الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عدوى وعدوكم واحد
!
أخي علال الفاسي. . .
. . . لقد أوشكت أن أقول "عدونا وعدوكم واحد"، ولكني آثرت أن أسند العداوة إلى المفرد: لأسباب كثيرة منها: أننى أحببت أن تكون هذه الرسالة كأنها موجهة إليك من كل قارئ، بل من كل عربي، فأنت تسمع أصواتهم جميعا، تعج في مسامعك بلفظ واحد:"عدوى وعدوكم واحد". وبذلك ترى آلافا مؤلفة قد رفعت لعينيك وأن تقرأ، وكل منهم مستقل بعداوته، فإن غاب واحد أو اثنان أو ثلاثة أو عشرات لم يقدح ذلك شيئا في كثرة الداعين والهاتفين. ثم هو أدل على أن استقلال كل فرد بعداوته ينطوى على عزيمة ونية ثابتة لا تتحول ولا تتأثر بتغير الأحوال، وعلى أن كلا منهم لا يرى أنه فرد مسوق في جمهور صاخب، بل يرى أن الآلاف المؤلفة من حواليه صور قد لبست الفكرة فعاشت بهم، ومشت بهم، ونطقت بهم وستعمل بهم عملا ينبغي أن يتم لأنه إرادة وعزيمة ونية وهدف، لا حياة إلا بتحقيقها جميعا.
بل لعلي آثرت هذه الصيغة ليكون قارئها في هذه الصحيفة، مستشعرًا معنى العداوة في نفسه، وهو يخاطبك من خلالها بلسانى، فإذا ألح عليه تأمل هذا المعنى فتح عينيه على حقيقة العداوة، ما هي؟ ولمن هي؟ وكيف تكون؟ والإجابة على هذه الأسئلة الثلاث هينة، ولكنها تدلس بهوانها في بادئ الرأي. فهي في الحقيقة شاقة عسيرة، تحتاج إلى تفاصيل كثيرة، لو ذهب إنسان يحصيها، ويمحص ضروبها وأنواعها، ويميز بين طيبها وخبيثها، لاحتاج إلى مجلد ضخم، لا إلى أسطر في رسالة، أو مقالة في صحيفة، أو فصل في كتاب. ما العداوة؟ أهي مجرد البغضاء والحقد؟ إذن، فهي سفه وسوء خلق. أهي مجرد الشعور بأن تكره إنسانا ما، أو ناسا ما، لأنك تحس بهذه الكراهة بلا سبب بين عندك، أو بسبب بين ولكنه لا يزيد على أن يجعلك تكره وينطقك بهذه الكراهة؟ وإذن فهي إضاعة لجهد النفس، وإفساد لصحة الرأي. والعداوة بهذه
(*) اللواء الجديد، عدد 24 أغسطس سنة 1951، ص 3.
المعاني وأشباهها لا نبل فيها ولا شرف. وأختصر هذا التفصيل إلى ما تحققته أنا في نفسي من معنى العداوة، ولست أشك أنك قد تحققت مثله، وأن كثيرين غيرنا عرفوه وأدركوه. فنحن نعادى الاستعمار -مثلا- لما فيه من بذاءة العدوان على أصحاب الحرية، ولما فيه من فجور الطغيان على الضعيف العاجز، ولما فيه من الشره على احتياز الخير لنفسه ومنعه عن أهله ومن هم أحق به، ولما فيه من خسة الهدف لأنه يعمل على إسقاط همم الناس والتغرير بهم وتنويمهم حتى لا يفيقوا فيستخرجوا حقهم بأيديهم من الغاصب، ولما فيه من لؤم الطبيعة الدافعة إلى احتقار جماعات من البشر، لا لشيء إلا لحب المال وحب السيطرة، وحب العلو في الأرض، ولما فيه من التفريق بين بنى آدم على أساس المعدة والشهوة والترف، ولآلاف من المعاني الرديئة التي لا يحصيها حصر، ولا يجهلها سليم الفطرة من الناس.
