الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الغالب. حاولت أن تهب من رقدتها، لتنفض عن نفسها غبار القرون، فماذا فعلت؟ ولم أخفقت؟
كان لدوى الأركان المتقوضة في مركز دولة الخلافة، ذبذبة تغلغلت في قلب العالم العربي الإِسلامى حتى بلغت أطرافه البعيدة. وبالتوجس المحض من الخطر المرهوب المحجوب، بدأت أمة كاملة مترامية الأطراف تحاول أن تواجه تحديا عن عدو مبهم، بدأ يقوض أركان دولتها. وبرد الفعل الفطرى، تحركت طائفة قليلة مبعثرة في أرجاء عالم متراحب. تحركت تدافع عن بقائها بلا تدبير سابق، ولا هدف واضح، وما هو إلا التوجس الغامض من شر خطر داهم مستطير، ولكنه محجوب لا يعرف ما هو على التحقيق.
كان أول ما انبعث هؤلاء الأفراد القلائل بفطرتهم للدفاع عنه هو اللغة والدين، وهما أساس ثقافة الأمة، ثم سائر العلوم التي هي أصول الحضارة التي ورثتها، وعاشت بها وفيها قرونا طويلة. كان الطريق الذي هدتهم إليه الفطرة، هو بعث الأصول التي قامت عليها الثقافة والحضارة، بالرجوع إلى منابعها الصافية الأولى، بعد أن غمرها النسيان والغفلة بأتربة سفت عليها قرونا حتى طمرتها، وسلبتها بريقها ونضرتها.
لا أستطيع هنا أن أسرد كل ما حدث عند هذا التوجس في كل ناحية من نواحي هذا العالم الضخم المتراحب، ولذلك رأيت أن أختار خمسة رجال عظام لا أكثر، أحسوا بذبذبة النكبة، فانتفضوا لها، وكان لهم في بقعة من قلب العالم العربي الإِسلامى طريق واضح في البعث والإحياء، دلت عليه كتبهم وأعمالهم دلالة واضحة. لن أستوعب تاريخهم أو آثار كتبهم وأعمالهم، وإنما هي الإشارة والتنبيه لا غير، إلى هذا الإحساس الغامض بالنكبة، وطريقهم الذي سلكوه لدفعها عن بلادهم وأمتهم، بلا تبين واضح للعدو أو للهدف.
هؤلاء الخمسة
قبل كل شيء، ينبغي أن نعلم أن حياة هذا العالم العربي الإِسلامى، كانت تسير على نمط مألوف معروف، لا يكاد يستنكره أحد: في العقيدة العامة التي
تسود الناس، وفي الدراسة في جميع معاهد العلم العريقة، وفي التأليف والكتابة، وفي حياة الناس التي تعيش بها عامتهم وخاصتهم من تجارة وصناعة. كل ذلك كان نمطًا مألوفًا متوارثًا، فجاء هؤلاء الخمسة (1)، ليحدثوا يومئذ ما لم يكن مألوفًا، وشقوا طريقًا غير طريق الإلف. وبيان ذلك يحتاج إلى تفصيل، ولكني سأشير إليه في خلال ذكرهم إشارة تعين على تصور موضع الخلاف.
1 -
"البغدادي"، ولد عبد القادر بن عمر البغدادي ببغداد "1030 - 1093 هـ - 1620 - 1683 م". وفي الثامنة عشرة من عمره، "سنة 1048 هـ" خرج في إتمام طلب العلم، فرحل إلى الشام، ثم فارقها بعد سنتين "سنة 1050 هـ" قاصدا مصر. فلقى بها العلماء وتلقى عنهم وصحبهم، واتسع اطلاعه على ذخائر الكتب القديمة التي لم يكن يعني بها علماء زمانه، وفي سنة 1080 هـ، رحل إلى دار الخلافة بالقسطنطينية، لما فيها من ذخائر الكتب العربية التي حازتها، ولقى بها عالما جليلا، حاز مكتبة عربية من أجل المكاتب، وهو الوزير الأعظم أبو العباس أحمد بن أبي عبد الله محمد، المعروف بكوبرلى، ولا تزال مكتبته باقية بها إلى يومنا هذا، فأقام مع صاحبه سبع سنوات إلى أن عاد إلى مصر سنة 1092 هـ ثم وافاه أجله في أوائل سنة 1093 هـ.
