الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الاستعمار البريطاني لمصر]
كلمة ألقيت في اللجنة العليا للحزب الوطني
1 -
حين دعيت إلى إلقاء هذه الكلمة بين أيديكم، كان أوّل ما فكرت فيه أن أعدّدَ أنواعَ الأخطار التي تحيط ببلادنا، والأخطارِ التي تفعَلُ في كياننا فعل السوس في العرقِ العتيق. ولست أعني مصر والسودان وحدهُمَا، بل أعني جميع بلاد الشرق، وبلاد العربِ، وبلادِ الإسلام، فنحنُ فيما أرى رقعة واحدة، لها هدفٌ واحدٌ هو الحرية، ننازلُ عدوًّا واحدًا لهُ هَدَفٌ واحدٌ، هو أن يسلبنا هذه الحرية.
2 -
ولكنّى رأيتُ الأخطارَ أكْثر من أن يحاط بها في حديثٍ واحدٍ، ورأيتُها جميعًا ترتدُّ إلى زَمَنٍ بعيدٍ، ورأيتُها قد تطوّرت أطوارًا على كرّ الأيامِ. ورأيتُ المرءَ إذا رامَ أن يقسِّم هذه الأخطار الداهمة أقسامًا كثيرةً فَعَل، وإذا أبى إلّا أن يحصرَها في شيء واحد فَعَل أيضًا غير آثم ولا مجانبٍ للصوابِ. وهذا الشيء، هو الاستعمار. فالاستعمارُ خليقٌ أن يجمعَ في هذا اللفظ البرئ من اللغة كُلّ معاني الأخطار، وكُلّ خبائث الشرور التي اجتمعت في أرض الله منذ كانت هذه الأرض، فآثرتُ أن أجعلَهُ مادة هذا الحديث، لا لأنّه شئٌ حَدَث اليومَ بعد أن لم يكن بالأمسِ، بل هو كما تعلمون قديمٌ قد تطاول عليه الأَمَد، والحديثُ عن شروره قديم أيضًا منذ كانَ هذا الخبث اللَّعين. ولم تزلْ أرجاءُ الشرقِ تردّد أصداءَ الزئير العالى، زئير الأحرار في كُلّ بقعة من بقاعه، ولم تزلْ ترجّع أيضًا أناتِ المعذبين، الذين صبّ عليهم الاستعمارُ عذابًا غليظًا ونكالًا شديدًا في كل مكانٍ. ليسَ الاستعمارُ إذنْ شيئًا حديثًا كانَ بعد أن لم يكنْ من قَبْلُ، وبيدَ أنّه شيءٌ يتجدّد كُلّ يومٍ. ويتّخِذُ صورًا مستحدثةٌ مختلفة الأشكالِ: بعضُها بَشِعٌ تنكرهُ العينُ عند النظرة الأولى، وبعضُها ثقيل بغيضٌ إلى النفوسِ، ولكنّه يلحُّ إلحاحَ الذبابِ حتى ييأسَ المبتلَى به، فيعرضُ عنه تارةً ويتجشّمُه أخرى، فإذا
(*) يوم الخميس 3 جمادى الأولى سنة 1368، 3 مارس سنة 1949. وهذه الكلمة لم يضع لها الأستاذ شاكر رحمه الله عنوانا، ولم تنشر من قبل، أخذتها من أصولها بخط يده، وجعلت عنوانهما كما ترى.
طال الزمن أَلفَ هذا البغيض الثقيل فلم ينكره. أما أخبث صوره وأخفاها فهو الذي يأتي القلوبَ من أضعفِ أركانها، فيتمكّن ويضربُ بعروقه، ويستفِحلُ ويتفشَّى، حتى لا يكادُ ينفِرُ منه أشدُّ الناسِ بُغْضًا للاستعمار، وأصدقهم حَمْلةً على أصحابه وطواغيته.
3 -
والأخطارُ الحديثة التي يشملها لفظُ الاستعمار كثيرةٌ لا يحصرها عدٌّ، وأظهرهَا الآنَ خَطَر المطامِعِ الديمقراطية التي هَبَّتْ على الشرق كالذئابِ الضَّوارِى في كُلّ أرضٍ وفي كُلّ ميدانٍ. وَخَطَر المطامع الشيوعية التي تَتَدسَّسُ إلى كُل قلبٍ، فتلقى فيه فتنتها، وتنفث فيه سُمُومها، ومن البلاءِ أن تجدَ كثيرًا من الناس لا يزالون يؤمنون بأنهم سوفَ ينالون خيرًا كثيرًا -أو بعض الخير على الأقل- على يد الفئة الديمقراطية، وأن تجد آخرين لا يزالون يؤمنون بأن الفئة الشيوعية لا تضمر كبيرَ شرٍّ لهذه البقعة المسكينة من بلاد العرب أو بلاد الإسلام أو بلاد الشرق. وهذا الضربُ من الإيمانِ، بل هذا الضربُ من الغَفْلَة، كان منذ قديم أكبرَ مَقَاصد الاستعمار، سَعَى إليه، ولا يزال يسعى إلى الإكثارِ منه، وإلى تزيينه عند الجَمَاهير، لا عند الطبقة المثقَّفة وحسبُ. ولقد أدرَكَ الاستعمارُ ما شاءَ من هذا المقصد، فمن أجل ذلك رأيتُ أن أَصرف وجه الحديث إلى ناحية من نواحي الاستعمار، أراها أجدَرَ بالبيانِ وبالفَهْمِ، وأرى التقصير في بيانها وإفهامها لجماهير الناسِ، هو الخطر الحقيقي الكامن، وراءَ خطر الديمقراطية ووراءَ خطر الشيوعية، أو وراء خطر الاحتلال العسكري السافر، أو خطر الاحتلال الاقتصادي الملثم، بل هي مادّة كُلّ خطرٍ يتجدّد علينا إلى أن يزول الاستعمارُ عن وجه هذه الدنيا.
4 -
إنّ في الاستعمارِ فضيلةً واحدةً هو أنه شيءٌ بشِعٌ بغيضٌ، لا يشُكُّ أحدٌ في سوء مغبَّته إذا مَسَّه، أو توهَّم أنه سوف يمسُّه، وأنَّه كُلُّه لا يستطيع أحدٌ أن ينبرى للدفاعِ عنْه، وأنّه خَبَثٌ سافرٌ، لم يتيسَّر لأدْهَى الناسِ أنْ يذكرَه مصرِّحا باسمه، ثم يزعمُ أنه خيرٌ من بعضِ نواحيه، أو أن يحسّنَه جَهْرَةً في عيون الناس. وإذن فالاستعمارُ مكفيُّ الشرّ من هذه الناحية، وهي فضيلةٌ تُذْكَرُ له بالخيرِ.
5 -
نعم، لم يستطعِ المستعمرون أنفسهم حين دخلوا البلاد التي استعمروها، أن يقولوا للعالم، أوْ أن يقولوا لأهل البلاد التي ابتُلِيتْ بهم: لقد جئنا نستعمركُمْ، أو لقد جئنا نحتلّ بلادكمُ. كلّا، بل اخترعوا للتدليس على أنفسهم شيئًا سَمَّوهُ "عبءَ الرجُل الأبيض"، أنفةً من خَسَاسة مَا يرتكبون. ثم قالوا بلسان السياسة: إنّما جئنا لإنقاذ هذه البلاد من الفوضى، أو جئنا لتخليص ذلك الشعب من الجهل والفساد، أو جئنا لرفع ظُلْم المهراجات أو الباشوات أو الطبقة الحاكمة عن الشعب الفقير المضطهد، أو جئنا لترسيخ دعائم عرشٍ تزعزعه الثورات والفتن، أو جئنا لحقٌ بسيط جدًّا أو واضح جدًّا، هو الحقّ المكتسب في حماية طريق الإمبراطورية. هذا هو الأسلوب القديم الذي كان المستعمرون يعبِّرون به عن عواطفهم النبيلة، وعن الحوافز السامية التي تدفعهم إلى ارتكاب الخيراتِ واقترافها - كارهينَ أو رَاضين.
6 -
كان الاستعمارُ يومئذ في أوائل أمره، وكان المستعمرون يعرفون أتم معرفة أن الشعوب التي ابتُلِيتْ بهم سوف ترى استعمارهم سافرًا كما هو، لأنه كان يأتي عقب الغزو الحربى، ولأنه كان يقوم يومئذ على الاحتلال العسكرى الطاغِى وحده. وكانوا يعلمون أنهم مهما قالوا في تسويغ هذا الاحتلالِ، ومهما زيَّنوه بهذه العواطف الرقيقة والمقاصد النبيلة، فلن يجدوا من الجيل الذي شهد قارعة الاستعمار تحلُّ به إلّا عاطفةً واحدةً، هي النفورُ من هذا المعتدى على حريته، الغاصب لبلاده، المتسلّط في أمره بقوّة السلاح والإرهاب. ويعلمون أيضًا أنّ هذا الجيلَ سوف ينطوى على نفسه صابرًا مرابطًا، يترقَّبُ الفرصة للانتقاض على من احتَلّ بلاده، ويجمَعُ الأحقادَ في قلبه على الطاغى المستبدّ، ويُوَرِّث أبناءه هذه الأحقاد.
