الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المتنبي ليتني ما عرفته
- 3
-
في سحيق الأزمان والآباد التي لا يعلم مدتها إلا عالم الغيب والشهادة سبحانه، كان أبونا الشيخ، آدم عليه السلام، منجدلا في طينته، حتى إذا ما نفخ الله فيه من روحه، قام على رجليه حين قام، طيع الشفتين، مطلق اليدين، ممشوق القوام معتدله، مصورا في صورة تباين كل ما يحيط به من خلقه سبحانه. قام منذ أول نهضة نهضها على الأرض، و"القدرة على البيان" بعمليها في "الإبانة" و"الاستبانة"، مودعة فيه مُعَدَّة، مهيأة للعمل من فورها، ليتلقى "التكليف" منذ أول وهلة.
هذه هي النشأة الأولى في لحظة خاطفة مضيئة، شهدها رجل واحد، ثم ضاعت وأظلمت في غمرة الآلاف المؤلفة من الدقائق والساعات والأيام والليالى والشهور والسنين والقرون الغوابر والأحقاب. أسدل عليها الحجاب، واستسرت في أعماق الأزمان والآباد والدهور السحيقة. لحظة انتهت، وانتهى بانتهائها كل ما وجده آدم في نفسه، حين أدرك نفسه، إذ أبصر وسمع وعقل واستجاب للتكليف. انقطع كل أمل أن تبقى هذه اللحظة ميراثا متجددًا حاضرا واضحا في نفوس أبنائه إلى آخر الدهر. لم يكن لنا سبيل إلى علم شيء عنها بوسيلة من الوسائل، ولولا الخبر الصادق الذي لم يبق على ظهر هذه الأرض خبر صادق غيره لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لعجز العقل عن تصورها أو توهمها عجزا قاطعا لكل رجاء. والذي نقرؤه عن "نشأة اللغة" عند البشر، بحثا عن اليقين الذي يعين على تصور هذه اللحظة الخاطفة المضيئة، موسوم كله بالقصور والبطء والتردد والتسكع، مُغلَّف كله بالغموض والعجز والحيرة وتكاثف الظلمات. ولذلك، فكل تفسير يراد به الوصول إلى حقيقة هذه "القدرة على البيان" بعمليها في "الإبانة" و"الاستبانة"، سوف يظل محفوفا بأسباب الزلل،
(*) الثقافة، السنة السادسة، العدد 63، ديسمبر سنة 1978، 4 - 17.
مهددا بالمجازفة على غير هدى. ولكن أبناء آدم عليه السلام كلما فتح لهم باب من المعرفة فتح لهم به باب من الغرور، وكلما فتح لهم باب من العلم فتح لهم به باب من البغي والجدل، هكذا نحن، إلا من عصم الله.
وأنا أحدِّث هنا عن نفسي، فمنذ بدأت قديما في تدبر هذه الآية من آيات الله في أنفسنا، لم أزل أزداد على تدبرها وتأملها دهشة متصلة وحيرة لا تنقطع. وبين الدهشة المتصلة والحيرة التي لا تنقطع آثرت منذ قديم أن لا أتكلم، لا مبينا عن دهشتي وحيرتي ولا مفسرا لأسباب دهشتي وحيرتي. ولذلك، فلم أكد أقف في مقالتي السالفة عند حديث "الإبانة" و"الاستبانة"، (وهما العملان اللذان تتولاهما آية الله فينا، وهي "القدرة على البيان") لم أكد أقف، ثم أسلم ما كتبت الى رئيس التحرير حتى عدت على نفسي باللائمة والتقريع. فأنا حين كتبت ما كتبت، لم ألتزم بأن أكتب مبينا عن دهشتى وحيرتى، أو مفسرا لدهشتى وحيرتى. ولو كنت فعلت ذلك لكان أدنى إلى الصواب، وإن كنت عندئذ قد خرجت خروجا عما ألزمت به نفسي هذا الدهر الطويل. فالآن جاوز الحزام الطبيَين كما يقال في المثل (1) وأطعت من كان ينبغي على أن أعصيه. سولت لي نفسي أن تجاوز هذا القدر الذي كان لزاما على أن أمسك نفسي عليه، فأرمى بنفسي في تيه ملتبس المعالم من النظر والاستنباط وتقرير الحقائق. ليتني ما فعلت! ولكن هي النفس!
والنفْس كالطفل، إنْ تُهمله شبَّ على
…
حُبّ الرضاع، وإنْ تَفْطِمْهُ ينفطمِ
كما يقول البوصيرى، وأنا في خلوتى لم أفطم قط نفسي عن شيء من النظر والاستنباط .. كان الأمر مقصورا على الخلوة، فالآن صرت إلى العلانية. من الذي أضل خطاى فأخرجنى من خلوتى؟ المتنبى؟ ليتني ما عرفته! ولكن،
(1) يُضْرَب عند بلوغ الشدة منتهاها. والطبى للحافر والسِّباع: كالضرع للشاة والناقة وغيرهما.