المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (3) - جمهرة مقالات محمود شاكر - جـ ٢

[محمود شاكر، أبو فهر]

فهرس الكتاب

- ‌الناسخون الماسخون

- ‌إكمال ثلاثة خروم من كتاب التنبيه على أوهام أبي علي في أماليه

- ‌من خط البغدادي *

- ‌مقاليد الكتب

- ‌أدب الجاحظ

- ‌الصاحب بن عباد

- ‌أبو نواس

- ‌ضحى الإسلام

- ‌الشريف الكتانى

- ‌نابغة بني شيبان

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - كتاب "حافظ وشوقي

- ‌2 - كتاب الرثاء

- ‌3 - كتاب الخط الكوفي *

- ‌4 - صلاح الدين وشوقي *

- ‌5 - كتاب الشخصية *

- ‌6 - كتاب أمير الشعراء شوقي *

- ‌مقاليد الكتب

- ‌حاضر العالم الإسلامي

- ‌ذكرى الشاعرين

- ‌ماضي الحجاز وحاضره

- ‌الوحي المحمدي

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - ملوك المسلمين المعاصرون ودولهم

- ‌2 - ابن عبد ربه وعقده

- ‌3 - رحلة إلى بلاد المجد المفقود

- ‌4 - تنبيهات اليازجي على محيط البستاني جمعها وحل رموزها

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - أنتم الشعراء

- ‌2 - تاريخ مصر الإسلامية

- ‌3 - آلاء الرحمن في تفسير القرآن

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - ابن خلدون: حياته وتراثه الفكرى

- ‌2 - قلب جزيرة العرب

- ‌الينبوع

- ‌النثر الفني في القرن الرابع

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - ديوان عبد المطلب

- ‌2 - مرشد المتعلم

- ‌3 - مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام

- ‌ ملوك الطوائف، ونظرات في تاريخ الإسلام

- ‌الإسلام والحضارة العربية

- ‌وَحْيُ القلم

- ‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (1)

- ‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (2)

- ‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (3)

- ‌عبقرية عمر

- ‌شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة- 1

- ‌شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة- 2

- ‌شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة- 3

- ‌ جمعية الشبان المسلمين

- ‌ تاريخ اليوم الأول

- ‌ دعوة الشباب إلى الجمعية

- ‌ الاجتماع الأول

- ‌ الاجتماع الثاني والثالث

- ‌ انتخاب مجلس الإدارة

- ‌في حلبة الأدب

- ‌كتاب تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي

- ‌ عن كتاب تطور الأساليب النثرية" رد على مؤلفه

- ‌ترجمة القرآن وكتاب البخاري

- ‌ترجمة القرآن في صحيح البخاري

- ‌من أين؟ وإلى أين

- ‌لماذا، لماذا

- ‌تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات

- ‌شكر

- ‌أنا وحدى

- ‌الطريق إلى الأدب- 1

- ‌الطريق إلى الأدب- 2

- ‌فوضى الأدب وأدب الفوضى

- ‌الأدب والحرب

- ‌إلى على ماهر باشا

- ‌لا تبكوا. .! لا تنوحوا

- ‌تجديد التاريخ المصري ساعة واحدة

- ‌أحلام مبعثرة

- ‌أهوال النفس

- ‌وقاحة الأدب أدباء الطابور الخامس

- ‌قلوب جديدة

- ‌القلم المعطَّل

- ‌اللغة والمجتمع

- ‌أوطانَ

- ‌(حول قصيدة القوس العذراء)

- ‌صَدَى النقد طبقات فحول الشعراء رد على نقد

- ‌[الاستعمار البريطاني لمصر]