7 -
ولو أصرّ الاستعمار البريطاني -مثلا- على أن يَظلّ احتلالًا عسكريًّا مجرّدًا منذ سنة 1882، لظلَّ الناسُ يجمعون له من الأحقاد والأضغان، ما كان خليقًا أن يقوّض أركانَهُ في أقل من خمسين سنة، ولم يُغْنِ عنه يومئذ "عبْء الرجل الأبيض"، ولا سائر العواطف النبيلة التي دخل من أجلها هذه البلاد.
ولو ظل هذا الاستعمار سافرًا كيوم جاءَ، لظلّ الصراعُ بيننا وبينه سافرًا أيضًا، ولا انتهي إلَّا إلى أحد أمرين لا مناص منهما: إمّا أن يقضى علينا جميعًا، وإمّا أن نقضى عليه نحن جميعًا. والأمر الثاني هو الذي لا شكّ فيه، لأنه مصيرُ الاستعمار في كُلّ أرضٍ نُكبتْ به. بيد أنَ الاستعمار البريطاني -وهو رأسُ الاستعمار وحاميه في العالم كُلّه- أخبثُ من أن يظَلَّ ثابتًا على حالٍ واحدةٍ، يعلم أنّها تحشُد عليه الضغائن والأحقادَ، وتفضى به إلى هذا المصيرِ المحتوم. فماذا فَعَل؟ وكيف دبَّر وقدّر؟
8 -
والإجابة على هذا السؤالِ القصيرِ من أعسَرِ الأشياء، لأنّها لا تتعلَّق بفترةٍ قصيرةٍ من الزمن، ولا بشَئ أو شيئين من أمور السياسة، بل هي تشمل أَقْصى ما تتخيَّل من الأشياء، وعلى أطولِ فترةٍ من الزمانِ، وأنا في حيرة تجعلني لا أستطيعُ أن أصوّر لكم في هذه الكلمة كُلّ ما يتمثل في صدري من أساليب الاستعمار، ولا أن أجمعها على ترتيبٍ أستحسنُه وأرضَى عَنْه. ولكني أذكر لكم أمرينِ أضمرهما الاستعمارُ البريطاني منذ وَضَع قَدَمَه في أية أرضٍ، وهُما فِعلُ الزَّمَن، وفِعْلُ الشهواتِ خيرها وشرّها. فهو يستعين بالزمن على الأمم، يطاولُها ويراوغُها، ويضربُ الضربة القاتلة ثم يسكنُ حتى تسكنَ النفوس، ثم يعودُ فيضربُ الضربة الأُخْرى ويكمن. وهكذا دواليك حتى يَصِل إلى الغاية التي ينشدها على مرّ الزمن. وهو يستعين بشهواتٍ الأفراد والجماعات على مرّ الزمن وتطوُّره، ويعطيها بقَدَر، ويحرمُها بقدَرٍ، حتى يستطيع على مرّ الزمن أيضًا أن يتحكم في توجيهها إلى الغرض الذي يَرْمِى إليه.
9 -
ولقد علم الاستعمارُ منذ أول يومٍ أن الاحتلالَ العسكرى السافِر إن هو إلّا جبروتٌ يُفْرض على الناس فرضًا، ويصبُّ عليهم صَبًّا وهو إذن سئ المغبّة. فهو يرتكبه إلى حين، على أنه اضطرار وشرٌّ لا مناص منه، ثم يجهد جُهْدَه خلالَ ذلك أن ينشيء نظامًا تامًّا يكفُلُ له البقاء الثابت بغير حاجة إلى إظهار الاحتلالِ في أبغضِ صُوره وأظهرها، وهو الاحتلال العسكرى المحض، لكي يتفادّى اشمئزاز النفوس وانطواء القلوب على الأحقاد والبغضاء. وهو ينشيء هذا النظامَ على
مراحِلَ، وعلى أوسع نطاقٍ يتصوره الناظرون، وبأخبث الأساليب التي تخطر على النفس الإنسانية. إنه نظامٌ يتعلَّق بالسياسة، كما يتعلّقُ بأساليب الحكم وبضمائر الحاكمين، ويتعلَّقُ بالمعاملات بين الناس، كما يتعلَّقُ بأخلاق الجماعات والأفراد، ويتعلّق بأعمال الناسِ في الحياةِ من تجارة وصناعة وزراعة، كما يتعلَّقُ بأفكار الناسِ في شئون العَقْل من علم وأَدبٍ وسياسة وفنّ، ويتعلّق بمعايش الناسِ في بيوتهم ومجتمعاتهم، كما يتعلّقُ بأهوائهم وشَهَواتهم في هذه الحياة، ثم يتعلَّقُ بآثار ذلك كُلّه في تدمير شعبٍ بأسره تدميرًا منظَّمًا لا يعرف إنسانيَّةً ولا شرفًا ولا كرامة. فهذا النظام كما ترون لا ينتهي إلى أسلوب من أساليب الحكْم في البلاد، بل ينتهي إلى أبشعِ غايةٍ في هذه الدنيا -إلى جمهور مسكين تُسَلَّطُ عليه كُلّ ألوان الفساد والانحلال، يأتيها طائعًا مختارًا حينًا، وراغبًا متحمّسًا حينًا آخر، وهو لا يدرى أن ما يأتيه هو البلاءُ الأعظم والشرُّ المستطير- بل أفظَعُ من ذلك إذ يمضِى الزَّمنُ فإذا الجمهور يعدّ ذلك الشرَّ خيرًا يحرصُ على إتيانه، ويظنُّ من ينهاهُ عنه أو يزجره، هو الكاره له، وهو عدوّه الذي يبغي له الغوائل، ويرى الناصح المشفق دسيسًا عليه يريدُه أن يتأخر وهذه الدُّنْيَا من حوله كُلَّها تتقدَّم. وأنا لا أرتاب في أن الجماهير مهما فعل بها الاستعمار، لن تفتأ مخلصة في بُغْضه، ومخلصة في حبها لأوطانها -ومع ذلك فهي لا تفتأ تسيرُ أيضًا في أخفي طرق الاستعمار وأوغدِها، تسيرُ فيها لأنها طرقٌ تزيُنُها الأهواءُ والشهواتُ، فلا تبصر فيها إلّا ما تحبُّ وما تشتهي. ومن للجماهير بأن تملك أهواءها وشهواتها، وليسَ لَهَا يومئذٍ هادٍ يعصمُها من مهالك هذه الأهواء والشهوات.
10 -
هذه هي الدُّروب التي سلكها الاستعمار إلى تحقيق شرور كثيرة، ثم انتهى إلى شر منها، بل إلى الشرّ الأكبر -إلى أبناء المضطهدين، وإلى سلالة المعذَّبين، وإلى فرائس الغاصبين، فإذا هم يجاهدون في أن يرفعوا عن أنفسهم وعن أبنائهم آصارَ الاستعمار، وفي أن يميطُوا عن بلادهم شرَّه وشَناعته، وفي أن يدفعوا عن أعراضهم ذُلّه وعارَه- وهمْ في الحقيقة أعوانٌ له، وهم خدمٌ لدعوته -بل هم شرٌّ من ذلك، هُمْ معاول هدْمٍ يهدم بها الاستعمارُ كيان أمّتهم وشَعبهم
وبلادهم، ويهدمُ أركان الحرية في كُلّ عمل وفي كل مكانٍ- ولكنهم مع كُلّ ذلك يظنُّون أنفسهم سَواعِد تبنى لا مَعَاول تهدم.
