة أو المشاهدة فالأمر جد فادح وخطير. وإلا فليجلس أحدنا ساعة أو بعض ساعة أمام شاشة التليفزيون، ولا أقول الفيديو بالطبع، بعد هذه الساعة سوف يحكم أن ما جاء في كتاب ألف ليلة وليلة أرحم بكثير مما يشاهد. وإذا فعل هذا الأمر مع الإذاعة فأسلم أذنيه لما يصدر عن المذياع لاكتشف أن أمر ألفاظ ألف ليلة وليلة أرحم.

وليس معنى هذا أن نلغي من حياتنا الفيديو أو التليفزيون أو المذياع ومن قبلها كتابات توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وغيرهم. بالقطع لا. والسبب أن الحياة مليئة بالأشياء المتلفة، وأنت لا تستطيع أن توقفها. فقط

ص: 1216

ما يمكنك صنعه ألا تسمح لنفسك بالتعامل مع ما تراه متلفا من الأشياء أو تسمح بالتعامل وبالكيفية التي تريد.

هذا هو الأسلوب نفسه الذي ينبغي أن نفعله بالنسبة لكتاب صدر منذ ألف سنة ككتاب ألف ليلة وليلة. من حق بعضنا أن يقرأه أو لا يقرأه. لكن الذي ليس من حقنا جميعا أن نحكم بإلغائه أو بحرقه!

فالثابت أن هذا الكتاب وجد منذ مئات السنين، وخلال هذه السنين قرأه الناس، ولم يحدث مرة أن قيل إن هذا الكتاب أفسد عقل جيل أو عرض إلى انحلال مجتمع.

إن غاية ما يراه البعض في اتهامهم لهذا الكتاب هو أن به ألفاظًا مكشوفة تنتشر على صفحاته! هذه الألفاظ في رأيي لا خوف منها. فهي ألفاظ العلم نفسه. وإذا كان لها تأثير ضار، فكيف يستخدمها علماء اللغة وأصحابها. أقول إنها ليست ألفاظا ضارة وإنها ألفاظ طبيعية وعادية يستخدمها البشر في كل مكان. وليس من مصلحة البشر أن يجهل مثل هذه الألفاظ. فهي ضرورة من ضرورات الحياة. . العلمية منها أو الاجتماعية.

ومن هنا أرى أن ما يثار الآن حول كتاب ألف ليلة وليلة مثل من أمثلة فساد حياتنا الثقافية بوجه عام.

ص: 1217

بسم الله الرحمن الرحيم

إنْ كُنْتَ لَسْتَ مَعِى، فَالذِّكْرُ مِنْكَ مَعى

يَرَاكَ قَلْبى وَإنْ غُيِّبْتَ عَنْ بَصَرِى

الْعَينُ تُبصِرُ مَنْ تَهْوَى وتَفْقِدُهُ

ونَاظرُ الْقَلْبِ لَا يَخْلُو منَ النَّظَرِ

رحمك الله "أبا السامى"(1) ورضى عنك، وغفر لك ما تقدّم من ذنبك، وجزاك خيرًا عن جهادك {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)} .

* * *

كتب "سعيدٌ" -لا أَخلَى الله مكانه وخُطِّئَ عنه السوء- هذا الكتابَ الذي يسعى بين يديه، يردُّ به إلى الحياة حياةً استدبرت الدنيا وأقبلت على الآخرة بما قدّمتْ من عمل، وثَمَّ الميزانُ الذي لا يخطئ، والناقد الذي لا يجوز عليه الزيف، والحاكم الذي لا يقدح في عدله ظلم ولا جور، والبصيرُ الذي يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، قد استوت عنده دُجُنَّة السر ونهارُ العلانية. وقد فرغ الرافعي رحمه الله من أمر الناس إلى خاصة نفسه، ولكن الناس لا يفرغون من أمر موتاهم، ولو فرغوا لكان التاريخ أكفانًا تُطوَى على الرمم،

(*) هذا المقال هو المقدمة التي كتبها الأستاذ شاكر وصدر بها كتاب سعيد العريان، عن الرافعي بعنوان "حياة الرافعي" رحمهم الله جميعا. وصدرت طبعته الأولى سنة 1938

(1)

كذلك كانت كنيته. واسم ابنه البكر: محمود سامى الرافعي، وإنما سماه كذلك تشبيهًا له باسم الشاعر محمود سامى البارودى، وإليه كان ينظر في صدر أيامه (شاكر).