- ‌المتنبي

- ‌حديث رمضان. عبادة الأحرار

- ‌مع الشيطان الأخرس

- ‌ يحيى حقي صديق الحياة الذي افتقدته

- ‌لا تنسوا

- ‌عدوى وعدوكم واحد

- ‌أندية لا ناد واحد

- ‌لا تخدعونا

- ‌احذروا أعداءكم

- ‌في خدمة الاستعمار

- ‌حكم بلا بينة

- ‌تاريخ بلا إيمان

- ‌المسلمون

- ‌ لا تسبُوا أصحَابي

- ‌طلب الدراهم من الحجارة

- ‌ألسنَةُ المفترين

- ‌جرأة العلماء

- ‌أحمد محمد شاكر إمام المحدّثين

- ‌ قُرَىَ عَرَبِيَّةَ

- ‌كانت الجامعة. . . هي طه حسين

- ‌مواقف

- ‌في الطريق إلى حضارتنا

- ‌الأندلس تاريخ اسم وتطوره

- ‌المتنبي ليتني ما عرفته- 1

- ‌المتنبي ليتني ما عرفته- 2

- ‌القول في "تذوق الشعر

- ‌القول في "الشعر

- ‌القول في "التذوق

- ‌المتنبي ليتني ما عرفته- 3

- ‌تتمة القول في التذوق

- ‌قضية "التذوق" عندي

- ‌تاريخ "التذوق" عندي

- ‌من هؤلاء

- ‌قضية اللغة العربية

- ‌في زمان الغفلة

- ‌هؤلاء الخمسة

- ‌الفقيه الجليل ورموز التكنولوجيا

- ‌النكبات الثلاث

- ‌الجبرتى الكبير

- ‌الألفاظ المكشوفة في هذا الكتاب طبيعية وينبغي ألا يجهلها البشر

- ‌ذكريات مع محبى المخطوطات

- ‌[تعقيب]

- ‌كلام منقول بنصه

- ‌في الطبعة الجديدة "للمتنبى

- ‌ الجيل المفرغ

- ‌كتاب الشعر الجاهلي

- ‌هل يبقى الاتهام

- ‌تهمة أكبر

- ‌ليس شكا أزهريا

الفصل: ‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (3)

‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (3)

أفضنا في الكلمة السالفة -في ذكر الحروف الحلقية، وبدأنا بالهمزة ونظرنا بعض النظر في معناها ما هو؟ وحسنٌ أن نعود إلى استقصاء القول في هذه الهمزة وسائر الحروف الحلقية، واستخراج أكثر معانيها من الفطرة. ثم كيف هو دورانُها في الكلام العربي، ثم كيف تنزلُ عن بعض معانيها من تركيب الكلمة لدلالة أخرى تفضي إلى معنى يكون شارعًا من الأصل أو مستمدًّا منهُ أو عارضًا فيهِ، أو ليكون اعتراضها مسقطًا لبعض المعنى في حرفٍ آخر ليعادَل بهِ إلى القصد في إرادة معنى بعينِه ينشأ من اشتراك هذه الحروف الدالة في تركيب الكلمة. ويقتضينا هذا المذهب أن نسبقَ إلى عرض بعض معاني سائر الحروف العربية في مدارج القول، إذ كان الاشتراك بين هذه الحروف في الكلمة مدعاةً للبيان عن معانيها. وإذ كان ذلك كذلك، فستجد كلامنا عن هذه الحروف الحلقية مختلطًا بغيره من بيان معاني حروف أُخر من حروف اللسان العربي. وإنما أردنا ذلك اختصارًا وتخفيفًا. فلو ذهبنا ننشيء لكل حرف مقالًا لغلبنا الجهد، ولكان على القارئ أن يبقى مغموسًا في فكره في هذا الباب أشهرًا بعدد حروف العربية. ونحن إنما نجعل كلامنا هذا كالتذكرة لنا وللقراءِ في هذا العلم، ولأن ننتظر -حتى يأذن الله فيتيح لنا من الفراغ والهمة والجدة والتوفيق ما هو بعض نِعَمِه علينا وآلائهِ- أَوْلَى وأخلقُ، ولأن يكون ذلك مخبوءًا لنا حتى نضع كتابنا في "سر العربية"(1) -أحبُّ إلينا وأَجود للبيان، فإن بيان الرأي- في سعةٍ من كتاب

(*) المقتطف، المجلد 97، يونيو 1940، ص: 57 - 63

(1)

لم يُتَح للأستاذ شاكر أن يضع مثل هذا الكتاب، وليته فَعَلٌ، فقد فاتنا بذلك خير كثير.

ص: 725

يؤلَّف لغرضٍ يشملهُ- أحرى بالاستفاضة فيه من مجلة تحدّ الرأي بحدود من الورق!