11 -
وقد استطاعت أمّ الاستعمار، أم الخبائث -بريطانيا العظمى- أن تجمعَ في احتلالها لبلادنا من ألوان الخداع والتغرير والنفاق والعبث بالضمائر والنفوس ما لم تجمعه لأمة غيرنا. فمن الخيرِ لنا أن ننظر في تاريخنا إلى أساليب الاستعمار كيف كانت، وما هي الغايات التي سعى إلى إحرازها، وما هي الأحوال التي جاهد في سبيل إيجادها، حتى تيسَّر له أن يخفّف صور الاحتلال العسكرىّ الذي يملأ عليه القلوبَ نقمةً ومرارة، فذلك أحرَى أن يعصمنَا من الزلل في تفسير سياسة الاستعمار، وأن يعصمنا من طريقٍ وبيلةٍ نسيرُ فيها إلى هوَاه -عُمْيًا ونحنُ ندّعى لأنفسنا الإبصار، أو يَجْعَلُنا نخرّب بيوتنا بأيدينا ونحن نظن أننا نعمّرها. ودراسةُ هذه الأساليب هي خلاصة المحنة التي مَرَّتْ بنا، يجبُ أن نعرفها تمامَ المعرفة، ويجبُ على كُلّ منّا أن يذكرَها في كُلّ ساعةٍ وأنْ يقرأ على هُدَاها كُلّ خبرٍ، وأن يطبّق فحوَاها على كُلّ ما يرى وما يَسْمع، ويجب أيضًا أن يذيعها بين الناس في كُلّ مكانٍ، وبين كُلّ طبقة من طبقات الشعب. فهي تفسّر له ولنا هذا البلاء الذي نعيش فيه اليوم، وهي التي تقينا كل فتنة جديدة من فتن هذا الاستعمار.
12 -
دخلتْ بريطانيا بلادنا غازية في سبتمبر سنة 1882، وادَّعتْ أنها جاءت لكي توطّد لنا أركانَ عرشنا، وتطفيء نار الفتنة العرابية كما يسمّونها، وزعمتْ أن بقاءها لن يطول، وأن مصيره إلى الجلاء القريب. بيد أن بريطانيا المستعمرة انتهزت الفرصة الأولى لتضرب ضربة حاسمة، فلم تمض خمسة أيام على دُخُولها حتّى ألغت الجيش المصريّ، ومزّقت البحرية المصرية، وأغلقت مصانع السلاح، وسرّحت الجنود، وجرّدتْ الضباط الصغار من رتَبهم، وقدمت كبار الضباط للمحاكمة، ووضعت الشرطة كُلَّها تحت سيطرتها المباشرة، وتتبَّعَتْ الأحرار الذين اشتركوا في الثورة، فقبضت عليهم أو شردتْهم، حتى يخلُو لَها الطريق، فلا يجدُ الشعبُ من يستجيشه إلى الانتقاض عليها. هذه هي الضربة
الأولى، ضربةٌ سريعةٌ تستعين بريطانيا بالزَّمن على نيل غايتها منها -وهي أن لا يكون لمصر جيش إلّا صورةٌ من الصور، وأنتم تعلمون كيف تم هذا، وإلى أي مدّى وُفِّقت بريطانيا في تحقيق غايتها إلى هذا اليوم.
13 -
نظرت بريطانيا بعد دُخُولها، فإذا هي أمامَ شعبٍ هُزِم في معركةٍ كان يشتركُ فيها شِيبُه وشُبَّانه وفقيرُه وغنيُّه، وجاهِلُه وعالمه. فلا قِبَلَ لَها بأنْ تصدمَه صدمةً واحدة بإظهار الاحتلال العسكرىّ الصَّارِخ في أبغض مظاهِرِه، خشيةَ أن يثورَ بعد قليل ثورة جائحة. ولكن لابُدَّ من إضعافِ ثِقَة هذا الشعبِ بنفسه وبرجاله وبحكَّامه دون أن يجد غضاضةً مُرّةً تشمئزُّ منها النفوس، ولابُدَّ من أن يأتي ذلك على مراحِلَ، وأن تستمرَّ هذه المراحِل حتى تظفر بالسلطة كاملةً غير منقوصة. فتظاهرت بريطانيا بالعفّة عن الاستيلاء على مقاليد الحكْم كاملة، ونصحت توفيق بأن يستدِعي رجُلًا -كان منذ سنةٍ واحدٍ- فيما يعرف الناسُ جميعًا، نصيرًا لعرَابى باشا، إذ جاءَ على إثر ثورة الجيش، فتولّى الوزارة بمعونة العرابيين، وتحقّق على يديه كثيرٌ مما يريدون، وهذا الرجُل هو شريف باشا. وأرادتْ بريطانيا أنّ تختار هذا الرجل بعينه، لأن الشعب كان يعرفُه، ويعرف إخلاصَهُ لبلاده، وحبَّه لخيرها، وإشفاقَه عليها. وعلمتْ بريطانيا أنَّه لن يتردّدَ طويلًا إذا استدعِىَ في هذه المحنة الماحقة، لأنه سوفَ يظنُّ أنه مُسْتطيعٌ أن يدفعَ بعض الشرّ عن بلاده. فإذا جاءَ فمجيئُه يسكّنُ ثائرة النفوسَ الجامحة، ويجعلها تصبِر حتى تنظُر ماذا يفعل، ومجيئُه أيضًا يخفف وقع الاحتلال العسكرىّ، وسيقول الشعبُ: هذا رجُلٌ كان قريبًا إلى عرابي يتعاونُ مع الغُزَاة، إذن فلعلَّهم راحلونَ ولعلهم أرادوا بعضَ الخير كما يزعمون. ويأتي شريف في أغسطس (1) سنة 1882 ليتولّى الوزارة، معلنا في كتاب تأليفها أنّه جاءَ وغايته صيانة البلاد "ونجاحُ الوطن ماديًّا وأدبيًّا، وتعميم المعارف، ونشر لواءِ العدالة، وتوسيع نطاق
(1) لابد أن يكون توليه الوزارة متأخرا عمَّا ذكر الأستاذ رحمه الله، لأن الاحتلال الإنجليزي لمصر تم في 14 سبتمبر 1882.
المبادئ الحرّة الملائمة لهيئتنا الاجتماعية والسياسية" يعني "مجلس النواب" و"الدستور".
وقد خُدِع شريفِ بنفسه وببريطانيا، فقد ظنّ أنه يستطيعُ أن يفعل شيئًا، وأضمرت بريطانيا أن تبدأ بتلويث هذا الرجل الذي كان نصيرًا لعرابي أو نصيرًا للدستور -كما يطلبه عرابي- وأستطيعُ أن أقولَ إنّ شريفًا كانتْ فيه غفلةٌ شديدةٌ، لولاها لقاوَم بريطانيا بدلًا من أن يتعاون مَعَها على يد الخديو الذي زعمت بريطانيا أنها جاءت تثبت له دعائم عرشه. وظلت بريطانيا تطوى الرجَل وتبسُطه سنة ونصف، حتّى جاءت الساعة، فإذا هي تستطيع أن تستغني عنه وأن تسقطه من حسابها جملةً واحدة. ولكنْ بعد أن تعاون مَعَها، وبعد أن ألف الشعبُ تعاونه معها، وبعد أن رَجَا الشعبُ أن تُرْفَع عنه نقمة الاحتلال على يد هذا الرجل الذي عارضَ الخديو وعارضَ عرابي، وبقي مع ذلك موضع ثقتهما في الأزمات. ففي 7 يناير سنة 1884 رفض شريف إخلاء السودان كما طلبت بريطانيا، فإذا وزير خارجية بريطانيا "جرانفيل" يرسل برقية إلى مصر هي أغرب بل أوقح برقيّةٍ في تاريخ الحياة السياسية المصرية يقول فيها:"من الضروريّ أن يتخلّى عن منصبه كل وزيرٍ أو مدير لا يسيرُ وفقًا لسياسة بريطانيا". وتؤكد البرقية أيضًا "أن حكومة جلالة الملكة -البريطانية طبعًا- واثقةٌ من أنّه إذا اقتضت الحالُ استبدال أحد الوزراء، فهناك من المصريين، سواءٌ من شغلوا منصب الوزارة، أو شغلوا مناصبَ أقل درجةً -من هُمْ على استعداد لتنفيذ الأوامر التي يصدرها إليهم الخديو، بناءً على نصائح حكومة جلالة الملكة"، استقال شريف غضبًا للسودان، ولكنه طُردَ في الحقيقة طردًا لا كرامة فيه، وخرجَ لم يَفْعَل شيئًا مما كان يرجوهُ الشعب، وخابَ رجاءُ الشعبِ في رجُلٍ من رجالاته، وبقى شريف ساكنًا لا يستطيع أن يحرّكَ سكونَ هذا الشعب المسكين، وانزوى بين جدران بيته.
14 -
ويبدأ الفصلُ الثاني من المسرحية التي يرادُ بها إذلالُ الشعبِ وتوهينُ عزمه، وتبديدُ ثقته في رجاله. فيستدعى رياض باشَا إلى تأليف الوزارة، ولكنه
يأبَى، لا لأنه ممن يؤمنون بمقاومة الاحتلال، أو من الذين يعملون عملًا صادقًا في مقاومته، بل لأن مسألة السودان "بَغْى ظاهر لا يستره شيءٌ".