ص: 1218

لا أثوابا تُلقَى على الميت لتنشره مرة أخرى حديثا يُؤْثر وخبرًا يُرْوَى وعملا يتمثل وكأنْ قد كان بعد إذ لم يكن.

وهذا كتاب يقدّمه "سعيدٌ" إلى العربية وقرّائها، يجعله كالمقدّمة التي لابد منها لمن أراد أن يعرف أمر الرافعي من قريب.

لقد عاش الرافعي دهرًا يتصرف فيما يتصرف فيه الناس على عاداتهم، وتُصَرِّفُه أعمالُ الحياة على نهجها الذي اقتسرتْه عليه أو مهدته له أو وطَّأت به لتكوين المزاج الأدبيِّ الذي لا يعدمه حيٌّ ولا يخلو من مسِّه بشرٌ.

وأنا -مما عرفت الرافعي رحمه الله ودنوت إليه ووصلت سببًا مني بأسباب منه- أشهد لهذا الكتاب بأنه قد استقصى من أخبار الرافعي كثيرًا إلى قليل مما عُرِف عن غيره ممن فرَط من شيوخنا وكتابنا وأدبائنا وشعرائنا؛ وتلك يدٌ لسعيد على الأدب العربي، وهي أُخرى على التاريخ. ولو قد يَسَّر الله لكل شاعر أو كاتب أو عالم صديقًا وفيًّا ينقله إلى الناس أحاديثَ وأخبارًا وأعمالا كما يسَّر الله للرافعي، لما أضلَّت العربية مجدَ أدبائها وعلمائها، ولما تفلَّت من أدبها علمُ أسرارِ الأساليب وعلمُ وجوه المعاني التي تعتلجُ في النفوس وترتكض في القلوب حتى يؤذَن لها أن تكون أدبا يصطفى وعلما يتوارث وفنًّا يتبلّجُ على سواد الحياة فتسفر عن مكنونها متكشِّفة بارزة تتأنق للنفس حتى تستوى بمعانيها وأسرارها على أسباب الفرح ودواعي السرور وما قبلُ وما بعدُ.

والتاريخ ضربان يترادفان على معناه، ولكل فضل: فأوله رواية الخبر والقصَّة والعمل، وما كان كيف كان وإلى أين انتهى؛ وهذا هو الذي انتهى إلينا من علم التاريخ العربي في جملته، وعمود هذا الباب صدقُ الحديث، وطولُ التحرّى والاستقصاء والتتبع، وتسقُّط الأخبار من مواقعها، وتَوخِّى الحقيقة في الطلب حتى لا يختلط باطلٌ بحق. وأما التاريخ الثاني فإيجاد حياة قد خرجت من الحياة، وردٌّ ميت من قبر مغلق إلى كتاب مفتوح، وضمُّ متفرق يتبعثر في الألسنة حتى يتمثل صورة تلوح للمتأمّل، وهذا الثاني هو الذي عليه العمل في الإدراك البيانى لحقائق الشعراء والكتاب ومَن إليهم؛ ومع ذلك فهو لا يكاد يكون شيئا إلا

ص: 1219

بالأول، وإلا بقى اجتهادا محضا تموت الحقائق فيه أو تحيا على قدر حظ المؤرّخ والناقد من حسن النظر ونفاذ البصيرة، ومساغِه في أسرار البيان متوجها مع الدلالة مقبلا مدبرا، متوقيًا عثرةً تكبُّه على وجهه، متابعًا مَدْرجة الطبائع الإنسانية -على تباينها واختلافها- حثى يُشرف على حيث يملك البصر والتمييز ورؤية الخافي وتوهم البعيد، ويكون عمل المؤرخ يومئذ نكسة يعود بها إلى توهم أخبار كانت وأحداث يخالها وقعتْ، ويجهد في ذلك جهدا لقد غني عنه لو قد تساوقت إليه أخبار حياة الشاعر أو الكاتب واجتمعت لديه وأُلقيت إليه كما كانت أو كما شاهدها من صَحِبه واتصل به ونفذ إلى بعض ما ينفذ إليه الإنسان من حال أخيه الإنسان.

