المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌شاعر الحب والفلوات ذو الرمة- 2 - جمهرة مقالات محمود شاكر - جـ ٢

[محمود شاكر، أبو فهر]

فهرس الكتاب

- ‌الناسخون الماسخون

- ‌إكمال ثلاثة خروم من كتاب التنبيه على أوهام أبي علي في أماليه

- ‌من خط البغدادي *

- ‌مقاليد الكتب

- ‌أدب الجاحظ

- ‌الصاحب بن عباد

- ‌أبو نواس

- ‌ضحى الإسلام

- ‌الشريف الكتانى

- ‌نابغة بني شيبان

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - كتاب "حافظ وشوقي

- ‌2 - كتاب الرثاء

- ‌3 - كتاب الخط الكوفي *

- ‌4 - صلاح الدين وشوقي *

- ‌5 - كتاب الشخصية *

- ‌6 - كتاب أمير الشعراء شوقي *

- ‌مقاليد الكتب

- ‌حاضر العالم الإسلامي

- ‌ذكرى الشاعرين

- ‌ماضي الحجاز وحاضره

- ‌الوحي المحمدي

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - ملوك المسلمين المعاصرون ودولهم

- ‌2 - ابن عبد ربه وعقده

- ‌3 - رحلة إلى بلاد المجد المفقود

- ‌4 - تنبيهات اليازجي على محيط البستاني جمعها وحل رموزها

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - أنتم الشعراء

- ‌2 - تاريخ مصر الإسلامية

- ‌3 - آلاء الرحمن في تفسير القرآن

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - ابن خلدون: حياته وتراثه الفكرى

- ‌2 - قلب جزيرة العرب

- ‌الينبوع

- ‌النثر الفني في القرن الرابع

- ‌مقاليد الكتب

- ‌1 - ديوان عبد المطلب

- ‌2 - مرشد المتعلم

- ‌3 - مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام

- ‌ ملوك الطوائف، ونظرات في تاريخ الإسلام

- ‌الإسلام والحضارة العربية

- ‌وَحْيُ القلم

- ‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (1)

- ‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (2)

- ‌علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (3)

- ‌عبقرية عمر

- ‌شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة- 1

- ‌شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة- 2

- ‌شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة- 3

- ‌ جمعية الشبان المسلمين

- ‌ تاريخ اليوم الأول

- ‌ دعوة الشباب إلى الجمعية

- ‌ الاجتماع الأول

- ‌ الاجتماع الثاني والثالث

- ‌ انتخاب مجلس الإدارة

- ‌في حلبة الأدب

- ‌كتاب تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي

- ‌ عن كتاب تطور الأساليب النثرية" رد على مؤلفه

- ‌ترجمة القرآن وكتاب البخاري

- ‌ترجمة القرآن في صحيح البخاري

- ‌من أين؟ وإلى أين

- ‌لماذا، لماذا

- ‌تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات

- ‌شكر

- ‌أنا وحدى

- ‌الطريق إلى الأدب- 1

- ‌الطريق إلى الأدب- 2

- ‌فوضى الأدب وأدب الفوضى

- ‌الأدب والحرب

- ‌إلى على ماهر باشا

- ‌لا تبكوا. .! لا تنوحوا

- ‌تجديد التاريخ المصري ساعة واحدة

- ‌أحلام مبعثرة

- ‌أهوال النفس

- ‌وقاحة الأدب أدباء الطابور الخامس

- ‌قلوب جديدة

- ‌القلم المعطَّل

- ‌اللغة والمجتمع

- ‌أوطانَ

- ‌(حول قصيدة القوس العذراء)

- ‌صَدَى النقد طبقات فحول الشعراء رد على نقد

- ‌[الاستعمار البريطاني لمصر]