ولقد علمتَ أن ضرورة الحياة الفطرية الأولى هي التي نزعت بالحرف الحلقيّ المغسولِ -المسمى في عبارة المتكلمين "بالهمزة"- أن يكونَ هو أقربَ الحروف إلى النداءِ، والتعجب، والاستفهام، والإشارة، والتنبيه، والأمر، والتحذير، وذلك لأن هذه المعاني كلها ليست إلَّا أقربَ الحوافِز التي تحفِزُ الإنسان الفطريَّ إلى إرادة التعبير، لفرط حاجته إلى كل منها بضرورة الطبع، لما يلاقيه مما يَصدِمُهُ ويتذَمَّرُ عليه من تصاريف الحياة وتخاليف الأحوال التي تُقبِلُ عليهِ فتدفعُهُ إلى نداء مَنْ يستعينه من أبٍ أو ولدٍ أو أخٍ أو زوجةٍ، أو تحمله على الاستغاثة، بالإشارة، أو الإغاثة بالتنبيه والتحذير. ثم لما يتجددُ عليهِ مما يستخرج عجَبَه أو ما ينصبُّ عليهِ مما يستغلقُ ويستبهمُ، فيجيله إلى طلب الاستفهام أو الاستنكار. ولعلك لستَ تشكُّ في أن ذلك هو أولُ ما يبدأ الحيُّ على الأرض وما يتنازعهُ من الضرورة، كما لا تشكُّ في أن أوّل مطاوع لهُ من الصوت هو ما يصوّتُ من الجوف والحلق، دون ما يكون تصويتهُ من قِبَل اللسان والفم والشفة مما هو لا يُطيع إلَّا بالمداورة والهز والتمرين والدُّربه على حركة بعينها مرة بعد مرة. وفي أصوات سائر الحيوان -خلاف الإنسان- دليل ذلك والبرهان عليه وعلى صحة مذهبنا إليه، فإن أصوات جميع الحيوان إنما هي أصوات حلقية تتردد، إلا ما كان من مثل صوت الغراب والقط والجُندب والبازى والقَطا وما إلى ذلك مما انفردَ من الحيوان والطير بحرفٍ يتردد، في مدارج نفسهِ أو منقط صوته. ثم لا يكون ذلك إلَّا حرفًا واحدًا مقاربًا، أو بعض حرفين متجانسين يتليَّن شدتهما ألفٌ أو همزةٌ مختلسة تكون بينهما فاصلةٌ.

ولما كان من أول ضرورة الحياة الفطرية أيضًا أن يلاقىَ الإنسان من الهول ما يفزعه ويخيفه وما يتعرض لهُ من الجرح والكدم في صراع غيره من الإنسان والحيوان، وما يجد بعد ذلك من الألم والشدة، ثم ما يحمله عليهِ الأَلم الممضُّ من التأوه والأنين والغيظ والحنق، ثم ما هو من دواعى الفطرة الإنسانية القائمة على الغرائز الاجتماعية كالذي يجده إذا توحّد وانفرد من الحنين والحيرة والوجد -لمَّا

ص: 726

كان كل ذلك وما إليه مما يتصل به، كان أيضًا من ضرورة الحافز الذي يستوفزهُ ويرتفع به إلى إرادة التعبير، أن ينحو به إلى أول ما يطاوع من الأصوات ويتلين ويخف ولا يحتاج إلى المداورة والتمرين.

فإذا تدبرت ذلك وأَوعبت نظرك إليهِ وفيهِ، وتلمست كل الصلات والأسباب التي تمتد بهِ إلى سائر المعاني التي تنظر إلى هذا الأصل أو تتخايل عنهُ -عرفت أنهُ لابدَّ من اشتمال كل هذه المعاني على الدلالة الفطرية التي تدلُّ بها طبيعة الإنسان على أغراضهِ الأولية القديمة. فكُلُّ ما يرجعُ أصلُ معناه أو بعض فحواه إلى هذه الدلالة، فالواجب لذلك إذن أن يشتمل على حرفِ الحلق الأوَّل وهو "الهمزة"، أو على الحرف الثاني الذي يقاربه ويشابهه ولا يختلف عنه إلَّا بضغطهٍ هوائية رفيقة هينة في جوار الحنجرة وهو "الهاء". فإذا تصرفت قليلًا على مثل هذا الأصل ترقَّيت إلى "العينِ"، "فالحاء"، "فالغين"، "فالخاء"، مقدّمًا "الحاء" على جميع هذه الأربعة الأخيرة لخفتها وسهولتها وسلامتها واقترانها بالحشرجة الحُلوة اللطيفة الرقيقة المُنْسربة في تصويتها كأهدإ انسراب وأحنّهِ وألينهِ.