15 -
ويأتي الفصل الثالث، وترى بريطانيا أن خروج شريف وإباءَ رياض، لم يُثرْ غضبة هذا الشعب الذي غاب عنه أَحرارُه وأسودُه. فتتعمَّد إذلالَه إذلالًا سافرًا لترى ما وراءه. وتأْتى بأرمنىّ خبيثٍ، ممن ابتليت بهم مصر كما ابتليت بسائر الأجانب. فيتولّى وزارة مِصْر نوبار، ويقضى في السودان بما تُرِيد بريطانيا، وتجدُ بريطانيا شعبًا ساكنًا لا يغيّر عليها ولا يثورُ. فتلقى حَبْلَ هذا الأرمنىّ على غاربه، يعيث ما شاءَ أن يعيث في وزارته من يناير سنة 1884 إلى يونية سنة 1888. ويختلفُ هذا الأرمنى مع توفيق لأسبابٍ تافهة، فيستقيل، ولا تبالى بريطانيا أن تنصر من نَصَرهَا وسار في خدمَتها. ولماذا؟ لأنها لا تأمن أن يطولَ إذلال الشعب بهذا الأرمنى، فتسوء العاقبة. ثم هي تريد ما هو أفْعَلُ من مجرّد الإذلالِ -تريد أن يشهَد الشعب المسرحية التامة التي تفقده ثقته بنفسه وبرجاله.
16 -
ويبدأ الفصل الرابع. هذا الذي انتصر لشريف في مسألة إخلاء السودان ورفض الوزراة أين هو؟ لقد مضى على هذا الإخلاء أربع سنوات، لعله نَسِىَ، ولعلّه لا يرى الآن بأسًا في قبولها، ولعلَّه يظنُّ كما ظنّ شريف أنه سوف يرفع عن بلاده شيئًا من هذه الغاشية، وأن يردّ عنها بعض شرور الاحتلال، بالتعاون مع الاحتلال. وصدق حدسُ بريطانيا، فإذا رياض باشا لا يأنفُ أن يؤلف الوزارة، مغالطًا نفسه، ومغالطا عيون نَظّارة الشعب. ويظل رياض ينزلق في هَوَى بريطانيا الخفي وكيدها المسموم، ويلوّث نفسه تارة ويَغْسِلُها أُخرى، ويتورطُ في أشياء تضرُّ مصْر، فتكافئه بريطانيا بأن تأذن له في عمل يقابله يظنّ أن فيه مصلحة ظاهرة لمصر ويسمرّ يفعلُ ذلك، وتستمرّ بريطانيا في كيدها له ولشعب مصر من يونية سنة 1888 إلى مايو سنة 1891. وذلك حين جاءه الأمرُ الملزم بتعيين مستر سكوت مستشارًا قضائيًا. فينفر رياض من هذا العدوان، ويأبى ويصرُّ على الإباءِ، ثم يلين على مضضٍ، ثم يستسْلِمُ، وتكرهُ بريطانيا هذا التلكؤ، فهو كان خليقا أن يعلم كما علم شريف من قبل، أن برقية جرانفيل توجب على الوزراء وغير الوزراء أن يسمَعُوا ويطيعُوا. ولقد صبرت بريطانيا عليه ثلاث سنوات حتى
يتمَّ تلويثه، وإظهارُ عجزه على عيون الشعب. وقد تم لها ما أرادت وإذن فليستقل، فاستقال بعد تعيين سكوت بثلاثة أشهر، وانزوى كما انزوى شريف من قبل.
17 -
لقد مضت الآن تسع سنواتٍ على هذه المسرحية التي يشهدها الشعبُ ليستكين ويخضَع. ولم تجد بريطانيا أثرا ظاهرًا لتلويث هذين الرجلين وامتهانهما، ولم تجد شعبًا ينكر إذلاله بهذا الأرمنى نوبار، وإذن فقد آن الأوان للإتيان بمصري آخر كانت بريطانيا تعلمُ أحسن العلم أنه يرضى كل الرضى بالسعى في خدمة بريطانيا العظمى مهما كلّفه هذا السَّعْى، وأنه سامع لها ومطيعٌ كما تشاء وفيما تشاءُ. ولقد كانت تستطيع أن تفرضه منذ أوّل يوم دخلت فيه مصر، ولكنّها لم تفعلْ، لأنه ذخيرةٌ ادَّخرتها حتى تتمَّ معالجة هذا الشعب وترويضَه على قبول الواقع، وبعد أن يفقدَ بعض إيمانه بجدوى المُقَاومة، وبعد أن تطمئن إلى أنّها بلغت الغايةَ في اختبارِ إرادته وثقته وعزيمته. ويبدأ الفصل الخامِسُ من المسرحية، فيؤمر مصطفى فهمي، وزير الاحتلال الأعظم، بتأليف الوزارة في 14 مايو سنة 1891. وهذا الرجل هو الذي قال فيه ملنر "إنّه أول رئيس للوزارة المصرية يشارك الإنجليز عواطفهم غير متحفّظٍ". وكانت بريطانيا تستطيع كما قلتُ أن تفرض هذا الرجل على مصر منذ أول يوم، وكانت تستطيع أن تجعل حُكْمها في مصر حُكْمًا مباشرًا على يده! نعم كانت تستطيع، ولكنّها لم تكنْ تريد، لأنها تنظر إلى المستقبل البعيد، وتهيئ لهذا المستقبل كل الأسباب والأحوال التي تؤازره على البقاء الطويل، طبقًا لما ترسمُه وما تريده.
18 -
ثم حدث شيءٌ لم يكُنْ في حسبان بريطانيا، فخرج منه شيءٌ جعلها تعرف أنّها أخطأت في حسابِ هذا الشعب وفي تمييز قُوَّته وعظمته وكوامن نفسه. مات توفيق في 7 يناير سنة 1892، وفي عهد وزير الاحتلال مصطفى فهمي، وولى بعده عباس الثَّانى الشابُّ. وظلّ ساكنًا سنة كاملةً، حتى إذا مرض مصطفى فهمي في 5 يناير سنة 1893 أرسل إليه يحرّضه على الإستقالة مراعاة لصحّته، فيردّ وزير الاحتلال بأنه سيفكّر في الأمر، وأنه خير لسموّ الأمير أن
يستشير اللورد كرومر، فيغضب الخديو الفتى، ويرسل إليه كتابا بإقالته، ويأمرُ حسين فخرى بتأليف الوزارة في 15 يناير سنة 1893 وتتألّف الوزارة، وإذا كرومر يأتي في 17 يناير بعد يومين يحمل إلى الخديو برقيةً من وزير خارجية بريطانيا، يُعارض في تعيين فخرى باشا، وتذكر حَقّها في اختيار الوزراء طبقا لما تأمر به برقية جرانفيل. وتحدث الأَزمَة، ويعاند الخديوى ويصرُّ على حقوقه، ويشيع الخبرُ في الناس، فإذا الشعبُ كُلَّه يهبُّ هبَّةً واحدة حتى الموظَّفون، ويمضي إلى سراى عابدين وفودًا بعد وفودٍ مؤيدّة للخديوى في موقفه. ويومئذٍ استيقظت بريطانيا، ولم ترد أن تتراجع، وآثرت أن تعودَ إلى الحزمِ مَرّة أخرى، وتشبثت بإقالة وزارة فخرى باشا وسترًا لانهزامِها أمام سخط الشعب. وأرادتْ أن تترضّى الناسَ، وهي تطوى الغيظ عليهم والتربُّصَ بهم، فاستبدلتْ بفخرى باشا رياض باشَا مرّةً ثانيةً، ليمثل الفصل السادسَ من المسرحية المهلكة، وذلك في 19 يناير سنة 1893. وظلّ رياض سنة كاملة في الوزارة، وبريطانيا تتربّص. ففي 18 يناير سنة 1894 سافر الخديوى في رحلته إلى وادي حلفاء، وعرضت فرقة من الجيش المصري يتولاها بريطانى، فلاحظ بعض النقص في نظامها وتدريبها، وانتقد نظام الجيش كله، فثار كتشنر وعدّها إهانة له وللكرامة البريطانية، وثارت معه بريطانيا كلّها وطلبت الحكومة البريطانية أن يعتذر الخديوى، وخاف رياض فنصح الخديوى بالاعتذار، وقد كان، طلب رياض، ولكن الخديوى أسرّها له في نفسه، ويبسَ الثرى بينهما، فاستقال رياض.