- ‌المتنبي

- ‌حديث رمضان. عبادة الأحرار

- ‌مع الشيطان الأخرس

- ‌ يحيى حقي صديق الحياة الذي افتقدته

- ‌لا تنسوا

- ‌عدوى وعدوكم واحد

- ‌أندية لا ناد واحد

- ‌لا تخدعونا

- ‌احذروا أعداءكم

- ‌في خدمة الاستعمار

- ‌حكم بلا بينة

- ‌تاريخ بلا إيمان

- ‌المسلمون

- ‌ لا تسبُوا أصحَابي

- ‌طلب الدراهم من الحجارة

- ‌ألسنَةُ المفترين

- ‌جرأة العلماء

- ‌أحمد محمد شاكر إمام المحدّثين

- ‌ قُرَىَ عَرَبِيَّةَ

- ‌كانت الجامعة. . . هي طه حسين

- ‌مواقف

- ‌في الطريق إلى حضارتنا

- ‌الأندلس تاريخ اسم وتطوره

- ‌المتنبي ليتني ما عرفته- 1

- ‌المتنبي ليتني ما عرفته- 2

- ‌القول في "تذوق الشعر

- ‌القول في "الشعر

- ‌القول في "التذوق

- ‌المتنبي ليتني ما عرفته- 3

- ‌تتمة القول في التذوق

- ‌قضية "التذوق" عندي

- ‌تاريخ "التذوق" عندي

- ‌من هؤلاء

- ‌قضية اللغة العربية

- ‌في زمان الغفلة

- ‌هؤلاء الخمسة

- ‌الفقيه الجليل ورموز التكنولوجيا

- ‌النكبات الثلاث

- ‌الجبرتى الكبير

- ‌الألفاظ المكشوفة في هذا الكتاب طبيعية وينبغي ألا يجهلها البشر

- ‌ذكريات مع محبى المخطوطات

- ‌[تعقيب]

- ‌كلام منقول بنصه

- ‌في الطبعة الجديدة "للمتنبى

- ‌ الجيل المفرغ

- ‌كتاب الشعر الجاهلي

- ‌هل يبقى الاتهام

- ‌تهمة أكبر

- ‌ليس شكا أزهريا

الفصل: ‌شاعر الحب والفلوات ذو الرمة- 2

‌شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة

- 2

-

" هذا والله ملهمٌ! وما علمُ بدويِّ بدقائق الفطة وذخائر العقل المعدة لذوى الألباب؟ لله بلادُ هذا الغلام! ما أحسن قولهُ، وما أجود وصفه! ".

الكميت بن زيد الأسدى الشاعر

غلامٌ يتيمٌ عبقريُّ الطبعة، مشتعل العقل، ثائر العاطفة، نابض الأعصاب، لطيف الحس ذكى القلب، وَرِعُ النفس، جيَّاش الخيال: يرى أو يسمع، أو يتوهَّم، فيهتز كيانه من أعماقهِ هزة خاطفة، كأنهُ قوسٌ موتَّرة يُنْبضُها مشبوح (1) الذراعين شديد النزع. بعث اليتْم في دمهِ حرارة التحفُّز، وسعَّر في روحه ضِرام الحياة الملتهمة، وسلبهُ سكينة القلب الغرير الناشيء، فهو أبدًا جافلٌ متفزّع، كأنما يعارضهُ -حيثما توجه- شبحٌ يتخيل لهُ في صورٍ تروَعهُ وتَهُولهُ.

ويقوم على تثقيف هذا الغلام اليتيم وتهذيبه، رجلٌ من عقلاءِ الرجال، وشاعرٌ مُقل من شعراءِ بني عدى بن عبد مناة، ثم هو أخوه الأكبر:"هشام بن عقبة". يشفق هشام على يتيمه "غيلان"، فيحوطهُ بقلب متودّدٍ، ويعطفُ عليهِ بنفس صادقة، فتشتد قوى الودّ بين الغلام اليتيمٍ وأخيهِ الذي يربِّبُهُ، وبذلك يكسب "الطفل" من عقل "الرجل" وذكائهِ وصدقهِ، عقلًا وذكاءً وصدقًا، حتى تنشقّ طفولته عن رجولة مبكرةٍ. ولا يزال الغلام ينشأ في سر البادية العربية الخالدة التي لا تكادُ تتغيَر، وفي جوّ الشعر العربي من أقدم عصوره إلى أيام شبابه [في أواخر القرن الأوّل من الهجرة من سنة 77 - 97]، وبين إخوة وأخوالٍ من شعراءِ البادية، وبين رواةٍ قد حفظوا شعر قومهم وغير قومهم. لا يزال الغلام ينمو على

(*) المقتطف، المجلد 102، مارس 1943، ص: 245 - 251

(1)

مشبوح: عريض، يعني بُعْد ما بين الذراعين، وهذا أدعى إلى قوة النزع، وهو جذب وتر القوس لإطلاق السهم.

ص: 750

الأيام في ذلك كلهِ، حتى يمشي، في بادية قومهِ "بني عديّ"، بروح ثائرة متمرَدة عليه، تكافح طُغْيان البادية لتظفر بأسرارها المكتّمة. ينظر، وفي عينيه تلك اللمحة الحديد النافذة التي لا تدَعْ شيئًا إلَّا تغلغلت فيهِ أو أحاطت بهِ، لينالَ الخيالُ غذاءَه مما يرى. يُصغِى، وفي أذنيةِ تلك الحاسة الدقيقة التي لا تذرُ نغمة الّا اختطفتها، ليأخذ الشعور الرقيق حظهُ مما يسمع.