كان طريق البغدادي واضحا. لم يكن في أيدى طلبة العلم سوى ما ألفوه من كتب الفقه والنحو والبلاغة وحواشيها، فأداه اطلاعه إلى معرفة الضعف الغالب على أهل زمانه، وهجرهم شعر الشعراء الفحول وأخبارهم وتاريخهم. فعمد إلى ما في كتب النحو التي يعرفونها من شواهد الشعر العربي القديم، جاهليه وإسلاميه، فألف ثلاثة كتب تدور كلها على شرح شواهد الشعر، وضمنها روائع الشعر، وأخبار الشعراء، ونوادر التاريخ. فكان ذلك مقدمة لبعث التراث الأدبى وإحيائه، ووضعه بين أيدى الناس .. تتبين ذلك واضحا في كتبه الثلاثة:"خزانة الأدب، ولُب لُباب لسان العرب" .. وهو شرح شواهد الكافية للرضى في النحو،
(1) تحدث الأستاذ شاكر عنهم أيضًا في "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا".
عدة مجلدات، وشرح شواهد الشافية للرضى أيضًا، وهو مجلد واحد، وشرح أبيات مغني اللبيب لابن هشام، في عدة مجلدات (1).
* * *
2 -
"المرتضى الزبيدى" ولد محمد بن عبد الرزاق الحسينى ببلدة بلجرام بالهند "1145 - 1205 هـ/ 1732 - 1790 م" درس العربية وسائر العلوم على علماء الهند. ثم رحل إلى الحجاز "سنة 1163 - 1166، ثم فارقها إلى مصر ولقى مَنْ بها مِنَ العلماء، ونفض ما في مكتباتها من الكتب العتيقة، وبقي بها إلى أن توفي -من سنة 1167، إلى سنة 1205 هـ. ولم يكن طلبة العلم يعرفون من كتب اللغة إلا قليلًا. كالمصباح المنير .. ومختار الصحاح، ثم القاموس المحيط للفيروزبادى على قلة، وكان الزبيدى محيطا بعلوم كثيرة، فكثر عليه طلبة العلم، وأدرك ضعف ما بأيديهم من كتب اللغة، فأراد أن يضع تحت أيديهم كتابا جامعا في اللغة فألف معجمه الكبير "تاج العروس"، وهو شرح لقاموس الفيروزبادى جمع فيه ما تفرق في الكتب، وأشار فيه إلى كثير من دواوين الشعر المحفوظة في المكاتب. وألف لهم أيضًا شرحا على كتاب متداول هو كتاب "إحياء علوم الدين" للغزالى، فذاع صيته، وطارت شهرته في الآفاق، ووفدت عليه الوفود من بلاد الإسلام كلها، وكاتبه العلماء والملوك من الترك والحجاز والهند واليمن والشام والعراق والمغرب والجزائر والسودان. فكان تأليفه وكانت دروسه بعثا للتراث اللغوى والدينى وإحياء لما خفي منه على الناس.
* * *
3 -
"ابن عبد الوهاب" ولد محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمى النجدى "1115 - 1206 هـ/ 1703 - 1792 م" ببلدة العيينة بنجد، ورحل إلى الحجاز والشام والبصرة، وفتح عينيه على ما يعم نجدا والبلاد التي زارها من البدع التي حدثت، وما غمر العامة والخاصة من الأعمال والعقائد الحادثة، والتي
(1) وأضيف إلى ذلك: حاشية على شرح "بانت سعاد" في ثلاثة مجلدات.
تخالف ما كان عليه سلف الأمة من صفاء عقيدة التوحيد، وهي ركن الإِسلام الأكبر فلما عاد إلى نجد، لم يقنع بتأليف الكتب. ورأى أن خير الطرق هو أن يتجه إلى عامة الناس في نجد، ليردهم عن البدع المستحدثة، ويسلك بهم طريق السلف في العمل والعقيدة، ولم يزل دائبا في دعوته، يدعو ويعلم ويكتب، حتى استجاب لدعوته أمير بلدة الدرعية بنجد، الأمير محمد بن سعود في سنة 1175 هـ. فمن يومئذ صارت دعوته قوة متحركة فاتحة في قلب جزيرة العرب، وأحدث ظهور هذه القوة رجة شديدة الدوى في جنبات العالم العربي والإِسلامى، وتلفت الناس يمينا وشمالا، في الهند ومصر والعراق والشام وتركيا والمغرب والسودان. ولشدة وقع هذا الدوى وعنفه، انقسم الناس في أمره بين مؤيد له لصواب ما أتى به، ومعارض له لمناقضته الإلف الذي ألفوه .. وكاد العالم الإِسلامى كله يتحرك ويندمج بعضه في بعض بكل تراثه الضخم، وبكل مواريث حضارته العظيمة، ولكن كان قدر الله أغلب، وحصرت اليقظة الإِسلامية كلها بلا معين، بين أركان الجزيرة العربية الفقيرة يومئذ، وسدت المنافذ، ومزقت الأوصال، وصار الاندماج حلما من الأحلام، يراود الأمة العربية الإِسلامية إلى يوم الناس هذا.