فنحن نعادى إذن هذه المعاني الخسيسة، لنحب أضدادها من المعاني النبيلة، وذلك لا يتيسر إلا بإدراك كل هذه الخساسة التي يتضمنها الاستعمار، فإذا أدركناها فعلينا أن نجتنبها في الخاص من أمورنا نحن وفي العام منها. فأول معاني العداوة إذن هو إدراك الخسيس وتجنبه، وإدراك النبيل والعمل به والحرص عليه. وتحصيل ذلك يتطلب من كل فرد يعادى الاستعمار أن يدور بعينيه وبرأيه وبفكره في كل ما يحيط به ليعرف مواضع الخسة واللؤم والبذاءة، ويفعل مثل ذلك في تمييز المروءة والنبل والطهارة وأعمال الفضيلة، ويمثل معانيها أعمالا في نفسه باتباعها، وبدعوة إخوانه إلى فعل ما يفعل، ونهيهم عن ارتكاب هذا الحشد البغيض من مثالب الاستعمار، وأخلاقه التي أنشأته ومكنت له في الأرض.
ونحن لا نعادى الاستعمار، إذا نحن لجأنا في مقاومته وقتاله إلى نفس الأخلاق التي منها نبع. ولا نعادى الاستعمار إذا عشنا حياتنا بما يعيش هو به من الطغيان على الضعيف والعاجز، ومن الشره الظالم لحقوق الناس، ومن الخسة في التغرير بهم وتنويمهم وإسقاط هممهم، ومن لؤم الطبيعة في إحتقار بعضنا بعضا، ومن حب المال والسيطرة والعلو في الأرض، ومن جعل حياتنا معدة وشهوة وترفا
ومتاعا لا نبالى معه أن نظلم ضعيفا، أو نجور على غير قادر، أو نغتال حق رجل منا لا فضل لنا عليه ولا ميزة، إلا أن يكون فضلا مغتصبا، وميزة ندعيها.
وإذن فالعداوة، إدراك صحيح، وعمل صادق، إذا لم يتحققا جميعا صارت العداوة لغطا نتشدق به، لا معنى له ولا خير فيه. وهي شيء ينبغي أن يحققه كل فرد بنفسه وفي نفسه أولا، مستقلا عن سواه بمجهوده وعمله، ثم يصير الأمر عمل جماعة لأن الفكرة الواحدة كالضوء مصدرها واحد، ولكنها تجمع الآلاف وتنير لهم الطريق، كل على قدر ما يستطيع، وبقدر ما أوتى من بصر ومعرفة، فكلهم يعمل، لأنه يرى ويبصر ماذا يعمل وفيم يعمل. هذه واحدة، لعلى وفقت في بيان بعض معانيها.
أما لمن تكون العداوة؟ فأظننى قد بينت عن العدو، وهو الاستعمار، ولكنه بيان غير كاف. وأشهدك على أن بيانه متعبة شديدة، فهو متلبس بكل شيء. متلبس بهذه الدول الطاغية التي تتناحر فيما بينها على غير معنى نبيل للحياة الإنسانية، والتي اعتدت على أكبر جزء من العالم لتستغله وتستعبده، وتبقيه أبدا غير مطيق للنهوض بنفسه، إلا معتمدا عليها. وهو متلبس بنفس الحضارة، التي تحاول أن تزعم نفسها حضارة إنسانية شاملة، وهي ليست إلا حضارة نابتة في جزء صغير من العالم، ويريد أن يفرضها على العالم كله بسيئاتها جميعا، وذلك الجزء الضخم من العالم لم يشترك في إيجادها ولا في رعايتها ولا في إمدادها والقيام عليها. وهي حضارة لا تقوم على فكرة تدعو إليها، بل على سيطرة تريد أن تضربها على قلوب الناس وعيونهم وبصائرهم، ولا أصل لها في هذه القلوب، وهي لا تهدى عيونهم، ولا تنير بصائرهم، بل تقودهم بعمى الشهوات والفتن والجهالة، إلى غرض واحد، هو أن يعيش هذا الضرب من الحضارة سيدا على هذه الأرض.