ويُومض في قلب الغلام ذلك الضوءُ المتلاحق المتدارك الذي يضئُ لعينيه دنيا جديدة ثم يخبو، ليعود فيبحث عنها في الظلام ليجدها مرة أخرى. هنا، ثم ها هنا، ثم هناك! ! ! أين ضلت عنهُ؟ كيف ذهبت؟ لماذا اختفت؟ ما الذي رأَى؟ ويهتز الفتى لليقظة، يريد أن يجدها، ولابدَّ لهُ من أن يجدها. وفي سر البادية العربية الخالدة، وفي جو الشعر العربيَ الخالد، يدبُّ الفتى اليتيم الصغير بين إخوةٍ وأخوال من الشعراءِ، ورواة للشعر يتناشدونه في أسمارهم تحت هدأةِ الليل التي تموج فيها النفس الإنسانية مَوجَها. يصغى الفتى ويحفظ، ويخفق قلبه بين جنبيه على نغم حُلوٍ حبيب تتردَد أصداؤه في أرجاء روحهِ، حين ينقلب إلى مضجعهِ. ولا تزال ترنُّ في أذنيهِ تلك الأصداءُ مع الفجر إذا تنفَّس.

ولم تزل البادية في عصر هذا الفتى تردّد أنغامها إيقاعًا عجبًا على ألفاظ اللغة، في شعر امرئ القيس فعل الجاهلية، ولبيد، وطرفة، وعنترة، والأعشى، والنابغة. ولكنَّ الفتى يتسمع إلى ذلك الحنين الخفيّ في نغم امرئ القيس وطرفة ابن العبد. ما هذه القوة المتدفقة من تحت الألفاظ، تعطيها الحياةَ فتحيى، لتغالب الدهور المفنيةَ المبيدةَ للحياة؟ وما هذه الصورة الممثلة التي تحبّب البادية إلى قلبه حبًا لا ييأس ولا يفتُر؟ كيف استطاع هؤلاءِ أن ينفذوا في الغامض الملتبس ليبعثوه في كلماتهم بيَنًا سهلًا يكاد يمشي ويتحرَّك؟ ! ثمَّ تَلْقَفُ مسامعه تلك الأنغام الجديدة التي تقذفها حواضر الحجاز والشام إلى بوادي نجدٍ: عمر بن أبي ربيعة، العرجيّ، الأحوص، عبيد الله بن قيس الرُّقيات! ! هذا الترفُ الجميل الذي يعبث بالحب ويعبث الحب بهِ. نساءٌ ينفثنَ على ألسنة هؤلاءِ سحر الغزل وفتنة الأحاديث. ويناظر الفتى -الذي صهرته البادية، ثمَّ صاغَتهُ، ثمَّ نفخت فيهِ

ص: 751

-بين هؤلاء، وبين امرئ القيس وطرفة ومن إليهما من فتيان الجاهلية وفُتّاكهم وأصحاب اللهو منهم. ولكن شعر المعاصرين يقبل على قلبه وعقله بغضارته ولينه وترفه، ثم ينفذ فيهما بسطوته، سطوةِ الجديد المتحكم. يتمنى الفتى أن يرقَّ رقة هؤلاء الغزلين، إن في روحه سرًا يتحرك، إنهُ يريد أن يقول. وتتبع عين "الفنّان البدويّ" أَوانِسَ البادية، كما تبعت عيون الشعراء المعاصرين أوانس الحاضرة في الشام والحجاز، ولكنهُ لا يستطيع أن يقول كالذي قالوا. إن قلبه لا يزال مغلقًا على قَدَره الذي سيحين وقد قارب. وتجيش أمواج الشعر في صدره لتكون إرهاصًا للقدر المُجْلِب عليهِ من بعيد أو قريب. فيعالج بداوته التي حكمته وأنشأتهُ، بتقليد الرقة التي يستشعرها من فنّ الشعراءِ الفتيان المعاصرين، وينظر إلى ابن أبي ربيعة الذي فتن نساءَ عصره، يريد أن يكون كمثلة ترفًا وغزَلًا وحديثًا، وهيهات! إنهُ سرُّ البادية العربية، وابن أبي ربيعة سرُّ الحاضرة العربية، لكنهُ سيقول على نهجه غير متلبث، إلى أن تنتفض روحه انتفاضتها: شاعرةً مبينة متحدثة على سجيتها. فماذا يقول؟ :

أطاوع من يدعو إلى رَيق الصِّبا

وأترك من يَقْلَى الصبا لا أُؤامرُهْ

وسِرب كأمثال المَها، قد رأيته

"بوَهْبينَ": حورُ الطرف بيضٌ محاجرُهْ

إذا ما الفتى يومًا رآهن، لم يزلْ

من الوجد كالماشى بداء يُخامِرُهْ

يُرين أخا الشوق ابتسامًا كأنهُ

سنا البرق في عُرْف له جاد ماطِرُهْ (1)

فجئتُ وقد أيقنتُ أن تستقيد لي

وقد طار قلبي من عدوّ أحاذِرُهْ

(1) عرف السحاب: أعلاه الذي يتدلى منه كعرف الفرس متهدلا.

