الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاتجاه الغامض إلى المعنى المبهم الذي تضمنته كلمة "التجديد"، وأنى هذا الرفض الخفي للثقافة التي كان ينبغي أن ننتمى إليها، وإلى الانحياز الكامل إلى قضايا الفكر والفلسفة والأدب والتاريخ التي أولع الأساتذة بتلخيصها لنا، لكي نلحق بثقافة العصر الذي نعيش فيه، وبمناهجه في التفكير، كما صوروا لنا ذلك في خلال ما يكتبونه! ! وغاب عن الأساتذة الكبار أن الزمن الدوار الذي يشيب الصغير ويفني الكبير، هو الذي سيتولى الفصل بينهم وبين أبنائهم الصغار الذين كانوا يتعلمون اليوم على أيديهم. والقصة تطول، ومع ذلك فليس هذا مكان قصها على وجهها، إذا أنا أردت أن أقيد ما كان، كما شهدته فيما بين سنة 1928 وسنة 1936، بل إلى ما بعد ذلك إلى يومنا هذا". (مقدمة المتنبي ص 37، 38).
فهذا كما ترى -هو الفصل الذي جاء فيه ذكر "التفريغ"، وهو شهادتى أنا على جيلى الذي أنا منه، وهو جيل المدارس الذي فرغ من ثقافة أمته، وتقطعت علائقه بينه وبين حضارتها على وجه بشع لا تزال آثاره هي الغالبة إلى يومنا هذا، وكما ترى وكما تستطيع أن تتحقق، ليس فيها ذكر للدكتور طه على الوجه الذي ذكره المقالح، ومن أحب من القراء أن يرجع إليه، فليرجع إليه، أقول ذلك مخافة أن يفقد الثقة بما أقول، كما سيفقد الثقة بأقوال الدكتور المقالح.
وبعد أن فرغت قلت مباشرة: "ومع ذلك، فأنا أحب أن أقرر هنا حقيقة أخرى، تعين على توضيح هذه الصورة التي صورتها، وكنت أنا أحد شهودها سنة 1928 - 1936، فصورتها فيما سلف. فالدكتور طه حسين -وهو أحد الأساتذة الكبار- سوف يشهد في سنة 1935 شهادته هو، من موقعه هو، أي من موقع الأستاذية، من وجهة نظره هو، ومن دوافعه هو إلى الإدلاء بهذه الشهادة"(المقدمة ص: 39).
كتاب الشعر الجاهلي
ثم في (صفحة 40 من المقدمة) عدت فتعرضت لكتاب الشعر الجاهلي، وأثره على جيلنا نحن، جيل المفرغين، وما ألقاه علينا وقاله الدكتور طه، وزعم
أنه "منهج الشك" فقال فيما قال عن هذا المذهب بلفظه من كتاب الشعر الجاهلي "إن هذا المذهب سوف يقلب العلم القديم رأسا على عقب، وأخشى -إن لم يمح أكثره- أن يمحو منه شيئا كثيرا". وبينت ما قاله بعد ذلك مما يدل على الاستخفاف بكل شيء، وقيدته بنصه من كتاب الشعر الجاهلي. ثم شهدت بعد ذلك شهادتى على الجيل الذي أنا منه فقلت:
"والاستخفاف الذي بنى عليه الدكتور طه كتابه معروف، أما الذي كان يقوله في أحاديثه بين طلبته، فكان استخفافه عندئذ يتجاوز حده حتى يبلغ بنا إلى الاستهزاء المحض بأقوال السلف، وأما الذي كان يدور بين طلبته الصغار "المفرغين" من ثقافتهم -كما قلت- فكان شيئا لا يكاد يوصف، لأنه كان استخفاف جاهل واستهزاء خاو، يردد ما يقوله الدكتور، لا يعصمه ما كان يعصم الدكتور طه من بعض العلم المتصل بهذه الثقافة، وعلى مر الأيام، كانت العاقبة وخيمة جدا"(المقدمة