19 -
كان هذا الحادث قَتْلًا للروح التي ظهرت في الشعب عند إقالة مصطفى فهمي، وظَهَرَ له جليًّا أن الخديو أيضًا لا يستطيع شيئًا أمام هذه القوة القاهرة، وعرفت بريطانيا أثر ذلك في الشعب، فأسرعت بفرض وزارة نوبار باشا في 16 إبريل سنة 1894، ليعود لإذلال الشعب مرّة أخرى، وإرغامه على التسليم بقوة بريطانيا التي تعزلُ من تشاء، وتوَلّي من تشاء. ولم يلبث نوبار أن فَرضَ تعيين أول مستشار بريطانى لوزارة الداخلية، صارت له الكلمة العُلْيا في الوزارة وعَيَّن المفتشين الإنجليز، وكاد يلغى سلطات المديرين المصريين. وردًّا
على فعلة الخديوى، أنشئت المحكمة المخصوصة التي تحاكم من يتعدّى على ضباط جيش الاحتلال وجنوده. وكان ختام الفصلُ السابع من المسرحية، أن اشتدّ الخلاف بين عباس ونوبار ولكنه أبى أن يستقيل، فلجأ عبّاس إلى كرومر يحتالُ على إقالة هذا الأرمنى برغبته في إعادة مصطفى فهمي وزير الاحتلال. فاستقال نوبار في 11 نوفمبر سنة 1895.
20 -
وفي اليوم التالى بدأ الفصل الأخير من هذه المسرحية، وتولّى مصطفى فهمي وزارةً تدومُ من سنة 1895 إلى سنة 1908، أي دامت أكثر من ثلاث عشرة سنةً، يشارك رئيسُها الإنجليز عواطفهم غير متحفظٍ.
ولست أشُكُّ لحظةً في أن السياسة الاستعمارية، لو أرادت أن تحكم مصر حُكْمًا مباشرًا بالاحتلال العسكريّ لفعلتْ، ولو أَرادتْ أن تفرضَ منذ دخلت وزيرًا واحدًا يقضى بقضائها كما تريد لفعلتْ أيضًا. نعم، ولكن لم يكنْ يعني بريطانيا شيء، بقدر ما يعنيها تثبيطُ قُوَى الشعب الكامنة، وترويضُه على قبول فكرةٍ واحدة، هي أنه لا خير في مصادمة الاحتلال أَو مقاومته، فلجأتْ إلى تمثيل هذه المسرحية الطويلة التي دام القسم الأول منها ثلاث عشرة سنة في تقليب الوزراءِ على أعين الشعب، ودامَ القسم الثاني ثلاث عشرة سنة أيضًا بوزير واحدٍ تأمُرُه بريطانيا فيطيعُ. وفي خلالِ ذلك تتمُّ ثلاثة أشياء -الأوَّل أنْ يَظْهر سلطانُ بريطانيا القاهر في الحُكْم، وفي الحاكمين- والثاني أن يَفْشو تحكُّم البريطانيينَ في الدَّوَاوين وفي الحياة العامة -والثالث، أَنْ يجهَلَ الشعبُ جهلًا تامًّا تَفَاصِيل ما تضمرُهُ بِرِيطانيا من خفايا سياسَتِها. وقد استطاعتْ أن تحقق ذلك كُلّه على يد كرومر، وبغفلة الرِّجالِ الذين تولّوا الحُكْم تحت سلطانها مِن المخلصين، وبخيانة الوزراء الخَوَنَة الذين راضوا أنفسهم على الطاعة المطلقة، وعلى كراهة هذا الشعبِ.
21 -
ستٌّ وعشرون سنة أيها الإخوان من سنة 1882 - 1908، أمّةٌ حائرةٌ أذهلتها مفاجأة الاحتلالِ ومفاجأةُ الهزيمة، أمّةٌ أصبحت ولا جيش لها، أُمَّةٌ يعاون وزراؤها جيش الاحتلالِ، أمّة شرّد أحرارها واضطهدوا وأُبعدوا عن شَعبهم،
وإدارةٌ كُلُّها في يد الإنجليز، ودواوين تعمَلُ تحت سلطانهم، ورجالٌ يخدمونهم ويعاشرونهم، وأَمْوالٌ تنفق على شراء النفوس الضعيفة، ومدارسُ كلها تحت إشرافهم، كُلّ صغيرة وكبيرة مما يقرؤه الطُّلَّاب ومما يدرسونه، وكتب خاصة وضعت لخدمة الاحتلالِ من ناحية، ولإنشاء جيل من المتعلمين الجاهلين من ناحية أخرى، وصحافةٌ تحتضنها بريطانيا وغير بريطانيا من المستعمرين، تعمل وتتَّسِع وتنشر على الناس ما تريده بريطانيا أن يُنْشَر لإضعاف نفوس الناس وتثبيط عزائمهم في مقاومة الاحتلال، وشراذِمُ من الأجانب مسرّحةٌ في أرض مصر تستولى على تجارتها وصناعتها وزراعتها وسائر مصادر رِزْقها، وتسلب المصريين أموالَهم وتحتقرُهم وتفقرُهم تحت حماية الاحتلال، وحياة اجتماعية جديدةٌ تستهوى جماهير الشعب الجاهل الغافل، وآراءٌ تُذَاع فتستميل القلوب حينا وتنفّرها حينا آخر، وسلطانٌ يرهبُ ويخيفُ، ومودّة تنافق للعلماء وأصحاب الرأي فتفتنهم وتخذلهم، وأموالٌ تؤلّف القلوب النافرة، ومناصبُ تُوهب لمن يتطَّلبُ الجزاءَ أو المجد أو الشرف في بلاده المحتلة. ستّ وعشرون سنة، وذلك كُلُّه يحدث ويزداد اتساعًا على الزمن، وتظْهر آثارُه على مرّ الأيام. لماذا؟ لأنّ بريطانيا أرادتْ أن تضرب بمعاوِل اليأسِ في قلوب الذين شهدوا هزيمة بلادهم، وحضروا نكبة احتلالها. وأرادتْ أيضًا أن تطيل هذه المُدّة لكي تستطيع أن تنشيء من أهلِ مصر، ومن شباب مصر، جيلًا من المثقَّفين تريده على صورة بعينها. وأرادت أخيرًا وهو أَهَمُّ ما تريدُ: أن تجعل الشَّعْبَ يحارُ ويضطربُ وتتنازعه الأهواء والشهوات، ويضيعُ إخلاصه لبلاده في هذا الموج المتلاطم من الحياة الحديثة، ومن التدليس والتغرير ومجاذبة النوازعِ الفاسدِة، ومن اليأْس الغالِب والقُنُوط المدمِّر.
ستًّ وعشرون سنة، أرادتْ بريطانيا في خلالها أن تنشيء جيلًا من المثقَّفين اليائسين الطامعين في مناصب الدولة، يعينون غاصب بلادهم أو على الأقل يعتدلُون في عداوته. جيلٌ ينشأ من صميم مصر والسودان، لا يبغّضُه إلى الشعب ثوب الخيانة الفضّاح، الذي بغض إليه نوبار ومصطفي فهمي وأعوانهما. وتعلم
بريطانيا أن الزمن كفيلٌ بعد ذلك بأن يُرِيها أبناءَ مِصْر والسودان، وهم يسخرون لعبثٍ لا ينتهي بمستقبل مصر والسودان، وبمجد مصر والسودان ويريها أبناء مصر والسودان يفكرون في إصلاح مصر والسودان، وتحرر مصر والسودان ولكن على أسلوب ترضاه هي، وتؤثره هي، دون أن تَظْهر على المسرح بطغيانها وغطرستها إلّا عند الحاجة.