وبعدُ، فإن أكثر ما نعرفه من أدب وشعر في عصور الاندحار التي مُنيت بها العربية يكاد يكون تلفيقًا ظاهرًا على البيان والتاريخ معًا، حتى ليضل الناقِدُ ضلال السالك في نفق ممتد قد ذهب شعابا متعانقة متنافرة في جوف الأرض؛ ثم جاء العصر الذي نحن فيه فأبطلت عاميتُه البيانَ في الأدب والشعر من ناحية، ودلسهما ما أُغرى به الكثرةُ من استعارة العاطفة واقتراض الإحساس من ناحية أخرى؛ فإني لأقرأُ للكاتب أو الشاعر وأتدبر وأترفق وأترقى. . . وإذا هو عَيْبة ممتلئة قد أُشْرِجَتْ على المعاني والعواطف فلو قُطع الخيط الذي يشدّها لانقطعت كلُّ شاردةٍ نافرةً إلى وطنها تشتدّ؛ وبمثل هذا يخوض المؤرخ في رَدَغة مستوحِلة يتزلَّق فيها ههنا وثمّ، ويتقطع في الرأي وتتهالك الحقائق بين يديه حتى يصير الشاعر وشعرُه والأديب وأدبه أسمالا متخرِّقة بالية يمسح بها المؤرّخ عن نفسه آثار ما وحِل فيه!

وقد ابتُلى الأدبُ العربي في هذا العصر بهؤلاء الذين أوجفتْ بهم مطايا الغرور في طلب الشهرة والصيت والسماع، فخبطوا وتورّطوا ظلماءَ سالكُها مغترّ، وقد كان احتباسهم وإمساكهم عما نصبوا وجوههم له، واصطبارُهم على ذل الطلب، وممارستُهم معضلَ ما أرادوه، وتأنِّيهم في النية والبصر والعزم عسى أن يحملهم على استثارة ما ركبه الإهمال من العواطف التي تعمل وحدها إذا تنسمت روح

ص: 1220

الحياة، واستنباط النبع القديم الذي ورثته الإنسانية من حياتها الطبيعية الأولى ثم طمتْ عليه أدرانُ المدنيات المتعاقبة.

والشعر والأدب كلاهما عاطفة وإحساس ينبعان من أصل القلب الإنساني؛ هذا القلب الذي أُثبت من داخل بين الحنايا والضلوع ليكون أصفى شيء وأطهرَ شيء وأخفى شيء، وليمس كل عمل من قريب ليصفيه ويطهره ويسدل عليه من روحه شفًّا رقيقًا لا يستر، بل يصف ما وراءه صفة باقية بقاء الروح، ويبرئها من دنس الوحشية التي تطويها في كفن من بضائع الموتى؛ فأيما شاعر أو أديب قال فإنما بقلبه وجب أن يقول ومِن داخله كُتِبَ عليه أن يتكلم، وإنما اللسان آلة تنقل ما في داخل إلى خارج حَسْب؛ فإن كلفها أحد أن تنقل على غير طبيعتها في الأداء -وهي الصلة التي انعقدت بينها وبين القلب على هذا القانون- فقد أوقع الخللَ فيها ووقع الفسادُ والتخالف والإحالة والبطلان فيما تؤدّيه أو تنقله.

وقد نشأ الرافعي من أوّليته أديبًا يريد أن يشعر ويكتب ويتأدّب، وسلخ شبابه يعمل حتى أمكنته اللغةُ من قيادها وألقت إليه بأسرارها فكان عالمًا في العربية يقول الشعر، ولو وقف الرافعي عند ذلك لدرج فيمن درج من الشعراء والكتاب والعلماء الذين عاصروه، ولو أنه استنام إلى بعض الصيت الذي أدركه وحازه واحتمله في أمره الغرور لخف من بعدُ في ميزان الأدب حتى يرجح به مِن بعدُ مَنْ عسى أن يكون أخفَّ منه؛ ولكن الرافعي خرج من هذه الفتن -التي لفّت كثرةَ الشعراء والأدباء والتقمتهم فمضغتهم فطحنتهم ثم لفظتهم- وقد وَجد نفسَه واهتدى إليها، وعرف حقيقة أدبه وما ينبغي له وما يجب عليه. فأمَرَّ ما أفاد من علم وأدب على قلبه ليؤدّى عنه، وبرئ أن يكون كبعض مشاهير الكتاب والشعراء ممن يُطيح بالقول من أعلى رأسه إلى أسفل القرطاس، وللقارئ من قنابله بعد ذلك ما يتشظَّى في وجهه وما يتطاير. لهذا كان الرافعيُّ من الكتاب والأدباء والشعراء الذين تُتخذ حياتُهم ميزانًا لأعمالهم وآثارهم، ولذلك كان كتاب "سعيد" عن حياته من الجلالة بالموضع الذي يسمو إليه كل مبصر، ومن الضرورة بالمكان الذي يلجأ إليه كل طالب.