ص: 752

فقال: بأهلى! لا تَخَف! إن أهلنا

هجُوعٌ، وإن الماءَ قد نام سامِرُة

فأين البادية، وأين ابن البادية في هذا الشعر؟ لقد ضاع ابن البادية ولم يبق له من بداوته إلَّا قوله:"وإن الماءَ قد نام سامره"، فإِن أهل الحواضر لا يقولون ذلك، وإنما هذا كلام الذين ينتجعون الغيث في البوادي، وينزلون على الماءِ في الفيافي الظامئة. وأما أهل الحضر فيقولون:"إن الحيّ قد نام"، وينسون الماءَ لقلة افتقادهم إياه في الحاضرة، أو يقولون كما قال عمر بن أبي ربيعة:

فما رِمْتُها حتى دخلت فجاءَة

عليها، وقلبي عند ذاك يروَّعُ (1)

فقلن حذارَ العين لما رأيننى

لها: إن هذا الأمر أمر سيشْنُعُ

فلما تجلى الروع عنهنَ قلنَ لي:

هلَّم! فما عنها لك اليوم مَدْفع!

فَظَلْت بمرأى شائقٍ وبمسمع

ألا حبذا مرأى هناك ومَسْمَعُ! !

إن فنان البادية يقلد هؤلاءِ الحضريين، فهو يطاوع أصحاب اللهو والبطالة، لا يبالى بمن يلومه وينهاه. وهو يملأ عينيه من جمال الفتيات، يغازلهن ويحادثهن ليعود إلى دارهِ مترنحًا يتهالك من صبابته بهنَّ. ثمَّ يتفتَّى فيدَّعى أنهُ انفرد بواحدة من بينهن قد تيقَّن -أو خيل لنفسه أنهُ يتيقن- أنها أمكنته من نفسها، وأنها لابد منقادة له، فواعدها فجاءَها لميعادها على رِقْبة من أهلها خائفًا فزعًا، فتحدثهُ صاحبته بما يسكن روعه. تفدّيه بأهلها حين يقبل عليها، ثم تميل عليه فتقول: لا تخف! ثم تبتسم له وتُخافت صوتها لتعلمه أن "أهلها هجوع، وأن الماءَ قد نام سامره". فهذا شعر غُفْل لم يوسم بسِمَة امرأة بعينها قد فرغت لها نفسه، وإنما هنَّ النساء: غانيات مطمعات بالحب لاهيات. وهو يتهالك في شعره تهالك "الماشى بداءٍ يخامره". ثم يعود بخيلاء شبابه فيحدث نفسه أن الفتاة خاضعة له، ثم يحاول أن يتمثل الفزع ليزعم أن الفتاة قالت له وقالت! ! هذا شعر الغزلين من أهل الحضر، لا شعر الفتى الذي كان -إذ ذاك- يتهيأ في داخله ليستوى على ذروة الشعر العربيّ الفنيّ، حتى يخرّ له شعر العشاق والفنانين من

(1) رام مكانه يريمه: تركه وغادره.

ص: 753

أهل الجاهلية كامرئ القيس، ويسجُد بين يديه شعر المعاصرين كجرير والفرزدق والأخطل! إنهُ إلى اليوم فتى حائرٌ يقلد، لم يستول على طريقته.