فإذا صحَّ لكَ، ما نذهبُ إليه، استخرجتَ من ذلك ضرورة أن تكون جميعُ الألفاظ العربية -التي ندعى لها هذه الحكمة الشريفة: في إمساسِ الحرف والكلمة شبهًا من معاني الفطرة ودواعيها- مبينة كل الإبانة عن هذا الرأي الذي نجرى إليهِ، باشتمالها على أحد هذه الحروف الحلقية. ويقتضي ذلك أن تكون كل أدوات الاستفهام والنداء والإشارة والتنبيه والفزع والتحذير، وسائر الألفاظ ذوات المعاني المقاربة لذلك -مشتملةً على أحد هذه الأحرف ثم يكونُ منهُ أيضًا أن جميع أسماء الأصوات الدالة على صوت الإنسان والحيوان والطير والحشرات قد جمَعتْ طرفًا صالحًا منها، حين تكون هذه الأسماء -أو الأفعال- دالةٌ على حكايةِ صوتٍ حلقي يكون لهذه الخلائق. وإذن فواجبنا -بعد الذي قلناه وعرضناهُ- أن نقدّم الدليل من ألفاظِ العربية على صحة ذلك، وأنه طريقةٌ ممهدةٌ على لسان هؤلاء الناس من العرب، وأنهُ إذا كانَ ما نقول بهِ، فاللغة العربية هي حقا -على ما ادعيناه في الكلمة السالفة- أدق اللغات، وأكثرها احتفاظًا

ص: 727

بالمعاني الفطرية للحروف، وبالحركات التي لجأ إليها الإنسان الأول فقرنها بالحروف للدلالة على معنى ليس يقومُ الحرفُ على بيانِه كلهِ إذا أفردَ وحده للتعبير عنهُ.

ولقد رمينا إليك -في الكلمة السالفة- طرفًا من القول في حروف الاستفهام والنداء والتعجُّب والإشارة وما يجرى إليها من معنى الضمائر، ثم في الكلمات الثلاثية المضعَّفة التي اجتمع عليها في التضعيف حرفان حلقيان وهي"أحّ" و"أهّ" و"أخ"، ثم كشفنا عن معانيها بعض الكشف. فالآن نستقِلُّ بك إلى حروف الحَلْق المشتركة مع حروفٍ أخر من حروف اللسان. ولن نستوعَب كلَّ ذلك، فإنهُ يقتضينا -إن فعلنا- شرح اللغة كلها على مذهبنا، وهذا إن اجتمع في كتاب فجمعهُ في مقالٍ يتعذَّر مرَّة ويثقُلُ على قارئه أخرى.

فلو أخذت الهمزة وبدأت بها في قولهم: "أبَّ"، "أتَّ"، "أثَّ"، "أجَّ"، "أدَّ""أذ""أرَّ"، "أزَّ"، "أسَّ"، "أصَّ"، "أضَّ"، "أطَّ"، "أظَّ""أفَّ"، "أكَّ"، "ألَّ"، "أمَّ""أنَّ"، "أيَّ". وقد أمضينا القول على "أحَّ"، "أخَّ"، "أهَّ"، "أنَّ"، "أع"، "أغ"، "أأ" مما تجافوا عنهُ وتركوهُ وأهملوهُ لعلل ذكرنا بعضها، كما أسقطوا أيضًا "أقَّ"، وذلك لأن هذه "القاف" -كما علمت من أوَّل مقال لنا- هي الحرفُ الذي يلي مخرجهُ مخرج الحروف الحلقية، فهو الحرف الثامن بعد الحروف السبعة الحلقية المبدوء بها في ترتيبنا. فإذ كانت الهمزة أشدَّ الحروف مطالبةً بالانطلاق وحافزها أقوى حوافز الحروف الحلقية فاتباعها بالحرف الذي يدانى اللَّهاة وأقصى اللسان ويرتطم بالحنك الأعلى ويتردد فيهِ جاسيًا غليظًا متعسرًا (1)، يكون مثقلًا على النطق، ثقيلًا في السَّمْع. وأيضًا فإن القاف -هي في ترتيب الحروف الشديدة التي وصفناها لك- تلى الهمزة، وهي أول هذه الحروف الموصوفة بالشدة ثم

