الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"
يحيى حقي صديق الحياة الذي افتقدته
"
علاقتى بصديقي يحيى حقي رحمه الله بدأت مع بدايات الحرب العالمية الثانية. أو بالتحديد في أواخر عام 1939 لتمتد حتى يوم زيارته وهو على فراش الموت في غرفة الإنعاش .. قبل رحيله ببضعة أيام، لتستمر هذه العلاقة أكثر من ثلاثة وخمسين عامًا استمرار حياتنا، فلا يقطعها إلا سفر له أو لي .. وقد بدأت هذه العلاقة بداية غير مألوفة بالنسبة لي على الأقل. إذ زارنى السفير عثمان عسل، ودارت بيننا أحاديث أحسست خلالها بأن هناك ما يريد أن يقوله، وإذ هو بقائله. وخلاصته أن هناك صديقًا عزيزًا لديه ود التعرف بى. وهو على استعداد لزيارتى. هذا الصديق هو يحيى حقى. وينبهنى عثمان عسل بأمر ربما فزعت له في حينه، وهو أن لا أشتد في المناقشة أو أغلظ في القول معه قائلًا:
"إن يحيى حقى إنسان عذْب الحديث رقيق الحاشية دمث الخُلُق .. فنان إلى أبعد الحدود فلا تشتدّ عليه".
وقد عجبت لهذا التقييم غير المتوقع .. فلا أنا مُغلظ في القول لأحد يزورنى، وليس ما أسمعه عن يحيى حقى ليستحق شدة الجدل أو المناقشة.
وجاء الاثنان يحيى حقى وعثمان عسل. وتحدثنا ساعات طوالًا وتفرّع بيننا الحديث إلى أكثر من اتجاه. حتى حان موعد انصرافهما. وخلال عبارات التوديع التقليدية. نظر إليّ يحيى هذه النظرة الوَدود الحانية وقال برقة بالغة: "أتسمح لي أن أزورك مرة ثانية؟ ".
وعلى قدر ما راعتنى منه هذه المودة وذلك اللطف، بقدر ما كانت دهشتى وعجبى لهذا الطلب الذي لم أتعوّده. فوجدت نفسي أقول له مندفعًا:"يا أخي البيت بيتك وأنا أخوك. وزيارتك لي حق لك ودَيْن عليّ. ثم إن أبغض الأشياء إلى النفس أن توضع الحدود والقيود بين البشر".
(*) جريدة "الأهرام" -العدد 38728 - 18/ 12/ 1992 - ص 8
وفي اليوم التالى فوجئت بمكالمة من وزارة الخارجية ليكون المتحدث هو يحيى حقى حيث كان يعمل بها لتنتهي بطلب الزيارة. وفي هذه اللحظة أيقنت أن يحيى هو صديق الحياة الذي لا يمكن الإبتعاد عنه إلا بالموت و {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} .
واستمرت هذه العلاقة كما قلتُ ثلاثة وخمسين عامًا. وازدادت قوة مع الأيام إلى درجة أنه ترك بيت العائلة وأقام معى في بيتى عشر سنوات لا نفترق فيها قط، ولم يقطعه إلا زواجه الأول من والدة كريمته "نهي" ليعود إلينا بعد وفاتها مواصلًا هذه العلاقة مع إخوة كرام في مقدمتهم فتحي رضوان، وعلى محمود طه ومحمود حسن إسماعيل، ومحمد لطفي جمعه وإبراهيم صبرى ابن شيخ الإسلام مصطفى صبرى المنفي في تركيا وعثمان عسل.
كانت علاقتى بيحيى حقى مزيجًا من صلات العمل العلمي والأدبى، وخلافات في الرأي ووجهات النظر، مع تباين واضح في الأمزجة والطباع وتبادل لمحات الفكر، وجوانب المعرفة. والحق أنها كانت صُحبة عظيمة خيل إليّ بعدها أننى كنت أعرف يحيى حقى منذ عشرات السنين وذلك لدماثته وأدبه وصفاء نفسه.
كنا ننفق وقتًا طيبًا في قراءة الأدب العربي القديم شعره ونقده ونثره وتاريخه. وكان يحيى أكثر الموجودين التقاطًا للتعبيرات والألفاظ وأسرعهم حفظًا للشعر. كنا نلحظ ذلك إلى درجة أننا فسرناه أنه يريد أن يُحَصِّل في ساعات وأيام ما لم يُحصِّله في شهور وسنين. وكنت والرفاق نعجب لذلك. ويزداد عجبنا حيث نلحظ تنبهه إلى جمال العبارة العربية، واكتشافه المبكر لأسرار بلاغة العرب، وقدرته الفائقة على اختزان كل ما يعرف وتمثله فيما يكتب بأسلوبه وعباراته بغير محاكاة أو تقليد. وإنما باقتدار وفن. براعة جعلته لا يقع فيما يقع فيه غيره من النقاد والأدباء. وهو ما أكسبه شخصية متميزة ومستقلة قائمة بذاتها كامنة في نفسه لا تظهر إلا عند الكتابة أو الاحتكاك بالآخرين. وعلى امتياز يحيى حقى وتفوقه في المجالات التي اختارها لنفسه. كنت ألمح فيه شفافية من الصعب أن
ألمحها في غيره. إلى درجة أنه كان يستشعر أمورًا يصدق فيها دائمًا. ولعله استشعر نهايته في الأيام الأخيرة قبل وفاته حيث أكد لي بأنه يعيش الأيام الأخيرة من حياته. ولم يمض على ذلك إلا أيام دخل بعدها غرفة الإنعاش لأزوره، وتنبهه كريمته قائلة: عمى محمود شاكر. فيرد عليها وقد ضعف بصره تمامًا: أنا لا أعرف أحدًا بهذا الإسم. أعرف محمود محمد شاكر وكأن اختصار ابنته للاسم لم يقنعه. لقد كان يحيى حقى بالنسبة لي أخًا وصديقًا سرنا معًا في زمن واحد، ومشينا في طريق واحد، وكنا ننتهي إلى غاية واحدة ولم يتخلَّف أحدنا عن الآخر حتى فرّق بيننا الموت وإنا لله وإنا إليه راجعون.