22 -
كان هذا الجيل الجديد يتخلَّق ويجيش في رَحمِ أمّنا العظيمة -مصر والسودان، يتخلَّقُ كما تريده بريطانيا، يفكّر لبلاده ولكن بعقل بريطانى، ويحبُّ بلاده ولكن بالنظر إلى رَهْبَة بريطانيا وعظيم سلطانها، ويفهم معنى الحريّة والاستقلال، ولكنْ في حُدُودِ الحُكمْ البريطانىّ والسطوة البريطانية. هكذا أرادت بريطانيا، ولكنْ خابَ ظنُّها مرّة أُخْرى، فقد أراد الله أن ينبعث من بين هذا الجيل فتى واحدٌ: جاءَ يسعى من أعماقِ التاريخ، ويَصْرخُ من أغوار الشعب المصري، لا يرهبُ شيئًا ولا يردّهُ شيءٌ، فصرخ في الوادي صرخةً رَوَّعت القلوبَ في أكنّتِها. جاء مصطفى كامِل يتدفّقُ من جميع نواحيه، ويمضي على غُلَوائه كالسيل المتلاطم، وكانَ أصلبَ عودًا وأقوى مراسًا، وأعنف إرادة -من أن تزلزلَه مكايِدُ الغاصب أو ضرباتُه. واستطاعَ الفتى أن ينقذ مئاتٍ من الجيل الذي تعهّدت بريطانيا تكوينه وإنشاءه، واستطاع أن ينقذ آلافًا مؤلَّفة من الشعب ويهديهم إلى حقيقة معنى الحريّة والاستقلال. ولم تستطيع بريطانيا أن تهزمه، بل كان العكس، فروّعتْ بريطانيا باجتماع هذا الشعب الكريم مرّة أخرى في 1906 أيام دنشواى، كما روّعت باجتماعه ويقظته عند عَزْلِ مصطفى فهمي في يناير سنة 1893. وقالت بريطانيا: ما هذا الشعب الغريب؟ ما هذا الشعبُ الجاهلُ الذي يَكْمُنُ فيه حبّ الحريّة كما يكمن المرض الخبيث- يَخفى أشدّ الخفاء، ثم يَنتشر دفعة واحدة كالحريق المُشْعَل؟ كيف يتسنّى علاجه من داء الحريّة الخبيث؟ لجأتْ بريطانيا إلى مصطفى فهمي وزير الاحتلال، وأمرتْه أن يتلقّطَ لَهَا جماعةٌ ينشئون شركة مساهمة مصرية، لكي يصدروا صحيفة يومية، هي الجريدة. واستطاعَ مصطفى فهمي أنه يجد في سنة 1906 أي بعد أربع وعشرين
سنة من الاحتلال، جماعة من الشيوخ ممن يتزلّفون كما يتزلّفُ إلى الغاصبين، واستطاعَ أن يجدَ جماعةً من الشباب الجديد من ذوى الأطماعِ والمطامح البعيدة، ممن يفهمون الحرية والاستقلال كما تريدُ بريطانيا أن يكون. وتألفت الشركة برعاية مصطفى فهمي، وصدرت الصحيفة بعد أيام دنشواى وتولّاها فتىً مِصرىٍّ من الجيل الجديد هو "أحمد لطفي السيد" الذي سيصير فيما بعد المعلم الثاني أو الثالث لا أدري -وإذا الجريدة تدعو إلى سياسة الملاينة والاعتدال، وإلى التدرُّج في نيل حقوق البلاد، وإلى الاستقلال ولكنْ بعد أن يُتِمَّ الشعبُ تعليمه على يد الاحتلال. وتنقلب هذه الشركة إلى حزبٍ يعرف باسم حزب الأمّة، يجتمع فيه صغارٌ وكبارٌ- كبار من شيعة بريطانيا في خمسٍ وعشرين سنة، وصغارٌ نُشُئوا وأرضعوا لِبَانَ بريطانيا في خمسٍ وعشرين سنة. ويمهّد الكبار للصغار، وتمهّد صحافة الاحتلالِ لهذا النشء، وتولّى بريطانيا كثيرًا منهم المناصبَ العالية، وتستغِلُّ بريطانيا طُموحَ هذا الجيل إلى الحكْم والسلطان والمال، وتستغلُّ كُلّ ما في النفس الإنسانيّة من النوازع والشهواتِ، ويستغلُّ كرومر عميد الاحتلال شيوخًا من جلّة العلماء والوزراء، وأعضاء الجمعية التشريعية، في الثناء على هذا الجيل- ليعارضوُا ذلك الفتى المشاغب العنيد الذي لا يرضى أن يلين لبريطانيا، أو يستكين تحت لوائها، أو يدعَ ذكر الحرَّية الخبيثة التي يدعو الناس إليها، والشعبُ المصريّ ينظر إلى هذا الصراع بين الشبان المثقفين -بين مصطفى كامل، وشيعة حزب الأمة-
وترى بريطانيا انّ هذا الصراع خليقٌ أن يمزّقَ وحدة الشَّعبْ، ويجعَلَ فئة تنحازُ إلى هذا، وفئة تنحازُ إلى الآخرين، والزَّمنُ بعد ذلك سوف يعمل على توسيع الشُّقة من ناحية، وهي تعمل أيضًا إلى إِبلاغ إحدى الفئتين إلى أَسْمى المناصبِ وأعلى الدرجاتِ في الحُكْم وفي غير الحُكم.
23 -
ويموت مصطفى كامل في سنة 1908، وتتنفَّس بريطانيا الصعداء، ويتنفَّسُ شيعتُها، لقد استراحوا من هذا الموجُ الصاخب الذي لا يهدأ. ويخلُفه فَرِيد، ولكن شتان ما بينهما -شتّان بين خطيب الجماهير، والسياسيّ
الساكن- شتان بين النار المُشْعَلة، والنَهر المنسابِ. علمت بريطانيا أن الشَّعْب لن يَسْمَع بعد اليوم ذلك الصوتَ الذي يُضِئُ لَهُ شعاب الحرّية وأوديتها الغامضة. فتبسُط ما استطاعت للفئة الأخرى لكي تستكثر من الأعوان والأنصار، ومن المخدوعين والمغررين، وتبذلُ الأموال والرُشَى في الدواوين وفي غير الدواوين. وتأتي الحربُ العالمية الأولى، وتعلن الحماية على مصر والسودان، فتضطرب النفوسُ، وتتّطاير الأراجيف ويعظُم الطمع، ويقلُّ الوَرَع، وتخبث نفوسٌ وتَصْلُحُ نفوسٌ، وتَتَّسِع مِصْر لخبائث جيش الاحتلال، وتنحلّ الأخلاقُ انحلالا لا مثيل له في تاريخ مِصْر، ويستهتر الشبابُ، وييأس الشيوخ، ويظلُّ هذا البلاءُ أربع سنوات، فإذا مصر والسودان تجيش جيشانها العجيب في سنة 1919، وتذعَرُ بريطانيا من هذا الشعب الذي لا يموتُ ولا يريدُ أن يموت. وتعودُ كلمة الحريّة والاستقلالِ ناصعةً لا تشوبها شائبةٌ، يتنادى بها شعب كامِلٌ من أقاصى مِصْر إلى أبعد أَطْرافِها. شعبٌ كاملٌ يريد طرد بريطانيا من بلاده، يثور ثورة رجل واحدٍ لا يزيدُه الإرهاب والعنف والتقتيل إلّا مضاءٌ واشتعالًا، فماذا تفعل بريطانيا بهذا الشعب الغريب؟ .
24 -
كانَ من حُسْن حظّ هذه الأمة الغاصبة أن الرجل الذي نفته، والذي ثارتْ الأمّة فجاءة وعلى غير توقّع منها أو من الثلاثة الذين زاروا دار الحماية في ذلك الوقت -هو "سعد زغلول"- الذي كان وزيرًا في وزارة مصطفى فهمي الأخيرة، وزوجُ ابنة مصطفى فهمي، والذي تعاون مع الاحتلالِ في زمنِ طغيان كرومر، والذي كان يَأْوى إليه طائفةٌ من الشُّبّان الذين عارضوا مصطفى كامل ولا يزالون يعارضون دعوته باسم الحرية الخالصة من الشوائب والقيود. وعلمتْ بريطانيا أنها تستطيع أن تتفاهم مع سعدٍ المنفيّ، ولكن هل يستطيع سعْدٌ أن يقاوِم تيّار الثورة التي أرَّثَها شبابٌ من المؤمنين بالحرية والاستقلال بلا قيد ولا شرطٍ؟ وهل يستطيع أن يردّ جماحَ شعبٍ بأسره لا يعرف شيئًا إلّا أنّه يريد الاستقلال، ويريد طَرْد الغطرسة البريطانية من أرض بلاده؟ هذا الشعب! . . هذا الشعب! عرفت بريطانيا يومئذ أن المسرحية الطويلة الأُولى في رفع الوزارات وخفضها قد
باءتْ بالخسران، في نواح كثيرة، ولم يَنجعْ دواؤها في شفاء الشعب الحرّ من داءِ الحريّة. وعلمت أيضًا أن الحديد والنار لم يزد هذه الثورة إلا اشتعالًا. وعلمت أنّ سعدًا ومن يلوذُ به من شباب الجيل الجديد، ومن أهل الطويّة السليمة -أو الغفلة إِن شئت- فيهم استعدادٌ كريمٌ للملاينة والمسايرة والتفاهم والتعاون، لأنهم لا يؤمنون بقدرة الشعب الأعزل على طرد غاصبٍ يملك من القوّة والسلاح والإرهاب ما لا قِبَل لأحدٍ به، بل غاصبٍ خرجَ من الحرب العالمية الأولى منتصرًا ظافرًا على ألمانيا المخيفة وتُرْكيا الباسلة. فمن هذه العناصر جميعًا وضعت بريطانيا مُسَوَّدَة المسرحية الجديدة التي ينبغي لهذا الشعب أن يشهدَهَا، لكي يَنْسَى كلمة الحرية، وكلمة الاستقلال، فإن لم ينسهما، فليفهمهما على النحو الذي تريده بريطانيا. حريّة خائِفَة ترجو معونة بريطانيا في حياطتها حتى تنمو وتعيش، واستقلالٌ مذعورٌ، لا يستطيع أن يتخلَّى عن معونة بريطانيا في التمهيد لَهُ وفي كفالته، في عالمٍ تصطرعُ فيه القُوَى المسلّحة بالحديد والنار وبالسلطان والبطش.