ولم يلبث الفتى أن انتبه من غفلة على صوت جديد ونغم فنيّ ساحر: ذلك النغم البدوى الذي يترجم عن حب صاحبه للبادية، وعن عشقه للإبل، فهو ينعتها نعتًا لم تسمع أذن عربيّ مثله، فحل من شعراء الإِسلام المعاصرين، "عُبَيد بن حصين" الذي لقبوه "الراعى"، و "راعى الإبل"، لشدة شغفه بالإِبل وجودة لغته لها. ويهوِى "غيلان" إليه، ويلازم شعره يرويهِ ويتتبعه، ثم يصاحب هذا "الراعى النُميرى" حتى يكون راويته ويجعله إمامه. ولكن الفتى لم يخلق للإِبل ونعتها فيقصر قلبه عليها. إنهُ سرّ البادية، ولن تكون الإبل وحدها هي كلَّ همه من البادية، ولكن هكذا قدر لهُ، فيصحب الراعى ويحبه ويسلك معهُ المسالك، ليأخذ عنهُ دقة العبارة عن غامض النعوت والأوصاف، وليزداد تأملًا فيما يرى من أسرار البادية، كتأمل "الراعى" في الإبل التي استخرج غاية أوصافها. ولكن. . . إن بين جنبى هذا الفتى قلبًا يرتعد. قلبٌ محروم ظامئٌ يبحث عن رِيّهِ. هؤلاءِ النساء! أهو يبحث عنهنَ ليلهو بهن كما يلهو عمر بن أبي ربيعة وأشياعه، أم يبحث بينهنَ عن سرّ ضائع يريد أن يجده؟ أيقول كما قال أوّلا وهو يقلد ابن أبي ربيعة؟ . . . كلّا بل يقول:

وبيضًا تهادَى بالعشي كأنها

غمام الثُّريَّا الرائحُ المُتَهَلِّلُ (1)

خِدالا قذفنَ السورَ منهنَّ والبُرَى

على ناعم البَرْديّ بل هنَّ أخدلُ (2)

قصار الخطى يمشينَ هَونًا، كأنهُ .... دبيبِ القطا، بل هنَّ في الوعَثْ أَوْحَلُ (3)

نواعمَ رَخْصاتٍ كأن حديثها

جَنَى النحل في ماء الصفا مُتَشمَّل

رقاقَ الحواشي، مُنفذِاتٌ صدورُها

وأعجازُها، عما بهِ اللهو، خُذَّل

أولئك لا يُوفينَ شيئًا وعدنهُ

وعنهنَّ لا يصحو الغويّ المعذَّل

(1) الرائح: مطر العشى. المتهلل: السحاب الماطر.

(2)

خدال: ممتلئات. السور: جمع سِوار. البرى: الخلاخيل. وعنى بالبردي: سواعدهن وسوقهن لنعومتها.

(3)

الوعث الرمل اللين. أوحل: أكثر وقوعا في الوَحْل.

ص: 754

هذا هو ينقلب إلى بداوتهِ! إلى رقّة البادية العنيفة في رقّتها. أجل هنَّ النساءُ أيضًا، ولكنهُ لا يَتَضنَّى ولا يتهالك، بل يصف وهو جليدٌ، يقول هنَّ بيضٌ تتهادى، ثم يصرخ صرخة الظامئِ إليهنَّ يريد أن يروى منهنَّ ما استطاع، فهنَّ الغمام في آخر اليوم يتهلل بالمطر. هكذا رآهنَّ جملة أول ما رأي، ثم تستقرُّ أشواقهُ فيتأمل تلك الأبدان الفاتنة، فإذا الساعدُ ريَّان ممتلئٌ، وإذا الساق تامةٌ مستويةٌ لا عَضِلةٌ ولا مضطربة، كأنها ساق البردى في نعومتهِ ولينهِ بل هنَّ أخدل وأشد امتلاءً واستواءً. ثمَّ يراهنَ تتبعهنَّ نفسهُ، فيفارق سَورة المشتاق إلى هدأة المتأمّل، فيرى خطوهنَّ كأنهنَ قَطا يدبُّ على الرمل، بل هنَّ في مشيتهنَ في الرمل اللين السهل أحلى مشيةً. كأنما يخشينَ أن ينهال الرمل من تحتهنَ. ثم

يدنو إليهنَّ فيسمع اللحن الحلو الفاتن الذي يروى من ظمئهِ، إنهُ في نفس أحسن بردًا من شهدٍ مذابٍ في أخصر ماءٍ وأبرده وأنقاه، ثم يسكن ظمأه إليهنَّ شيئًا فشيئًا، فيرى كلماتهن تنفذ في سر قلبه، فإِذا أراد منهنَّ، ما كان يجد في كلام ابن أبي ربيعة وأمثاله من الفتيان اللاهين بالحب، وجد من حديثهنَّ، بعد الإطماع، ما يخذله وينهاه. فتضطرب نفسه من أعماقها باليأس منهن بعد الأمل، فيقول:

أولئك لا يوفينَ شيئًا وعدنهُ

وعنهنَّ لا يصحو الغوى المعذّل

فهذا هو البدويُّ الفنان قد عاد مرة أخرى إلى البادية وأنكر لَهْو الحضر ورقته. ثمَّ ينطلق بعد ذلك -وقد كسب من "الراعى النميرى" دقة التأمل- يصف هذه الأرض التي نمشى عليها فيقول:

فما أمُّ أولاد ثكولٌ؟ وإنما

تبوءُ بما في بطنها حين تَثْكَلُ

يسائل: ما هي أمُّ أولادٍ، ومع ذلك فهي لا تزال تفقدهم، فإذا فقدتهم امتلأَت بطنها بهم كما تمتلئ الحامل، فيثقلها هذا الحمل الجديد، يعني من يموت من الناس.