(1) فالهمزة تريد الانطلاق والمضى حتى تلاقى الهواء، والقاف تريد أن تقطع عليها ذلك لتستوفي حقها من المخرج ومنقطع الصوت الذي تتمثل فيه بترددها عليه، وارتداد اللسان بها وبهوائها المحصور في مخرجها ارتدادًا يعوق انطلاق صاحبتها التي تحفزها من ورائها. (شاكر)

ص: 728

الاستعلاء أيضًا. فهم لم يريدوا أن يجعلوها مفردَة في كلامهم لذلك، وقالوا "حق" و"عق" لما تعرف من صفة العين والحاء على ما يتوجه إليك من فحوى بعض كلامنا آنفا.

فنحن سنأخذ هذه الكلمات المبدوءة بالهمزة على ترتيب مُتّصل، وذلك بأن نفصّلها لك على مخارج الحروف التي تليها، فأول ذلك:

"أكَّ" فأصل هذه المادة عندنا من صوت احتكاك الأجسام اللينة بعضها ببعض لأن الكاف تمثل في النطق صوت شيئين لينين بَينَ بَينَ يزحمُ أحدهما الآخر زَحمًا شديدًا. والأكَّة في اللغة الزحمة والضّيقُ، وأكَّهُ زاحَمَهُ. وهذا المعنى للكاف ثابثٌ في قولك "حَكَّ" و"عكَّ" و"هَكَّ" الشيء سحقهُ، وهذه كلها حروف حلقية تتبعها الكاف، فإذا أنت أخذت في مثل "بَكَّ" أي زَحَم، و"تكَّ" الشيء اللين الرطب وطأه فشدخه و"دكَّ"، و"زكَّ" في مشيه قارب خطوه وحَرك جسده واحتَكَّ بها ثوبهُ، و"سَكَّ" و"شكَّ" و"صَكَّ". . . رأيتَ كل هذه تَحملُ كافُها لها معنى الاحتكاك أو تصويره أو مقاربة صوته (1) ولكنهُ في "أكَّ" و"حَكَّ" أبينُ المعنيين، لأنَّ الهمزة والحاء حرفان أصليان دالان على الأصوات الأولى التي هي أقربُ من سواها إلى حكاية هذا الصوت (2).

ثم إليك "أشَّ"، "أجَّ" والشين تحمل بطبيعتها صوتَها المتفشّى المستطيلَ المتلينَ الذي يُهمس بهِ، ويضعف لها الاعتماد في مخرجها حتى يجرى معها النفَس بين الحَنَك الأعلى واللسان مع انفتاح الشفتين مع الإمالة الخفيفة. ويلقى هذا الصوت الأذن فيمثل صَوت الحركة الخفيفة التي تكون كأنها من احتكاك

(1) اعلم أن لكل حرف معنى، وأن اشتراك الحروف ذوات المعاني في الكلمة الواحدة يسقط بعضها معاني بعض، ومصطفى من المعنى الأصلى ما يتمثل به في الحروف المجتمعة معنى آخر يجتاز عليهما أو يستمد منهما، وعلى ذلك فعليك أن تنظر إلى هذه الأحرف على الأصل الذي نحاول بيانه لك. (شاكر).

(2)

إذا رجعت إلى اللغة في معاجمها الدقيقة الواسعة، وجدت تقارب المعاني بين هذه الكلمات ظاهرًا حتى في المجاز، ولولا أن ذلك يستوعب أكثر مما نكتب هنا لأحطنا به. ولكنك إذا أردته على طريقتنا لم يباعدك ولم تخطئه. (شاكر).