ص: 1221

عرفت الرافعي معرفة الرأي أول ما عرفته، ثم عرفتُه معرفة الصحبة فيما بعد، وعرضْت هذا على ذاك فيما بيني وبين نفسي فلم أجد إلا خيرًا مما كنت أرى، وتبدَّت لي إنسانيةُ هذا الرجل كأنها نغمة تجاوب أختها في ذلك الأديب الكاتب الشاعر، وظفرت بحبيب يحبنى وأحبه، لأن القلب هو الذي كان يعمل بيني وبينه وكان في أدبه مسُّ هذا القلب؛ فمن هنا كنت أتلقى كلامه فأفهم عنه ما يكاد يخفي على من هو أمثلُ مني بالأدب وأقْوم على العلم وأبصَر بمواضع الرأي.

وامتياز الرافعي بقلبه هو سر البيان فيما تداوله من معاني الشعر والأدب؛ وهو سرُّ حفاوته بالخواطر ومذاهب الآراء، وسر إحسانه في مهنتها وتدبيرها وسياستها كما يحسن أحدهم مهنة المال ورَبَّه والقيامَ عليه؛ وهو سر علوِّه على من ينخشُّ في الأدب كالعَظْمة الجاسية تنشبُ في حلق متعاطيه، لا يُبقى عليه من هوادة ولا رفق، وبخاصة حين يكون هذا الناشب ممن تسامى على حين غفلة يوم مَرِج أمرُ الناس واختلط، أو كان مرهقًا في إيمانه مُتهمًا في دينه؛ إذ كان الإيمان في قلب الرافعي دمًا يجرى في دمه، نورًا يضئُ له في مجاهل الفكر والعاطفة ويسنِّى له ما أَعسر إذا تعاندت الآراء واختلفت وتعارضت وأكذبَ بعضُها بعضًا.

هذا، وقد أرخيت للقول حتى بلغ، وكنتُ حقيقًا أن أغور إلى سرّ البيان واعتلاقه من العاطفة والهوى في قول الشاعر والكاتب والأديب لأسدِّد الرأي إلى مرماه، وقد يطولُ ذلك حتى لا تكفي له فاتحة كتاب أو كتابٌ مفرد، فإن البيان هو سرُّ النفس الشاعرة مكفوفا وراءَ لفظٍ، وما كان ذلك سبيله لا يتأتى إلا بالتفصيل والتمييز والشرح، ولا تُغني فيه جملة القول شيئًا من غناء. وحقيقٌ بمن يقرأُ هذا الكتاب أن يعود إلى كتب الرافعي بالمراجعة فيستنبئها التفصيل والشرح، وبذلك يقع على مادة تمدّه في دراسة فنون الأسلوب، وكيف يتوجهُ بفنّ الكاتب، وكيف يتصرف فيه الكاتب بحسٍّ من قلبه لا يخطئ أن يجعل المعنى واللفظ سابقين إلى غرض متواطئين على معنى لا يجوران فيجاوزانه أو يقعان دونه.

ص: 1222

رحمة الله عليه، لقد شارك الأوائل عقولهم بفكره، ونزع إليهم بحنينه، وفلج أهلَ عصره بالبيان حين استعجمتْ قلوبهم وارتضخت عربيتُهم لُكنةً غير عربية، ثم صار إلى أن أصبح ميراثًا نتوارثه، وأدبًا نتدارسه، وحنانًا نأوى إليه. رحمة الله عليه!

ص: 1223

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله وَحْدَه لا شريكَ له، أَنْزَل الكتابَ بالحقّ، لا يأتيه الباطلُ من بين يدَيْه ولا من خَلْفِه. وصلّى الله على خِيرتِهِ مِنْ خَلْقِه، محمّدٍ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرًا، بلَّغَ الرسالةَ، وأَدّى الأمانةَ، وتَرَكَ الناس على المَحَجّةِ الواضحة بِنُورِ القرآنِ الذي لا يَخْبو نُورُه، وضياء السنَّةِ التي لا يَخْفُتُ ضِياؤها.