أَسَرَّتْ جنينًا في حشّا غيرَ خارج

فلا هو منتوج ولا هو مُعْجَلُ

وهذا الذي يموت، فتُخْفِيه في حشاها، ويعود بدفنه جنينًا، لا هو يخرج إلى

ص: 755

الدنيا مرة أخرى مولودًا لوقته، ولا هي تلقيه سِقْطا مُعجَلًا قبل ميعاد مولده، بل هو أبدًا جنين مستقرٌ لن يرى نور الدنيا ثانيةً.

تموتُ وتحيا حائل من بناتها

ومنهن أخرى عاقرٌ، وهي تحملُ

ومن بناتها أرضون حوامل، وحملها هذه القرى، تكون عامرة تارة وخرابًا تارة أخرى، فالقرى تحيا إذا كانت عامرة، وتموت إذا صارت خَرابًا. ومن بناتها أرضٌ هي البيداء، وهي عاقر لا تحمل قرى، ولكنها تحمل الناس من البداة الذين يسكنونها وينتجعون مراتعها:

تراها أمامَ الركبِ في كل منزلٍ

ولو طالَ إيجافٌ بها وترحُّلُ

وهي بساط بعيدٌ مترام لا يتناهي، فهو أبدًا أمام السَّفْر. كلما ساروا وأوغلوا، لم يستقبلوا إلَّا أرضًا ولا شيء إلَّا الأرض، فهي:

تُقَطعُ أعناقَ الركابِ، ولا ترى

على السير إلَّا صِلْدِمًا ما تَزَيَّلُ

إذ كل من أراد قطعها شَقِى في طَيها حتى تكاد أعناق ركابه تنقطع، وهي هي لا تنتهي حتى يخيل إليك أنك لم ترحل فيها عن مكانك، فكأَنك ركبت من هذه الأرض راحلة شاقة صلبة لا تفارق مكانها:

ولو جُعلَ الكُور العِلافي فوقها

وراكبُهُ أعيتْ به ما تَحَلْحَلُ

فلو وضع الرحل فوق هذه الراحلة، أي الأرض، ثم علاه الراكب، لأبت ولم تتحرك من مكانها. ومع ذلك فإِن راكبها لو أراد أن تتحَرك به فإِنهُ:

يرى الموت إن قامت، وإن بَرَكت بهِ

يرى موتَهُ عن ظهرها حين ينزلُ

فإِن الأرض إذا همت براكبها وارتفعت عن مكانها فذلك نذيرٌ بفناء الكون وقيام القيامة؟ وإن ثبتت به لا تتحرك فإِنه يرى ويستيقن أن ساعة موته قد دنت لينزل عن ظهرها. وهذه هي الأرض المفنية المحيية التي وصفها. فلما قارن بينها وبين الراحلة التي تُركب لتقطع عليها مسافة الرحلة، أتى بالدليل على ذلك وهو: أنها:

تُرَى ولها ظَهْرٌ، وبطنٌ، وذِروَةٌ

وتشرب من بَردِ الشراب وتأكلُ

ص: 756

فالبطن جوفها الذي يغيب فيهِ كل شيء وكل حي إذا فارق الحياة الظاهرة، وظهرها جلدتها من الثرى والرمال، وذروتها وسنامها هذه الجبال، وإنها -أيضًا- لتشرب ماءَ الأمطار إذا نزلت عليها، وتأكل كل ما يلج في بطنها من شيء.

فهذه الأبيات في صفة الأرض، وهذا الخيال الذي توهمها، هو خيال الفتى المتأمل الذي بدأ يقف على مكامن الأسرار، لينفذ إليها، ويكشف عنها ببصيرة الشاعر الفنان المصور. وفيها سُخْرِية الضمير من الحياة التي لا معنى لها إلَّا الإجهاد الذي لا ينتهي، وفيها قوة "ابن البادية" الذي يستطيع أن يلم شعث الأَشياء المتفرقة ليستفيد من النظر إليها، ثم يلقيها ساخرًا مستخفّا لا يبالى. فما أمُّ أولادٍ ثكول. . . إلَّا مطية لها "ظهرٌ، وبطنٌ، وذروةٌ، وتشرب من برد الشراب وتأكل"، فمصيرها مصير كل مطية، هو الموت، هو إقبال الفناء بالهدم والتدمير، فمن وثق بالبقاءِ عليها وهي فانية فقد جهل وضلّ.

