الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صاحب الكتاب طريقة جمع الوثائق التاريخية كلها. إلَّا قليلًا مما لم تصل إليهِ اليد أو ما طوتهُ الضرورة. ولعل الطبعة الثانية لهذا الكتاب ستكون إن شاء الله أوفى وأتمّ وأوسعَ، فإن نقص القليل من وثائق التاريخ يلدُ خطأً كثيرًا في التاريخ، وبخاصة قى تاريخ الحجاز الذي لم نجد أحدًا من أهله دوّن عن عصوره القريبة شيئًا يعتمد عليهِ أو يرجع إليهِ مع أنهُ مناط آمال كثير من دعاة الجامعة العربية، وموئل من موائل الحرية، ومشعر من مشاعر الله التي تضم أشتات الأمم وأخياف الناس فتؤلف بين أبدانهم كما ألَّف الله بين قلوبهم بالإيمان.
ونحن نقدّر جمع الوثائق التاريخية تقديرًا أكبر من غيره مما يكتب في التاريخ، وذلك لأن تصرُّف المعاصرين لعهد من العهود يوجّه التاريخ إلى وجوه ملتوية إذ يكون العامل المؤثر فيها هو الهوى والعصبية والميل إلى فئة من الفئات، وهذا عمل غير صالح يضع الخلف قى مضطرب واسع لا يستطيعون فيه تحقيق التاريخ على وجه الصواب. ولذلك كان التاريخ العربي القديم على كثرة الرواية فيه واضطرابها أحفل التواريخ بالمادة التي تهدى إلى الحقيقة في تاريخ عصر من عصوره. وليس يعتمد التاريخ على فصاحة المؤرخ وبلاغتهِ وحسن أدائهِ، بل العمدة فيه المادة التي يحشدها المؤرخ في بيانِه عن عصر يؤرخُه، ثم قدرة هذا المؤرخ على حسن الأداء، ودقة الوضع التي يؤلف بها بين الروايات بعد تصحيح ما صحّ منها وتزييف ما زُيف. و"ماضي الحجاز وحاضره" سيكون مادة عظيمة للمؤرخ الذي ينزع الهمة يومًا ما لتاريخ الجزيرة العربية في عصر النزاع بين الحسين وابن سعود، ذلك العصر الذي كان فاصلًا بين شكلين من الحياة والفكر، لا يزال الناس في شكٍّ من ترجيح أحدهما على الآخر.
الوحي المحمدي
تأليف الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد صاحب المنار - مطبعة المنار سنة 1352
من أجلّ النعم التي أنعم الله بها على الإنسان نعمة العقل، وأجل ما ينعم بهِ على هذا العقل بساطة التفكير والرجوع فيه إلى الحرية والإنصاف والاعتدال
والسماحة، وأسوأ ما يعترى هذا العقل من الأدواءِ التي تزيد في شقاء الإنسان، هذا التعقيد الذي يسمونهُ فلسفةً تدليسًا على العقل نفسه. والحقيقة التي يجب على كل إنسان أن يعتقدها في نفسه وقلبه أن التفكير البسيط الواضح الهادئ الجرئ المتثبّت هو أعلى درجات الفلسفة وأشرف منازل الحكمة. وكانت حكمة الأولين وفلسفتهم تعتمد في مجموعها على هذه البساطة، وذلك لصفاء القلوب وتفرُّغها لطب الحقيقة من ناحية، ثم قلة العلوم وانضمامها من ناحية أخرى. فلما اتسع العالم في الحضارة ونهض العلم واستبحر حتى وصل إلى الحالة التي نراها اليوم، اتسعت الشهوات وغلبت على القلوب وشغلتها عن طلب الحقيقة والتفرُّغ لها والتوت بها في مسالك الضلال والغيّ، وصعب على عامة الناس الإحاطة بالعلوم كلها. ثم لما ظهرت أشباه المعجزات في العلم الحديث استكبر الإنسان وأخطأ الرأي في نسبة هذه العجائب إلى قدرة العقل وحده دون توفيق الله ومشيئته، فزاغ كثير من الناس وضلوا واستفتحوا أبوابًا عن الزندقة والجحود والشبهات قلَّ أن يجدى في أغلاقها جدال أو خصومة.