ذلك، لأن مغل "مغول" العصر الحديث وتتره كانوا أكثر يقظة، وأوضح هدفا، وأسرع حركة، وأغنى غنى، وأقدر على النهب والسلب والفتك والتدمير، وفي أيديهم دستور حضارتهم الذي وضعه الخبيث مكيافيلى ينير لهم طريق العمل.
* * *
4 -
"الشوكانى"، ولد محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكانى ببلدة شوكان، من بلاد خولان باليمن، ونشأ بصنعاء، مقر حكم المذهب الزيدى، وهم ينتسبون إلى "زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه" .. وهم يعدّون من فرق الشيعة. تفقه الشوكانى على مذهب الإمام زيد، وبرع في علمه حتى آل إليه القضاء والإفتاء ولكنه عندئذ خلع ربقة التقليد، وانتصب للاجتهاد، فزيف ما لا يقوم عليه دليل من الكتاب والسنة، فثار
عليه جماعة من المقلدين في ديار الشيعة، فجادلهم وصاولهم، والتزم بعقيدة السلف، وحرم التقليد، وذهب في بيانه مذهب الحافظ ابن عبد البر حيث قال: "التقليد غير الاتباع، لأن الاتباع هو أن تتبع قول القائل على ما بان لك من فضل قوله وصحة مذهبه. والتقليد أن تقول بقوله وأنت لا تعرفه ولا تعرف وجه القول ولا معناه، وتأبى مَن سواه وإن تبيّن لك خطؤه فتتبعه مهابة خلافه، وأنت قد بان لك فساد قوله. فهذا يحرم القول به في دين الله.
فكان قيام الشوكانى، في محيط الشيعة الزَّيدية، صبحا جديدًا يوشك أن يهز قواعد التعصب الذي درج عليه أصحاب المذاهب من أهل السنة، فضلا عن أتباع الفرق المختلفة وعلى رأسها الفرقة الغالية من الشيعة المعروفة باسم "الاثنا عشرية" المكفرة للصحابة وللأمة كلها، باختيارها أبا بكر ثم عمر، ثم عثمان رضي الله عنهم، دون علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
أوجزت القول في هؤلاء الأربعة العظام، لأن استجابتهم للتحدى المبهم كانت مقيدة في كتب خلفوها، أو أعمال كان لها دوى لا تزال آثاره باقية إلى اليوم، ولأن بشائر البعث والإحياء في كتبهم وأعمالهم أظهر من أن تخفي على أحد، ولا يكاد يجادل فيها إلا من وقع في شرك الرفض لماضيه كله، أو من يغمض عينيه ويعمد إلى الاستخفاف بها بلا تدبر، بل بالتهور واللجاجة. وإذا كنا بالأمس منذ قرون قلائل، صرعى غفلة وفي وَسَنٍ غالب، وعلى الأبواب عدو مدرب، كان أكثر يقظة، وأسرع حركة، وأغني غني، وأقدر على السلب والنهب والتدمير والفتك كما وصفت، فنحن اليوم أيضًا صرعى غفلة أبشع من غفلتنا الأولى، لا نكاد نحس كما أحس أسلافنا، والعدو لا على الأبواب، بل هو متغلغل منتشر يسرح في صميم هذا العالم العربي الإِسلامى المترامى الأطراف، وقد تفوق على أسلافه تفوقا لا يكاد يصدق، في اليقظة المفترسة، وفي وضوح الهدف، وفي سرعة الحركة، وفي الغنى الباذخ، وهو أقدر قدرة ضارية على النهب والسلب والتدمير والفتك، ولا يزال بين يديه، بل ملء قلبه وعقله دستور
مكيافيلى، وقد اتسع وتطور به ونما واستفحل خبثه، وتوحشت ضراوته، وتشعب شره تشعبا لا يكاد يصدق.
لذلك وجدت أن الرجل الخامس الذي اخترت أن أذكره في الخمسة العظام، يحتاج خبره إلى تفصيل لم أحتج لمثله وأنا أكتب عن أصحابه الأربعة العظام، فقد جاءوا جميعًا يومئذ ليُحدِثوا شيئًا لم يكن مألوفا، ولكى يشقوا بأنفسهم طريقا غير طريق الإلف، ولكنه انفرد عنهم بأن طريقه في عمله كان أخفى من طريقهم، ولأن تقييد عمله بالكتابة كان أشق، ولأن عمله كان تحت بصر العدو وسمعه لم يغفل عنه طرفة عين، فلما انقضّ علينا وظفر بنا، سار بنا مسارًا يزيد عمله علينا خفاء، بل يفضى إلى ما هو أعظم من الخفاء، أي إلى الطمس الكامل لجميع السبل المؤدية إلى استبانة ما كان من عمله، كيف كان؛ وستأتي القصة كلها واضحة إن شاء الله.