ثمَّ لا يزال الفتى، في أشواقه وتأملهِ، يقطع البيداء في الرحلة بين الديار والقبائل، في صحراء فاتنة ساحرة، ومَوْماةٍ مَخُوفة مَهُولة:

ومَهْمَه دَوِّيَّة مِثْكالِ

تَقَمّسَت أعلامها في الآلِ

كأنما اعتَمَّت ذُرَى الجبال

بالقزِّ والإِبْريسَمِ الهلهالِ

في كل لمّاعٍ بعيد الجالِ

تسمعُ في تيهائه الأفلال

عن اليمينِ وعن الشمال

فَنَّينِ من هماهم الأَغوالِ (1)

ويرى بقر الوحش، والثيران، والظباء، والنعام، والقطا، والجندب، والحرابى، والغراب، والذئب، فيرى ويسمع وينصت ويتأمل، وتستجيش نفسُهُ إليها صورًا من خياله القوي العنيف، فتترك الباديةُ وَسْمَها عليهِ، ذلك الوسم الذي لا يفارق من وَسَمَتْه بهِ. ولكنهُ على ذلك حائر لم يجد دنياه التي رآها أول ما أومض في قلبه ذلك الضوءُ المتدارك الذي لم يلبث أن خَفت. إنهُ يبحث عنها في

(1) المهمه: الفلاة. الدوية: تسمع لها دويًا لخلائها. وتقمست: تغوص ثم ترتفع. والآل: السراب والأعلام: الجبال. واللماع: السراب اللامع. بعيد الجال: بعيد الجوانب لا شاطئ له. والتيهاء: التي يتاه فيها. والأفلال: التي لا يصيبها المطر. والأغوال جمع غول. (شاكر)

ص: 757

كل وجه. ويطول بحثه وفكره، وتتهيأ نفسهُ مستعدةً للتلفي أعظم أستعدادٍ، إنها نفس دقيقة حساسة لا تتبلّد.

وجاءَ القدر، فيخرج الفتى هو وأخوه "مسعود" وابن عمّه "أوفى"، في بِغاء إبل ضلت لهم، ويدخل على "مى" وهي تتغنّى (1). ذلك الصوت الذي يتحدر من سمعه إلى قلبه فيرسل فيهِ قشعريرة الإفاقة من إغماءِ طويل كان فيه هذا القلب. إن ألحانها قد أضاءَت فيه نبراسًا من النغم لن تزيده أعاصير الحياة إلَّا ائتلافًا وضياءً. ذلك الحديث بينها وبينهُ -وهي تصب له الماءَ في قربته- سيزيد على مرّ الأيام جدَّة في حقيقة روحهِ. أيُّ تعبير في الحياة كلها عن الفن والجمال هو أروع من هذا المنطق الرخيم، تفترُّ عنهُ ثناياها كما يفترُّ الفجر عن صباحهِ؟ أيّ فتنة في هذه الدنيا هي أنبل من حرّ هذا الوجه الأسيل المخروط المسنون الذي صقَلتهُ أسحارُ البادية وآصالها؟ أيُّ لذة في هذا الوجود هي أمتع من هذا الجِيدِ المتمرّد على جسد أهيف أملود يتحدَّى كل قوة في كل جمال؟ أيُّ متاع في هذا العالم هو أغنى من هذا الشَّعَر الجَثل الأثِيتِ المتموج على متنها، ينادى كل عاطفة لتضل في دياجيه الساحرة؟ أيُّ دنيا هي أعمق أسرارًا من هاتين العينين الصافيتين تسبح في صفائهما الروح إلى الغاية التي تُرَى ولا تُدرَك؟ ؟

وينصرف الفتى من لقائها، وفي سمعه نغماتها، وفي عينيه صورتها، وفي قلبه هواها، وفي روحه لذة خالدة تزداد على الأيام عِتْقًا ونفاذًا. فلئن أشقاه الحرمان بالرحيل، فلشدّ ما أسعده أن وجدها. فهو بين اللذة والألم يتردد، ولكنه في شَجوٍ يطربهُ كما يحزنة، ينال بأثريه في قلبه فرحةَ وجودها. لقد تزوّد منها نظرة وابتسامة وحديثًا. أنسته النساء وما فيهنَّ، وصرفته إلى طيف يُلم بهِ في مضجعهِ، ويعارضه في طريقه. يناديه إذا خَلا، فيأتيه جواب دعائه من أعماقه. . . صوتها، ألحانها، عيناها، كل شيء رآه منها أو سمعهُ يستجيب لهُ. ولكن القدر يعدُّه ليتلقى من "ميّ" ما هو أعظم من الفرح بحبها ووجدانها، فيتركه ينطوى