ص: 729

الثوب القشيب، أو صوت وقوع الرش الخفيف من المطر، أو صوت خفيف الورق الأثيث على أشجاره إذا فيَّأهُ النَسيم المُتروّح، ويمثل أيضًا صوت الضاحك إذا انقذف نَفَسهُ بضحكةٍ خفيفة لا تبلغ القهقهة، مع انفراج الشفتين واستعلاء الشفة العُليا. وتجد أكثر هذه المعاني دائرة في "أشَّ"، "هشَّ"، و"حشَّ"، و"خشَّ" و"بشَّ"، و"نَشَّت" القدر تنش، وهو صوت غليانها، و"رشَّ" الأرض بالماءِ. و"كشَّت الحية" والمرأة أيضًا! ! كشيشًا وهو صوت جلدهما إذا حكت بعضهُ ببعض. ولذلك كُلهِ قيل في "أشَّ" أن الأش والأَشاش الطلاقة والبشاشة لما يتبع الارتياحَ والنشاطَ والخفة والضحك من الحركة التي تُسمِع هذا الصوت، وأشَّ غنمهُ كهشها، وأشَّت الشحمة إذا نشت وقطرت فسمع لها مثل هذا الصوت.

وأما "أجّ"، فمن قبل أن الجيم أجسى وأقسى وأغلظ صوتًا من الشين، واللسان بها أشد ضغطًا للهواء في غار الحَنَكِ الأ على، وصوتها جافٍ على السمع ظامئٌ لا ماء فيه ولا قطر له ولا همس يأتي من قبله -لذلك دخلت مع الشين في بعض معانيها، ولكنها خرجت من بعضها الآخر بما أَخرجها من الميزة التي مازتها عنها في مستقبل السمع. وبعد، فإن "أجَّ" هذه وما يليها من "هَجّ"، "حَجّ" و"عَجَّ" بالدعاء، و"ثجَّ" المطرُ يثجُّ سالَ فسمع صوت سيلانِه، و"هَجَّ"، و"لَجَّ" -الجيم في جميعها دالةٌ على حكاية صوت وصفناه بما وصفناه فأُخِذ منهُ "أجَّت" النار و"هجَّت" إذا اتقدت فتعالت فاستعرت فاستطارت فسمع صوت تلهُّبها الذي تمثلهُ الجيم، كما يظهر لك إذا تدبَّرتهُ وداورتهُ على المعنى الفطري للحرف (1).

وأما "أيّ" وهو اليائى الذي عددناه مع الشين والجيم في مخرج الحروف

(1) أرجو القارئ أن يعذرني في اختصار القول، فإني وأنا أكتب هذا أكاد لا أمسك النفس عن الاستفاضة، لأنى أكتب وأنا أحضّ النفس على التأمل، فتنثال على المعاني فلا أدري ما آخذ منها وما أدع، وقد ذكرت في الكلمة الأولى أن هذا بحث قديم أستثيره وأهيجه، فربما غلبني ما أجد منه على الضبط. والقارئ في هدأته يستطيع -إذا تأمل- أن يصل إلى مثل الذي يريده منا إن شاء الله.

ص: 730

الشجرية فليس هذا مكان الإفاضة في ذكره، لما تعلم مما أشرنا إليه آنفًا في بعض كلامنا من أنَنا نرى في الألف والواو والياء رأيًا نخالف بهِ ما ذهب إليهِ أئمتنا رضوان الله عليهم. وأن في سرّ تطوره من حرفٍ حلقى إلى حرفٍ شجريّ موضعًا للنظر، ومجالًا يجول إليهِ الرأي. فندعه إلى موضعه الذي يتنزل عليهِ في أوانه إن شاء الله.