25 -
اشتعلت نار الثورة الجامحة في يوم الأحد 9 مارس 1919، وظلت تزداد اشتعالًا يومًا بعد يوم، ولم يُجْدِ الإرهابُ والبطش شيئًا، وكانت بريطانيا قد أعدّت الفصل الأول من المسرحية الجديدة، فأرسلت إلى مصر تلك اللجنة المشهورة باسم لجنة ملنر، فقاطعها الشعب الثائر، فعادت لم تنل شيئًا مِنْه أو من ثورته، ولكنها في الحقيقة نالت شيئًا كثيرًا، لأنها لقيت رجالًا يحفظون الودّ والعَطْف والجميل، ويؤمنون بأن بريطانيا تحبّ الخير أو بعض الخير لبلادهم، ورأت أنهم مستعدّون للتفاهم والتعاون؟ ! فبدأت المسرحية بأن وضعت اللجنة مشروع معاهدة لإرضاء المصريين فيما ترى، وترسله إلى الوفد المصري بزعامة سعد، وإذا زعيم الثورة يَرَى بأسًا في أن يفاوض بريطانيا في أمر هذه المعاهدة، وإذا هو يُعدُّ مشروعا آخر يفتتحه سعد بهذه الكلمات الخالدة: "أتشرف بأن أبلغكم نبأ استلام خطابكم المؤرخ 17 يوليه 1920 وإني أبادر فأعرض على فخامتكم طى هذه مشروع اتفاق يحوى النقط التي جرت المناقشة في شأنها في أحاديثنا، وهي النقط التي يلوح لي أنكم تقبلونها. ونحن نعتقد أن المشروع
بالصفة التي هو عليها من شأنه أن يرضى الطرفين، فعلى هذه القواعد يمكننا أن نضع دعائم صداقة متينةٍ وتعاونٍ عمادهُ الإخلاص بين الشعبين الإنكليزى والمصري".
وبإرضاء الطرفين -أيها الإخوان- وبدعائم الصداقة المتينة والتعاون والإخلاص بين الشعبين -تمَّتْ هزيمة الثوار، وهُزمَ شعب مصر والسودان هزيمة منكَرَةً، بل هي أفظع هزيمةٍ في تاريخ مصر والسودان، بل أبشع هزيمة أصيب بها شعبٌ يجاهد في سبيل الحرية والاستقلال. وعلى يد مَنْ هُزمت؟ على يدِ أبنائها، وبعمل أبنائها أنفسهم، وبجهادِ أبنائها أنفُسِهم! !
26 -
وبعد قليل أيها الإخوان سَارَ الشعبُ المصري وهو ينادى بالحرية والاستقلال، وزعيم ثَوْرته يفاوضُ الاحتلال في الحرية والاستقلال -ويتشعب الرأي، ويتقسَّمُ الناسُ، ويعظُمُ أمر هذه المفاوضة، ويختلف عدلى وسَعْد على رآسة المفاوضة: أهي لرئيس الوفد وكيل الأمة أم لرئيس الحكومة حاكم الأمة؟ ويشتغل الشعبُ كُلّه بكلمة المفاوضة، ولمن تكون؟ وعلى يد من تكون؟ ويتعادَى الناسُ، وتظهر العصبيّة لهذا ولهذا. ويتقدَّم الجيل الذي أنشأته بريطانيا إلى قيادة هذا الانقسام بين سعد وعدلى وثروت ومحمد محمود وأشباه هؤلاء. وتخفُّ العداوة الكامنة في الصدورِ لبريطانيا، وتتجه إلى تعادى الزعماء والقادة -كما يسمونهم- وتصْبرُ بريطانيا على هذا الانقسامِ ثلاث سنواتٍ حتى يشهَدَ الشعب مسرحيّة النزاع بين رُؤُوس الثورة الكبار، أو على الأصح من كانوا يظنونهم رؤوس الثورة. ويبدأ الشعبُ الذي أحبّ سعدًا لأنّه ثائر فيما يظنُّ، يَشْعُرُ شيئًا فشيئًا بأن معونة بريطانيا ومفاوضتها لازمة لحريته واستقلاله. وفي خلالِ ذلك استغلظ أمرُ هؤلاء المعتدلين جميعًا في عداوة بريطانيا، وتأثر الشعبُ بهذا الاعتدال، وضعفتْ عزيمته في النداء باسم الحرية والاستقلال. وتم بذلك الفصل الثاني من المسرحية البريطانية الجديدة.
27 -
وجاءَ موعد الفصل الثالث من المسرحية الثانية، وهو أضخَمُها وأعظمها. وهو تصريح 28 فبراير سنة 1922 الذي يقضى بانتهاء الحماية
البريطانية، والاعتراف بمصر (وحدها دون السودان) دولة مستقلة ذات سيادة. مع تحفظات أربعة هي:
1 -
تأمين مواصلات الإمبراطورية.
2 -
الدفاع عن مصر من كل اعتداء أجنبى بالذات أو الواسطة.
3 -
حماية المصالح الأجنبية في مصر وحماية الأقليات.
4 -
السودان.
وظاهِرُ هذا التصريح يدلّ كما قال مع الأسف أحد قدماء رجال الحزب الوطني -على أنه- "مكسبٌ سياسي ومعنوىٍّ، فقد ترتّب على انتهاء الحماية إعادةُ منصب وزير الخارجية الذي ألغى في عهد الحماية، وتحقيقُ التمثيل السياسيّ والقنصلىّ لمصر، كما أن الاعتراف بمصر دولة مستقلةً ذات سيادة، قد أزال العقبة التي كانت تعترض فعلًا إعلان الدستور، فبزوال هذه العقبة قد تمكنت مصر من أنه تجعَلَ نظامَ الحكْمِ فيها نظامًا دستوريًا"، ويقول أيضًا:"إن تصريح 28 فبراير سنة 1922 يكون ضارًّا لو قبلته الأمة وارتضتْ به، أو اعتبرته خاتمة الجهاد، أمّا إذا كانت ماضية في جهادها، فإنّه بلا شكٍّ فوزٌ لها في معركة من سلسلة المعارك التي يتألّف منها نضالها القوميّ الطويل". وأنا أَرَى أيّها الإخوان أن الحرية لا تتجزَّأ وأرى في هذه الكلمات التي جرى بها قلم أحد أفذاذ رجال الحزب الوطنّى -دليلًا على نجاحِ بريطانيا في بلوغ غَايتها من صرف الشعب المصريّ علمائه وجُهَّالِه، وخاصته وعامته، عن حقيقة الجهاد في سبيل الحريّة- إلى هَوّى من الأهواءِ عظَّموه أكثر ممّا يعظّمون الحرية، وآثروهُ بحرص، لم يؤثروا الحريّة بحرصٍ مثله -وهذا الهَوَى هو الذي شاءت بريطانيا أن تستغلّه أحسن استغلالٍ، ألا وهو الدستور والحُكْم النيابى. علمت بريطانيا أنّ عرَابى ثار من أجل تحقيق هذا الدستور لبلاده، وأن الجمعيّة التشريعية قبل الحرب استرعت انتباه الناس ببعض المواقف العظيمة في سبيل تحقيق الحُكْم النيابىّ، وعلمتْ أن اسم الديمقراطيّة ودَعْوَاها في هذه الفترة من الزمن يستهوى كثيرًا من العقول الراجحة المثقفة، فأتت الثورة من هذه الجهة، وأتَتْ كلمة الحريّة والاستقلال من هذا المدخَل. فلم يكَدْ سعدٌ يَقْبل دخول الانتخابات التي ضمِنها أو مَهّد لَهَا هذا
التصريحُ، حتى نَسِيَ الشعبُ المصريّ عداوَته الفَوّارةَ لبريطانيا، وتَابَع بعداوته أعداءَ سعد وأعداءَ الوفد المصري من المصريين، وانطفأتْ كلمة الحُرّية انطفاءً تامًّا، وسارَ الشعبُ في ظُلُماتٍ سُودٍ لا ينيرها شيءٌ إلى هذا اليوم.