(1) انظر مقتطف فبراير 1943 ص 125 - 130 (شاكر. وانظر الجزء الثاني من المقالات ص: 742

ص: 758

عليها، ويتسلى بها في خلوتِه فرحًا أن يزورها من عامهِ في ديار أهلها كما زارها من قبل. فيرجع إلى ديار بني مِنْقَر، لعامه هذا، فيجد القوم قد ارتحلوا عن منازلهم "بالوحيد"، فيقف على ديارها يسائل نفسه عن ميّ وأهلها، وكذلك يعرف الفتى منذ اليوم ما معني الوقوف على الديار، وما لذة مساءلة الأطلال، يعرفها تجزبة في قلبه، لا معرفة من شعر من سبقهُ. فإذا عاد إلى دياره -مؤملًا أن يعود إلى "ميّ"، فرحًا بما عرف من لذة الوقوف على أطلالها- قال:

"هل تعرفُ المنزلَ "بالوحيدِ"

قَفْرًا محاهُ أبدُ الأبيدِ؟ "

"والدهرُ يُبلى جدَّة الجديدِ! !

. . . ."

فإِذا أتمَّ تساؤله، وعرف لذة ما كان فيهِ من موقفه هناك، أجاب نفسه فقال:

"نعم! فأنتَ اليومَ كالمعمود

من الهوى أو شَبَهُ المورودِ"

يجيب نفسهُ مختالًا: نعم، ثم يصرف القول كأنهُ يخاطب آخر غيره فيقول له متعجبًا نعم: لقد عرفت، فأنت في يومك هذا كالمريض الذي هَدَّه المرض فهو يُسنَد من جوانبه ليستوى، أو مثل المحموم الذي وردتهُ حُمَّى نافِض (1)، فتلك الحمى هي ما وجدتَ في روحك من قشعريرة الشوق والذكرى. ثم يصرخ يناديها:

"يا ميُّ! ذاتُ المبسمِ البَرُودِ

بعد الرقادِ، والحشا المخضودِ"

"والمقلتينِ وبياضِ الجيدِ"

ولكنهُ يعود فيذكر حديثها إذ قالت له -وهي تصب الماء في قربتهِ- تلومه على ارتكاب السفر، وهو صغير حديث السن، فيقول: يا ميُّ!

"أهلكتِنا باللومِ والتفنيد"

أهلكتنا! عجيب هذا الفتى البدوى كيف يرقّ ويقسو، ولكنه يعود فيعتذر لنفسهِ عن ملامتها وتفنيدها. مسكين! إنهُ يخاف عليها حتى في خلوتهِ وشعره، فيقول: هذا عذرها، إنها

"رأت شُحوبى، ورأت تخديدى

من مُجْحِفاتِ زمني مِريد"

(1) يقال: أخذته حمى نافِضٍ (على الإضافة) وحمى نافِضٌ (على الوصف).

ص: 759

"نقّحنَ جسمى عن نُضار العود

بعد اهتزاز الغُصُن الأملود"

ثم يعود فيقول: كيف أعتذر لها؟ إنها رأت هواى لها فصدَّت عني، فيقول لها:

"لا! بل قطعتِ الوصل بالصدودِ"

ألم يكن ذلك كذلك؟ وإلا فلمَ:

"قد عجبتْ أختُ بَني لبيد

وهربتْ مني ومن مسعود"

وإذن فهو الصدود والإِعراض بعد الوصل. أجل! إنها أيضًا تخاف أن يكون بيني وبينها هوَى غالبٌ، وبيّنة ذلك أنهُ لا يمكن أن يكون سرُّ صدودها أنها:

"رأت غلامي سفرٍ بعيد

يدَّرعان الليل ذا السدود"

"مثل ادِّراع اليَلْمَقِ الجديد"

كما تدعى، فإن هذا الأمرُ لا يوجب دهشةً ولومًا وتفنيدًا، وإذن فهو الصدود، هو الصدود يا ميُّ! ! ويبيت يمنى النفس بغدٍ يراها فيه، فهو يتهيّأ لها، ويزوّر الأحاديث في نفسه للقائها، ويومئذٍ تجد صدُودها وإعراضها قد انقلب شوقًا وصبابة وإقبالًا على فتاها! هكذا كان يقول ويقدِّر، والقدرُ من وراءِ الحجُب يقول: على رِسْلك أيها المغرور! !

ص: 760