وإذا نظرت إلى الأرض وجدت الاضطراب والتقلقل والحيرة مقرونة بالتهتك والفجور والبغي ووجدت سيلًا من الفتن يزأر ويخور في كل مكان، ووجدت الناس من ههنا وههنا يجرون ويدبّون ويتلفّتون كأن ليس منهم إلَّا لصٌّ أو مسلوب أو مجنون. ونعوذ بالله، فإنَّ هذا بلاءٌ عظيم لا يدرى معهُ كيف المخرج ولا أين المفرُّ. ألا وإن الأيدي موضوعة على مفاتيح العلوم، وكلما أدير مفتاح في بابهِ ثم فتح الباب وبدت العجائب لعيون الناس جدَّدت هذه العجائب فينا رغبات وشهوات تمنع القلوب من الاطمئنان والاستقرار. وكيف يطمئنُّ امرؤٌ لا يزال قلبهُ معلقًا في مدرجة الرياح الهوج ولا يزال تتناوحهُ تلك الرياح بالقوة الطاغية التي تعصف بالعالم فما تفتأ تدوى القنابل والرصاص والرعود والبروق في كل زاوية من هذه الأرض التي يقولون عنها متمدنة حرة. إن العالم ليغلي بشروره وحسناتِه على كثرة الشرور وقلة الحسنات، أفينكر هذا حيٌّ على ظهر الأرض في أيامنا هذه؟ أينكر أحد أننا على حافة ميدان قد حشدت له الأمم والعقول من كل مكان؟
أو ينكر أحد أن هذا الميدان لا يحدَّ بحدود سياسية أو حربية؟ ألا وإن القتال قد وقع في كل مكان حتى البيوت التي هي موضع الأمن في عرف الإنسانية، أو ينكر أحد أن العلم الحديث على جلالة قدره وعظم ما آتى من النعم لم يستطع أن يؤتى قلبًا واحدًا نعمة الراحة والاطمئنان؟
أخذت الأرض زخرفها وازَّينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها فلم يبق بعد الآن إلَاّ أن يعرف الإنسان أنهُ -مع قدرته على الأرض وتصريف قواها واستخراج كنوزها- غير قادر على أن يستجلب لقلبهِ ساعة من الأمن يرضى فيها عن نفسه وترضى نفسُه عنهُ. ألا وإن أهل الأرض جميعًا في هذه الحيرة لينظرون إلى الغيب نظرة اليائس الذي كان لهُ أمل ثم قطع به، ولماذا قطع بهذا الأمل؟ ذلك لأن الناس حكّموا في قلوبهم كل شهوة من شهوات المال والنساء والغلبة والفوز ولم يضبطوها بشيءٍ من ضوابط الحياة، فأصبحت الحياة كلها عدوان وتقاتل وتنابذ وشهوة. وليس للحق وحدوده بين الناس قدر تقف كل هذه الشهوات دونه، ثم ها نحن نفقد الإمام الذي يقود العالم إلى الخير والسعادة والراحة، ولا يستطاع أن يكون في كل عصر إمام يقود الناس، فكان العقل أن يكون كل امرئ على نفسه إمامًا يهديها إلى الخيرات، وليس يوجد هذا في امرئٍ إلا أن يكون عنده كتاب يهديهِ، يستجيب لأمره، ويقف مع نواهيه، ويمشي مع أوامره، ويكون هذا الكتاب هو الحق المبين الذي ميّز للإنسانية خيرها وشرها وصرَّفها على قدر من الحكمة والصواب يؤول بها إلى المحبة والرضا والحرية والسعادة والاطمئنان.
وهنا يختلف الناس بين الكتاب الوضعى الذي لا يعرف أول الرأي فيه من آخره، وذلك هو كتاب العقول الإنسانية بفلسفتها وحكمتها وضعفها واختلافها، وبين الكتاب الذي يقول عنه من يؤمن به أنه وَحْى من رب العالمين يدعو إلى دار السلام ويهدى من يشاء إلى صراط مستقيم. وليس يقع هذا الخلاف إلا من غموض أمر هذا الوحي إلى بشر من الناس تلقى إليه من ربه كلمات يبلغها للناس حتى يكونوا مؤمنين. ولا يفضُّ هذا الخلاف بين الناس إلَّا أن يستقرَّ في القلوب صدق الوحي وصدق وقوعه لمن اختير من بين البشر ليكون نبيًّا أو رسولًا يهدى
إلى الحق ويدعو إلى صراط مستقيم، ولمثل هذا قام الأستاذ الجليل الشيخ محمد رشيد رضا فأخرج للناس كتابه هذا الذي بين أيدينا عن الوحي، وعن الوحي الذي نزل على "محمد" رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ليثبت أن الوحي صدق لا يُشَكُّ فيه وأن القرآن حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وأحبُّ أن ألقى القَلَم من يدي لأن الاسترسال في نقد هذا الكتاب وإظهار حسناته وتعقب بعض كلماته التي سبق بها قلم المؤلف تغري بالإفاضة حتى يبلغ ما نكتب عنهُ مثل الكتاب الذي أمامنا، وأنه لَمِنَ الخير لكل من يطلب الحقيقة أن يدرس الوحي في هذا الكتاب فلعله يجد الحق فيقنع به ويتعلق بآياتِهِ.