فنحن إذن ينبغي أن نعادى شيئا كثيرا، بل أشياء كثيرة تعترف عقول كثيرة أيضا بأنه جزء لا غنى عنه للحياة الإنسانية فيما يزعمون، ولكن هل يمنع ذلك أن يكون الحق حقا أبدا؟ مهما تنوعت أسماء الدول المستعمرة، ومهما كثرت،
فهي فيما ينبغي لنا أن نعرفه، دولة واحدة. ومهما تفرقنا نحن في الأرض التي خضعت لهم، فينبغي أن نكون عداوة واحدة لهذه الدولة، الواحدة الحقيقية، المختلفة الأسماء. والحضارة التي قامت في هذه الدول، نبعت فعلا من نفس الأخلاق التي جعلت الاستعمار كما وصفناه طاغيا باغيا شرها خسيس الغرض، لئيم الطبع، جريئا على إهدار الكرامة الإنسانية. فينبغي إذن أن نعاديها بنفس الأسلوب الذي نعادى به الاستعمار. وإذا ظن أصحاب هذه الحضارة أن حضارتهم ينبغي أن تشمل الأرض جميعا، بالأساليب التي يتبعونها في بثها، لتكون لهم ثمرة جهود العبيد الذين تستعبدهم لخدمتها فعلينا نحن أن نستيقن أن كرامة الإنسان لا يمكن أن تهدر، وإن إنشاء الحضارات شيء قائم في طبيعة الجنس البشرى، قد أوتى القدرة عليه منذ وجد على الأرض بلا أداة، ولا علوم، وبلا فنون، وبلا صناعات. ومن الجهل أن نعتقد أن الجنس البشرى يتقدم أو يترقى بهذه الحضارة، في حين نراه قد انقسم هذا الانقسام الشنيع إلى: طاغ ومحطم، إلى: ظالم ومظلوم، إلى: آكل ومأكول، إلى: حي يستأثر، وهالك يستغيث. ولن يضيرنا شيئا أن نعادى هذه الحضارة، لأننا بالفطرة قادرون على إنشاء حضارة أفضل منها، إذا أقمنا عداوتنا على الأصل الصحيح، وهو بغض الفساد، وحب الإصلاح، وكراهة الشر وإلف الخير، وتحقيق معاني ذلك كله في حياتنا كلها بالليل والنهار، في بيوتنا وشوارعنا، في معاملاتنا وخصوماتنا، في صغير أمورنا وكبيره، غير غافلين ولا متهاونين ولا متعجلين أيضا، فعندئذ سوف ينبثق على هذه الأرض نور جديد يمحو هذه الظلمات الباغية التي أطبقت على العالم، وسنكون نحن هداة هؤلاء -الذين عاديناهم- إلى طريق صحيح، يعرفون به كرامتهم، لأنهم عرفوا للناس كرامتهم، ويهتدون إلى السكينة التي فقدوها في عالمهم هذا، لأنهم سوف يعرفون أن للحياة معنى أكبر من معنى الاستئثار والغلبة والترف.
ولن نبلغ هذا المبلغ إلا بأن نبنى أعمال حياتنا على غير ما بنيت عليه أعمال حياتهم، ولو اتخذنا نفس أساليبهم، ونفس أفكارهم، ونفس أضغانهم على
الجنس البشرى فنحن إذن مثلهم في الشر، بل هم أقوى منا فيه لطول ممارستهم له، ولاجتماع قوى الشر كلها في أيديهم، بل أفظع من ذلك أننا لن ننال شيئا من الحرية، لأننا أتباع مقلدون، نشعر في أنفسنا أننا أتباع وخدم، وإننا عاجزون محتاجون إلى هذا المدد المستمر من نفس عدونا. وبئس المصير!
أما السؤال الثالث، فخيل إلى أنى أجبت عن بعضه في تضاعيف كلامي، وأنا أدع لك تفصيل وجوهه وأسبابه ووسائله فإن ذلك يسير عليك، وعلى كل إنسان صدقت عداوته لعدوه، وعرف الحق فاتبعه في نفسه قبل أن يحمل الناس عليه ويدعوهم إليه. والسلام.