الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - آلاء الرحمن في تفسير القرآن
تأليف محمد جواد البلاغى النجفي الجزء الأول -مطبعة العرفان بصيدا- سنة 1352
كان القرآن الكريم ولا يزال مادة البلاغة العربية بل مادة العقل العربي بل مادة الحياة الإنسانية العالية بآدابها وعلمها وفقهها وأحكامها ودولتها. نزل بهِ الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم فجمع الأمة بعد شتاتها وافتراقها على كلمة واحدةٍ في قلب رجل واحدٍ أينما سارت سجدت لها العروش ودانت لها الملوك وخضعت لها الرقاب واستقبلتها القلوب وانقادت لها النفوس وعلا بها الحقُّ وأضاء بها الوجود حتى إذا تمت لها المعجزة في إخضاع العالم للحق وإخراجه من ظلمات الباطل إلى نهار الحق بدأت طبيعة الحياة تفعل فعلها وتفتن فتنتها فمدَّت الشبهات أعناقها، وظهر الخلاف بين الناس إلا أن الشبهات كانت لأول عهدها خفية قليلة وكان الخلاف ضعيفًا متقاربًا ثم بدأ الجدل واللجاج والعناد الإنساني البغيض حتى استحكمت الشبهة وكثر الخلاف واتسع ما بين أصحاب الرأيين وتعصب هذا وتنطع ذاك فخرجت الفِرَق المتعادية والنِّحل المتخاصمة وبقى كل فريق يطلب النصر لرأيه لا للحق وبذلك اضطرب الحبل وفسدت الأمور واستحلَّ القتال وضعفت الدولة. وهذه صورة يتكرر ظهورها في التاريخ. ومن يتتبع أحوال الفِرَق وأسباب نشأتها وأطوار نموّها وضعفها يعلم أن الخلاف أو الشبهة التي يُبْنَى عليها المذهب ليست إلَّا كبوة عقلٍ واحدٍ في رجل من أصحاب الرأي انساق في آثارها وجرَّ وراءَه أمة من الناس تعصبوا، فأكبُّوا معهُ. ولا بأس أن ننقل هنا كلمة للجاحظ عن إبراهيم النظام رأس الفرقة المشهورة من المعتزلة بالنظامية. قال في كتابه الحيوان ج 2 ص 83 "وكان إبراهيم مأمون اللسان قليل الزلل والزيغ في كاب الصدق والكذب. . . وإنما كان عيبه الذي لا يفارقه سوء ظنه وجودة قياسهِ على العارض والخاطر والسابق الذي لا يوثق بمثله فلو كان بدل تصحيحه القياس التمس تصحيح الأصل الذي قاس عليه، كان أمره على الخلاص، ولكنه كان
(*) المقتطف، المجلد 83، ديسمبر 1933، ص: 618 - 620
يظنُ الظنَّ ثم يقيس عليه، وينسى أن بدء أمره ظنًّا، فإذا أتقن ذلك وأيقن جزم عليه وحكاه عن صاحبه حكاية المستبصر في صحة معناه، ولكنه كان لا يقول سمعت ولا رأيت" اهـ. وهذه صفة رؤوس الفرق جميعًا في كل ملةٍ وفي كل علم.
قدمنا هذه الكلمة بين يدي هذا الكتاب، لأن مؤلفه من علماء الإمامية، وهم فرقة من أهل الإسلام افترقت فيما بعد إلى فرق كثيرة وأصل عقيدتها إمامة عليّ رضي الله عنه وبقاؤها في عقبه، وللكلام على الإمامية وتفصيل مذهبها ذيول طويلة ليس هذا موضع ذكرها والذي يهمنا أن هذه الفرقة كان لها في الإسلام شأن عظيم وألّف في الردّ على مذاهب أهلها من الكتب شيء كثير. وقد قرأنا عنها مذاهب عجيبة لا يقرها عقل. ولم يصل إلى أيدينا من كتبهم إلَّا ما قرأناه من النصوص المنقولة عن كتبهم في الرد عليهم فسرّنى كثيرًا أن أرى بين يدىَّ تفسيرًا لعالم من علماء هذه الفرقة، وإن أجد هذا التفسير قد قرّب مسافة الخلف بين ما قرأتهُ عن الإمامية وبين عقيدتى وعقيدة أكثر المسلمين. وهنا لا نجد بدًّا من الإشارة إلى أن أهل الفرق والمذاهب لا يزالون في غفلةٍ عن الحياة. فهم يتقسمون أمرهم بينهم والعدوّ من ورائهم وأمامهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم يعد العدَّة ويتوثب للفريسة الغافلة ولا مخرج للعرب بعد اليوم إلّا أن يرجعوا إلى حكم الله إذ يقول {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} . ولابدَّ أيضًا من أن يرجعوا إلى كتابهم وسنة رسولهم مخلصين لا يؤولون ولا يحرفون الكلم من بعد مواضعه وأن يتركوا وراءهم ظهريًّا أقوال رؤوس الفرق وأئمتها فإنهم أصل البلاءِ ومادة الشر، ولا حياة لأمة على الأمر الذي لا يحوى الخلاف فيه إلَّا الفرقة والخصومة والشنآن (1) والعداوة المتوارثة ونسأل الله أن يجعل آخر أمر المسلمين والناس جميعًا كأوله ألفةً وارتباطا وصفاءً وعملًا خالصًا لله لا للشهوات والأهواء.
(1) الشنآن: البُغْض.