28 -
فَرِح الجيلُ الجديد من المثقَّفين، وقادَ الشعبَ إلى الفرحِ، بهذا الدستور الجديد، وباتت سياسة بريطانيا في فرح آخَر بانصراف الشعب إلى هذا الدستور الجديد. وصارت قيادةُ الأحزابِ المصرية جميعًا إلى جماعة المعتدلين في عداوة بريطانيا، وشاعَتْ كلمة المفاوضة والمعاهدة مكان كلمة الحرية والاستقلال، وثار الجدلُ على صفحات الجرائد وفي الكتب عن الدستور والمفاوضة والمعاهدة، وانقطع البحثُ في حقيقة معنى الحرية والاستقلال. ويومئذ ضمنت بريطانيا سيادة كلمة المعتدلين في عداوتها واستمرار هذه السيادة زمنًا طويلًا، وضمنت بريطانيا شعبًا كاملًا تشغَلُه كلمة المفاوضة والمعاهدة، ولا تشغله قليلا أو كثيرا كلمةُ الحرية أو كلمة الاستقلال، وضمنت بريطانيا صحافة يتولاها مصريون وأشباه مصريين تؤثر الاعتدال وتزيدُ الشعب إيثارًا له، وتحبُّ المفاوضة والمعاهدة وتزيدُ الناس حُبًّا فيهما، وضمنت الزمن وكرَّه على الناس وفِعْلَه في الشعوب، وضمنت تطوُّر الحياة الاجتماعية تطوُّرًا يُفْضِى بالشَّعْبِ إلى الاستهانة والتهاوُن، وإلى التَّسلية والتلهّي، وإلى السُّخْرية بالزعماء والقادة وهم يختلفون ويتنازعون على الحُكْم وعلى الأموال والمناصب، وإلى اشتغاله عن الحريّة الحقة بحياة الاستقلال الجديدة التي كَفَلَها لهم الدستور الجديد. وخلاصة ذلك كُلّه أن بريطانيا أرادت بتصريح 28 فبراير تمزيق وحدة الشعب، وصرفه عن حقيقة معاني الحرية والاستقلال- وأراد الزعَماءُ نَيْل السُّلطة التي يكفُلُها الدستور للأكثريّة. وأنتم تعلمون أيها الإخوان أن الأكثرية أخفقت في نيل ما أرادتْ على الزمن، وأن بريطانيا نجحتْ على الزمن في إدراك بُغْيَتْها من الشَّعْب العنيد الذي ابتُلِيَ بداء الحريّة. فكأنها رفعتْ يدها عن هذه الأداة المصرية (لحمًا ودمًا) في سنة 1924، البريطانية (كيدًا وهَوًى وإرادةً)، وقالتْ للناس: هذه بلادكُمْ: احكموها بأنفسكم، وتنازعوا على حكمها ما شاءَ لكم التنازع، وتنابزوا
بالألقابِ في سبيل هذا الحكْم، وليعادِ الأب أبناءَه، والأخُ إخوانه، والصديق أحبابه، وكونوا عباد الله أعداءً. وكان من أخبث مكر السياسة البريطانية أنها تورَّعت عن أن تنزل بالشعب عذاب التنكيل بالقوة الغاشمة، لتنزل به ما هو أبشع وأفتك من عَذَاب الأبدان، عذاب الأَرْوَاح الحائرة المضلَّلة، عذابَ الاعتدال في طلب الحرية، عذاب العداوة والبغضاء، عذاب الضعف والاستهانة والفتور، عذاب الغفلة الدائمة عن الذلّ المقيم.
29 -
هذه هي غاية المسرحية الجديدة التي بدأت "بإرضاء الطرفين، وبدعائم التعاون الصادق بين الشعبين الإنجليزي والمصري" كما قال سعد زعيم الثورة! ! ولم تتمّ المسرحيَّة بَعْدُ، والشعبُ لا يزالُ ينْظُرُ إلى الممثّلين وهُمْ على المسرح، وبريطانيا من بعيد تنظُر إلى أثر هذه المسرحية في الشعب الذي أضناها علاجُه. وتعدُّ له تتمّة المسرحية في الفصل الذي يتضمَّنُ "رفع مستوى معيشة الشعوب"، "والدفاع المشترك عن حوزة الوطن"، و"الخوف من ضياعِ الحضارة الإنسانية وتدميرها في الحروب". ولكنها مع ذلك مطمئنّة بعض الاطمئنان، لأن المفكرين والسَّاسة والقَادة والصحافَة كُلَّها، أَعوانٌ لها في هذا الهدف، أعوانٌ في اللحم المصري، ومن الدم المصري، وعليهم سمة النيل الخالدة، والشَّعْب حائرٌ يسيرُ على غير هُدًى وإلى غير غاية، وهو ينظر إلى هؤلاء غير مُنْكر لهم ولا مستريبٍ فيهم أو في إخلاصهم لبلادهم. والأحرارُ الذين يعرفون معنَى كلمة الحريَّة، ويؤمنون بأنّ الحُرّية لا تنال بالمفاوضة ولا بالمعاهدة ولا بالتعاون مع بريطانيا أو أمريكا أو روسيا أو فرنسا، ويؤمنون بأنّ الاحتلال الطويل قد أَفْسَد عقولًا كثيرةً ونفوسًا كثيرة -هؤلاء الأحرار- أيها الإخوان - غائبون عن أوطانهم وعن شَعْبهم في غيابات الاضطهاد، وفي ظلماتِ طَلَب العيش، وفي سراديبِ السُّكُوت والتسليم.
30 -
صورة قائمة عابسةُ عرضتُها على شباب هذا الحزبِ، لم أتناوَلْ فيها إلا الناحية السياسية والتفكير السياسيّ. وهناك صورٌ أشد قتامًا وعبوسًا في النواحِي الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والثقافية، تزيدُنا بلاء على بلاء. ومع
كُلّ هذا، ومع أن بريطانيا استطاعتْ أن تبعدنَا عن كلمة الحريّة في أوسع معانيها، وأن تميت هممًا وتثبّط عزائم، وتهلك نفوسًا، وبرغم سيادة المعتدلين على الرأي العامّ، وسيادتهم على الدستور، وسيادتهم على الحكومة وسيادتهم على الصحافة والأقلام، فأنا أثق بشيء واحدٍ، أثق بشعبِ مصر والسودان، كما أثق بسائر شعوب بلاد الشرق وبلاد العرب وبلاد الإسلام. وإني لأرى خلالَ هذه الظلمات نجومًا تلمع، وكواكب تتوهَّج، وعَزَائم تنبثقُ، وأمواجًا تجيشُ في قرارة هذه الشعوب. وستأتي الساعة في ميقاتِها، وسنهبُّ هبَّةً واحدة، فننفض الغبار العتيق، ونعصف بالقيود، قيودِ الاستعمار وأعوان الاستعمار. وسنهتدى إلى الطريق التي نهجها الأحرارُ في كُلّ مكان، ليسلكهَا الأحرارُ من كُلّ أُمَّةٍ. وإذا كان كيد بريطانيا في سياستها الدائبة الملحّة، لم يُردْ إلّا الشَّعبَ وحده، ولم يقصد إلا تدمير هذا الشعب وحده، فعَلَينا نحنُ أن نبدأ جِهادنا في الميدانِ الذي أرادته بريطانيا، نجاهد في هذا الشَّعْب وحده من أجل هذا الشَّعْبِ وحده، نذكره بالحرية التي نَسِيَها في مكر بريطانيا، ونُعينُه على أن ينشيء حياةً أخرى غير الحياة التي دبّرتها له بريطانيا، علينا وعليكم يا رجال هذا الحزب ويا شبابه، أن تحملوا شُعْلة الحريَّة إلى كُلّ قلب، وأن تنفثوا روح الحرية في كُلّ عَمَل، وأَن تطاردوا شيطان المستعمر في كُلّ بقعة وفي كُلّ نفس، وأن تعلّمُوا أنفسكم وتعلّموا الناس كيف يعيش الحُرُّ بالحُرّية -لا بالمال ولا بالجاه ولا بالسلطان ولا بمناصب الوزارة، ولا بعضوية البرلمان. أوقدُوا نَارَ الحرَّية وألقوا فيها خبائث العبودية والذلَّ والاستعمار، واعلموا أن مِصْر والسودان تموتُ الآن على يد فئة من أبناء مصر والسودان، فكونوا أنتم حياةَ مصر والسودان، بل حياة بلاد العرب، وبلادِ الشرق، وبلاد الإسلام.