وإذا درجتَ إلى "ألَّ"، رأيت اللَاّم، وهي عندنا من الحروف ذوات المعاني المتشابكة، وذلك أن اللسان معها يعمل أعمال حروف كثيرة. ولقد علمت أن مخرجها -فيما أسلفنا- هو من أدنى حافة اللسان إلى منتهى طرفه حيث يندفع إليها الهواء المقذوف من الجوف، فيحصُرُ اللسان هذا الهواء حَصرًا بين الشدّة والرخاوة في الحنكِ الأعلى مما فوقَ الضاحك والنابِ والرباعية والثنية، وعند ذلك يرتكسُ هذا الهواء المحصور في جوف الفم من كِلا جانبيه، ثمَّ إن بعض هذا الهواء يجول في ميدان كأنهُ يروم المخرج من الخياشيم وهو مخرج النون. فلذلك ترى هذه اللَاّم إذا وقفت عليها في مثل "هَلْ" و"قُلْ"، قذفت من المنخرين نفسًا خفيفًا همسًا، تنتفش معهُ الخِنَّابتان (1) قليلًا قليلًا، وكذلك تجدُها كأنْ قد أُشْربتْ من غنة النون في أكثر المنطق. وهذه الملامح الكثيرة التي اختلستها اللام من الحروف التي تليها كالنون والراء والميم، ومن الحروف التي سبقتها كالجيم والشين والضاد، هي التي راحبت من معانيها وكثَّرتها وغمَّضتها على من يروم فقهها وضبطها، وهي أيضًا التي جعلتها أكثر الحروف دورانًا في كلام العرب للطفها وضعفها ورقّتها حيث كانت -ولا تكون هذه الرقّة التي فيها إلَّا مشوبةً ببعض القوَّة والشدَّة، فهي إذن أعدل الحروف وأحسنها استواءً فلا تعتاص على باغيها. ولذلك أيضًا تجدها لا تدخلها العيوبُ التي تدخل سائر

(1) هما حرفا المنخرين -الثقبين- عن يمين وشمال من عرض الأنف، وهما وحشيا الأنف. (شاكر)

ص: 731

الحروف كالراء التي تليها، وهي تدخلها اللّثغة في لسان الألثغ فلا يستقيم لهُ معها المخرج، وإنما ينحاز الألثغ -إذا غلبته لثغتهُ من الراء إلى اللام، فاعرف هذا وتدبره وانعم نظرك له وفيهِ (1).

فالقول في "ألَّ"، "هلَّ" يفترق من القول في اللّام التي تلى سائر حروف الحلق مثل "حلَّ""وعل" ولذلك نقصر القول على "ألَّ" و"هلَّ"، فالألف والهاء هما عمدة باب الحروف الحلقية كما أمضينا آنفًا. واللام في هذا الموضع تمثيل للإلحاح والتردد والانتشار، ومعاناة للتحفز الذي يأتي بالصوت في اندفاعهِ. ألا ترى أن صوت اللام -إذا حققتهُ- شبيهٌ بالجرس الذي تسمعهُ من اصطدام شيء لين بعض اللين بشيء من مثله فيفزع سمعك إليه فتصغى له. وعلى ذلك فمعني "ألَّ" -ابتداءً يتضمن الإشارة إلى حركة مقرونة بصوت بين بين، فلا هو جاسٍ ظامئٌ ولا هو رطب ممتلئٌ بمائه. وكذلك هو في اللغة: ألّ الفرس إذا أسرع فاهتزَّ فسمع من الرمل صوت حافره إذا وقع عليها متتابعًا مترددًا، وكذلك ألّ البرق، وألَّت المرأة رفعت صوتها بالدعاء أو غيره. والأليل من ذلك هو الأنين والحنين عند الجزع، وهو خرير الماء على التربة، وهو صوت الحَصَى إذا وقع على الرمل. والقول في "هَلَّ" قريب منهُ فقالوا: هَلَّ السَّحاب وانْهَلَّ بالمطر، وذلك إذا قطر فوقع ماؤه فسمع صوت هذا الماء حين يصطدم الثرى والرمل بحباتِه في شدة انصبابِه، وتردد هذا الصوت مرة بعد مرة، ومنهُ "أهلَّ" إذا رفع صوته بالدعاء فردَّده.