ص: 40). ثم ذكرت كيف كانت العاقبة، حين كبر هؤلاء الصغار، وحاولو أن يزاحموا الاْساتذة الكبار (كالدكتور طه) في موقع الأستاذية فقلت:"ولكنهم لم يسيروا سيرة الأساتذة في معالجة القديم. . بل كان الغالب على أكثرهم هو رفض القديم والإعراض عنه، والانتقاص له والاستخفاف به، وعندئذ أحس الدكتور طه بالخطر، وهو الذي أضاء لهم الطريق بالضجة التي أحدثها كتابه، في الشعر الجاهلي"(المقدمة: 41). ثم قلت بعد ذلك مباشرة:
"كان إحساس الدكتور طه بهذا الخطر الذي تولى هو كبر إحداثه، ظاهرا جدًا، ففي يناير سنة 1935 بعد تسع سنوات من صدور كتابه في الشعر الجاهلي -بدأ ينشر في جريدة الجهاد مقالات، . . كان محصلها رجوعا صريحا عن ادعائه الأول في سنة 1926، الذي أعلنه في كتابه، وهو قوله: إن الكثرة المطلقة مما نسميه شعرًا جاهليا ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأصداءهم، أكئر مما تمثل حياة الجاهليين، وأكاد لا أشك في أن ما بقى من الشعر الجاهلي الصحيح قليل جدا، لا يمثل شيئا ولا يدل على شيء".
ثم عقبت على هذا الذي قلته بما يأتي: "قد بينت في بعض مقالاتى أن الدكتور طه قد رجع عن أقواله التي قالها في الشعر الجاهلي، بهذا الذي كتبه في سنة 1935، وببعض ما صارحنى به بعد ذلك، وصارح به آخرين، من رجوعه عن هذه الأقوال، ولكنه لم يكتب شيئا صريحا يتبرأ به مما قال أو كتب، وهكذا كانت عادة الأساتذة الكبار! يخطئون في العلن ويتبرءون من خطئهم في السر! ! ".
ثم ذكرت ما قاله الدكتور طه في مفتتح مقالاته التي كتبها ونشرها بعد ذلك في حديث الأربعاء، في الجزء الأول منه، عن شعر الجاهلية، وذكر السبب الذي دعاه إلى كتابة ما كَتَب، وهو ما صاغه في محاورة بينه وبين صاحب له من جيلنا نحن، يرفض الشعر القديم كله، وصوّر إحساس هذا الجيل تصويرا كاملا، ثم قال:"وقد تحدث إليَّ المتحدثون بأن أمثال صاحبي هذا، قد أخذوا يَكْثرون، ويظهر أنهم سَيكْثرون كلما تقدمت الأيام"، فقلت أنا تعقيبا على ذلك:"وصدق ظن الدكتور طه، فقد كان ذلك، وكان ما هو أبشع منه"(مقدمة المتنبى ص 41، 42).
ثم سقت شهادة الدكتور طه على جيلنا المفرغ، وما كان من أمره وأمرهم، منقولة من مقالاته في سنة 1935، والمنشورة في حديث الأربعاء (في ص 43 - 44) ثم قلت:"وليس من همي أن أفسر هذه الشهادة، ولا أن أوضح مدى صدقها حيث صدق توقع الدكتور طه في تكاثر عدد من وصفهم من "المثقفين" في شهادته. . ولكن الذي يجب على أن أقول إن شهادة الدكتور على اختصارها، إنما هي وجه آخر لشهادتى التي كتبتها هنا، قالها هو من موقع الأستاذيه وقلتها أنا من موقعى بين أفراد جيلى الذي أنتمى إليه، وهو جيل المدارس المفرغ من كل أصول ثقافة أمته، وهو الجيل الذي تلقى صدمة التدهور الأولى، حيث نشأ في دوامة من التحول الاجتماعي والثقافي والسياسي، الذي أشرت إليه آنفا (مقدمة المتنبى ص: 45، 46).