وبعدُ:

فماذا يقول القائل في عَمَل قام به فَرْدٌ واحِدٌ، لو قامتْ عليه جماعةٌ لكان لها مَفْخَرة باقيةً؟ فمن التواضُع أَنْ يُسَمَّى هذا العملُ الذي يَعْرِضُه عليك هذا الكتابُ "مُعْجَمًا نَحْويًّا صرْفيّا للقرآن العظيم".

فمعلومٌ أَنَّ جُلَّ اعتماد المعاجم قائمٌ على الْحَصْر والترتيبِ.

أمّا هذا الكتاب، فالْحَصْر والترتيب مُجَرَّد صورةٍ مُخطَّطة يعتمِدُ عليها.

أمّا القاعدة العُظْمى التي يقوم عليها، فهي معرفةٌ واسعةٌ مسْتوعِبةْ تامّةٌ لدقائِقِ عِلْم النحوِ، وعِلْم الصرف، وعِلْم اختلافِ الأساليب.

ولولا هذه المعرفةُ لم يَتَيِسَّرْ لصاحبهِ أَنْ يوقِّع في حصْره من حروف المعاني وتصاريفِ اللغة على أبوابها من علم النحو، وعلم الصرف، وعلم أساليب اللغة.

وهذا العملُ الجليلُ الذي تولّاه أستاذنا الشيخ محمد عبد الخالق عضيمة والذي أَفْنَى فيه خمسةً وعِشرين عاما طوِالًا، والذي يَعْرِض عليك منه هذا القسمَ الأوّلَ إنما هو جُزْءٌ مِنْ عَملٍ ضَخْمٍ لم يَسْبقْه إليه أحدٌ، ولا أظنّ أنّ أحدًا من أَهْلِ زماننا كان قادرًا عليه بمفرده. فإنّ الشيخ قد أُوتى جَلَدًا وصبرًا ومعرفة، وأمانةً في الاطّلاع، ودِقَّةً في التحرِّى لم أَجدها متوافرةً لكثير ممّن عرفت.

(*) هذا التصدير كتبه الأستاذ شاكر في الجزء الأول من "دراسات لأسلوب القرآن الكريم" للشيخ العلامة محمد عبد الخالق عضيمة. طبع مطبعة السعادة، القاهرة 1972.

ص: 1224

وحروف المعاني التي يتناولها هذا القسمُ الأوّلُ من جَمْهَرَةِ علم القرآن العظيم (1)، أَصْعَبُ أبوابِ هذه الْجَمْهرةِ، لكثرتها وتَداخُلِ معانيها. فقلّ أن تخلُوَ آيةٌ من القرآن العظيم من حرْفٍ من حروفِ المعاني.

أمّا المشقَّةُ العظيمةُ، فهي في وجوهِ اختلافِ مواقع هذه الحروفِ من الْجُمَلِ؛ ثمّ اختلافِ معانيها باختلافِ مواقعِها، ثمّ ملاحظةِ الفروقِ الدقيقة التي يَقْتضيها هذا الاختلافُ في دلالته المؤثِّرةِ في معاني الآيات. وهذا وَحْدَه أساس عِلْمٍ جليل من علوم القرآن العظيم.

وسترى في هذا القسم العَمَلَ المُتْقَنَ الذي تولّاه أستاذنا الجليل، مواضِع كثيرة من الاستدراكِ على النحاة منذ سيبويه إلى ابن هشام، ولكن ليس معْنَى هذا أن نَبْخَس الشُّيُوخَ الأوائلَ نَصِيبَهم من التَّفوُّقِ الهائلِ الذي يُذْهِل العقول، ولكن مَعْناه أنّ الأساس الذي أَسَّسوه في أزْمِنَتهِم المتطاولةِ كان ينْقُصُه هذا الْحَصْرُ الدقيق لكلِّ ما في القرآن العظيم من حروفِ المعاني، وكان هذا الْحَصْر خارجا يومئذٍ عن طاقَتهم، فإن الذي أعان عليه هو الطباعةُ التي استحدثت في زماننا. والناظر في كُتُبِ القدماء لا يُخطئه أن يرى أنّهمِ قاموا بِحَصْرٍ غير تامٍّ، بيْدَ أنّ هذا القَدْرَ الذي قاموا به هو في ذاته عَملٌ فوق الجليلِ وفوق الطاقةِ.