فإذا صرتَ بعد هذا إلى الحرف الذي يلي اللام وهو النون في "أنّ"، حيث ينبعث الهواء المقذوف إلى الخياشيم، فيحار فيها ويتردد ويجولُ ويُسمَع لجولانه في الأنف صدًى ناعمًا تتبعه غُنة مُدَوّيةٌ باحتكاك الهواء بجدار الأنف -رأيتَ المعنى يتسلسل من اللَّام إلى النون مختلفًا في الدلالة اختلافًا بينًا مرة ومقاربًا مرة أخرى. ثم هو من أجل ذلك حرفٌ دَمِثٌ طيع مترفِّه ناعمٌ حُلو النَّغم لطيفُ الترديدِ، يسيلُ مع الهواءِ لينًا ونعومةً ورقة، لا تدركه الجفوةُ التي تعرض لسائر الحروف مع التحريك إذا حُرّك، فهو لطيفٌ مطاوع ذو نَغَم إذا حُرك أو سُكن.

(1) لا نريد أن نفيض في ذكر اللام وشرح معانيها، فإنها تأخذ من كل معنى بسبب. ولو أردنا ذلك لخرجت وحدها في أوراق صالحة لأن تفرد لها مقالة برأسها. (شاكر).

ص: 732

فهو إذن أقرب الحروف للبيان عن المعاني الشافعية التي لا تتحامل أصواتها إلى المادة وصوتها، ولذلك يدور أكثر ما يدور في الألفاظ ذوات المعاني النفسية الصافيةُ التي تذوب فيها آلام النفس وأحزانها وأحلامها وأفكارها التي لا تتكلم إلَّا لمحًا وإشارة وتلويحًا. فكذلك هو في معناه إذا قلت:"أنّ" أنينًا، و"حنَّ" حنينًا وحنانًا، و"هَنَّ" هنينًا، وهو كالحنين والأنين، وكذلك "خنَّ" خنينًا، وهو الانتحاب والبكاءُ الذي يتردد حتى يصير في الصوت غُنة من جولان البكاء في الخياشيم. وذلك كلهُ من أجل الحزن الذي لا يعبر عنهُ إلَّا بالصوت المبهم المطاوع لحركة الجسد إذا حُرك من نوازى الأحزان الداعية إلى هزّ الأعصاب وبالرجفة التي تلحقها من تنزِّيه فيها. ولكن انظر إلى "خنَّ" وتدبَّر فعل "الخاء" في توجيه المعنى إلى الشموخ والاستعلاء ورفع الصوت بالبكاء، وخشونة الصوت التي تكون في هذا الضرب من البكاء أو الضحك المشوب بالترفع والاشمئزاز، وإلى التعذُّر والمعالجة التي تجدها في البدء بالخاء. ومن أجل هذا يتباين الأنينُ والحنينُ من "الخنين" تباينًا صحيحًا في الدلالة على هذا الأنين المشوب بالصوت الذي وصفناه لك.

ونحن نقف بالقول عند هذا الحدّ الذي حدَّه الفرق الصوتى أيضًا بين النون والراء التي تليها في المخرج، ولعلك قد رضيت عن هذا الضرب من النظر، ولعلك تحمل نفسك على معاناته وتكلفه، ولعلك تجد لهُ من الطرافة والحسن واللذة، وما يجعلك تمضي في إتمام ما أسقطناه من كلامنا. فإذا فعلت عرفت لطف هذه اللغة، وملابستها للطبع والطبيعة والفطرة، وأن أصحاب هذا اللسان كانوا أرقَّ الناسِ إحساسًا، وألطفهم فهمًا، وأحسنهم تهديًا إلى المعاني، وأثقفهم لسحر الطبيعة وأنغامها ولغتها التي تجرى في أرواح الشعراء بالمعاني والأحلام.

واعلم أننا إنما أخذنا لك من أبواب الكلام في هذه الكلمات، وما يُعدُّ من أصول المادة اللغوية التي يكون الحرف دالًّا عليها، وتركنا ما هو مجاز واستعارة في مذهبنا، وإن كان أصحاب علم اللغة يعدُّونه من أصل المادة أيضًا. وإذا جاء أوان شرح المجاز من المعنى الأصلي إلى المعنى الذي انتقل إليه اللفظ بعدُ،

ص: 733

عرفت أن هذه اللغة شريفة جليلة دقيقة التركيب، مع ما تتبين في قسماتها من النبل والاستواء والاستقامة على مذهب لا يتخالف ولا يتناقض ولا يختل والله المستعان.

ص: 734