ويظنّ أستاذنا الشيخ عضيمة أنّ الأوائلَ قد شَغَلَهم الشِّعْرُ عن النظَر في شواهدِ القرآن العظيم، وأظنّ أنّ الذي تولّاه أستاذنا من حصْرِ هذه الأشياءِ في القرآنِ العظيم، وتنزيلها في منازِلها من أبواب علْم النحو وعلْم الصرف، وعلْم أساليب اللغة، مقدّمة فائقةُ الدلالة، لعَمل آخر ينبغي أن تتولّاه جماعةٌ منظَّمةٌ في حصْرِ ما في الشِّعْرِ الجاهليّ والإسلاميّ من حروفِ المعاني، ومن تصاريفِ اللغة، ومن اختلافِ الأساليب ودلالتها. والذي ظنّ الأستاذ أنّ القدماء قد فَرَّغوا هِمَمَهُمْ له، هو في الحقيقة ناقصٌ يحتاج إلى تمامٍ، وتمامه أن يُهيِّئَ الله للناس منْ يقوم لهم في الشِّعْرِ بمثلِ ما قام به هو في القرآن العظيم.

(1)"الجمهرة": هذه اللفظة وضحتها لما نسميه في هذا الزمان "دائرة المعارف" أو "الموسوعة"(شاكر).

ص: 1225

وإذا تمّ هذا كما أتمّ الشيخ عَملَه في القرآن العظيم، فعسى أن يكونَ قد حان الحِينُ للنظَر في "إعجاز القرآن" نظرًا جديدًا، لا يتيسّر للناس إلا بعْد أن يَتِمّ تَحليلُ اللغة تحليلا دقيقًا قائمًا على حصْرِ الوجوهِ المختلفة لكلِّ حرْفٍ من حروفِ المعاني، وتصاريف اللغة. لأنّ هذه الحروفَ وهذه التصاريف، تُؤثِّر في المعاني، وتُؤثِّر في الأساليب، وتُحدِّد الفُروق الدقيقةَ بين عبارةٍ وعبارة وأَثَرها في النفْسِ الإنسانيّة وأَثَر النفْسِ الإنسانيّة فيها، وفي دلالاتها.

وإذا كان أستاذنا الجليل قد تواضع فظنّ أنّه قد وضع أساسًا عِلْميًّا ثابتًا للحكْم على أساليب القرآن، وموقعها من النحو والصرف، فإني أظنّ أنّه قد فات ذلك وسبَقه، فهيّأ لنا أساسًا جديدًا للنظر في "إعجاز القرآن" نظرةً جديدةً تُخْرِجه من الْحَيِّزِ القديم، إلى حيِّزٍ جديدٍ يُعين على إنشاءِ "علم بلاغة" مسْتَحْدَثٍ. فإنّه مهما اختلف المختلفون في شَأْنِ "البلاغة" فالذي لا يمكن أن يدْخلَه الاختلافُ هو أَنّ تركيبَ الكلام على أُصولِ النحو والصرف، هو الذي يُحْدث في كلامٍ ما ميزةً يفوق بها كلامًا آخر. وهذا لا يتيسَّر معْرفَتُهُ إلّا بتحليل اللغةِ وتحليلِ مفرداتها وأدواتها، وروابطها، التي هي حروف المعاني، عَملٌ لا يُنْتَهى فيه إلى غاية، إلّا بعد الْحَصْرِ التامِّ للغة وتصاريفها، ولاسيما حروف المعاني، وبعد معرفةِ الفُروقِ الدقيقةِ التي تُحدثها هذه الحروفُ في مواقعها، وبعد معرفةِ أَثَر هذه الفروقِ في تفضيل كلامٍ على كلام.

والشيخ -حفظه الله- لم يترك مجالا للاستدراك على عمله العظيم. فكلّ ما أستطيع أن أقولَه، إنّما هو ثَناءٌ مسْتَخْرَجٌ من عَمل يُثْنِى على نفْسِه، ولكن بقي ما نتهاداه في هذه الحياة الدنيا، وهو أن أَدعُو الله له بالتوفيق، وأن يزيدَه من فَضْله، وأن يُعينَه على إتمامِ ما بدأَ، وأن يجعل هذا العمل ذخيرة له يومَ لا ينفع مالٌ ولا بنون.

ص: 1226