الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المتنبي
في شهر يناير الماضي صدر عدد المقتطف وفيه كلمة قد استغرقت العدد كله عن أبي الطيب المتنبى ذهبت فيها مذهبا، ولا أدعى العصمة، ولا علو الكعب في الآداب ولا حسن المنطق في الحجة.
وقد كانت كلمتى عن أبي الطيب بدءا لطريقة انتهجتها في ترجمة الرجل، لم أتعبد فيها بأقوال الرواة تعبد الوثني للصنم. وقد ظهر العدد من المقتطف ولم أحاول بإخراجه شهرة، ولا إعلانا عن نفسي ولا أدبى. وقد احتفي الناس به في الشام والعراق ومهجر أمريكا وغيرها من بلاد العرب والعربية، وخلت صحف مصر من الكتابة عنه إلا قليلا قليلا. . . ومع ذلك فما سعيت إلى أحد أن يكتب لي عنه، أو يذكر الناس به، فقد كان من توفيق الله أن نفد عدد المقتطف في شهر ظهوره، ولم يبق من مطبوعه شيء.
وكان مما ذهبت إليه في كلمتى ما أثبته هناك من الشك في أن المتنبى كان كما زعم الرواة ابن سقاء، .. ثم سقت القول على هديه وطريقه ورجحت أنه كان عَلَوِي النسب، وترجمت للرجل على هذا الأساس. وأنا حين فعلت ذلك، وكتبت ما وفقت إليه في رد السقاءة عن المتنبى، وإظهار بطلانها، وبطلان كل هذر مما لجَّ فيه بعض من نتهم من الرواة، لم أرد (أن أنفي عنه عيبا، أو أضيف إليه مفخرا جديدا)، ولم أرد أيضا (أن أذكر المتنبى فأحسن إليه، وأحمد الخبر عنه، وأسبغ من دفاعى ستارا على عيبه) ليقول الناس عني (إني قد أوتيت الحكمة، وبلغت نهاية الفهم، وصرت مستحقا لاسم الأدب، وداخلا في جملة الموسومين عند الناس بالأدباء. . .). لقد كتبت كلمتى وتركتها، وكنت أظن أن النقاد من أهل عصرنا سيحرصون على حسن الهداية إلى الحق، كان ذلك لي أو علي ..
ولكن خاب ظنى في كثير من النقاد، فمن سكت منهم فقد تنصل، ومن
(*) جريدة الأهرام 13/ 6/ 1936
وافقنى فقد أخجلنى، وجاء بعض من خالف بأسلوب غريب في المناظرة. فمن ذلك ما قرئ على اليوم مما كتبه الأستاذ الجليل محمد هاشم عطية -المدرس بدار العلوم. وأنا قبل أن أنقل للقارئ قوله أعترف له أنى كنت متحرجا من التعليق على قوله لسابق فضله عليّ في عام من أعوام الدراسة بالمدارس الابتدائية، ولكني رأيت الأستاذ لا يتحرج من أن يذكر في مقاله رأيا لأحد من الناس غفلا غير منسوب إلى صاحبه، ولا إلى مكانه من الكتاب الذي نشر فيه، ثم يزيد فيرد على هذا الرأي بغير طريقة النقد العلمي الصحيح، ثم يزيد فيتهكم، ثم يزيد فيرمى الناس على غير علم بإرادة ما لم يجل لهم في خاطر.
فقد أصدرت (جماعة دار العلوم) مجلتها الجليلة الموفقة "صحيفة دار العلوم" العدد الرابع من السنة الثانية، وهو خاص بذكرى أبي الطيب المتنبى. ومن الكلمات الممتعة التي فيه كلمة الأستاذ محمد هاشم عطية عن (المتنبى وكافور). ويقول الأستاذ ص 80 و 81 من هذا العدد:
". . ونحسب أننا بما سنقضى به من بعض ما لاحظناه في أكثر ما كتب عنه في أيامنا الحاضرة، سنكون أبلغ احتفالا وأسنى تكرمة على حساب أننا لا ننفي عنه عيبا، ولا نضيف إليه مفخرا، ولا ندعى أننا سنزيل من أمره لبسا، أو نحل متعقدا إلا النظر في هذه المحاولة التي يراد بها إسناد المتنبى إلى غير أبيه، واستخراجه من غير معدنه، والادعاء بأنه علوى النسب، هاشمى الأرومة، والالتجاء في ذلك إلى التأويل للحكم والاتهام للثقة، والانتحال لكل حيلة، لتحصينه من كل تهمة، وتبرئته من كل مذمة، والتصدى لاحتمال المكروه عنه. مع أنهم يعلمون أن وضع الرجل في غير موضعه، وإعطاءه ما ليس من حقه، تهجين لشأنه وذم له. يظنون أن من ذكر المتنبى فأحسن إليه، وأحمد الخبر عنه، وأسبغ من دفاعه ستارا على عيبه -فقد أوتى الحكمة، وبلغ نهاية الفهم، وصار مستحقا لاسم الأدب، داخلا في جملة الموسومين عند الناس بالأدباء، لتوهمهم أن الناس لا يتجرأون عليه، ولا يقدر منهم على مسافات خواطره، ومسبح إلهاماته إلا الذين أصفاهم ربهم بالفطن، وأعانهم بتمام البصيرة، من المنحوتين
على مثالهم، والمنتخبين من طرازهم. ولكن ذلك على ما فيه من المناقضة للتاريخ الثابت، والمعارضة للصريح من النصوص، ليس بمغن عنهم شيئًا، ولا بنافعهم قليلا ولا كثيرا، ولا هو من الأمانة الأدبية التي لا أظن أن التمويه بخلافها يروج على العقول في أيامنا هذه. ومع أن الشاعر أسقط عن الناس هذه الكلفة، وأعفاهم من احتمال هذه المئونة، باعترافه في شعره، وتصريحه لممدوحيه، بأنهم أولى له، وأفضل عنده من أهله الذين لم يشرف بهم، ولا تناول ما تناول من المجد بأولهم ولا بآخرهم. وقد آثرنا أن نكتفي في الاستدلال على ذلك بحياته في مصر مدة انقطاعه لكافور، ونحب قبل تلخيص هذه الصلة أن نذكرهم بتقدمة صغيرة لهذا الأمير. .". ثم مضى الأستاذ على غير هذا الغرار الجاحظى في التحرير والكتابة. وسائر كلامه ليس عندنا بشيء حتى نقف عليه أو نحاول نقله.
وقد أراد أستاذنا كما اعترف في كلامه أن ينظر (في هذه المحاولة التي يراد بها إسناد المتنبى إلى غير أبيه .. إلخ) وقد اخترط المقالة كلها، ولم يأت بشيء يُعَدُّ نظرا في الذي كتبت عن نسب المتنبى، ولا نقدا لقولى فيه. ولكن لعلى لم أفهم، فأنا أرجو الأستاذ أن يدلنى على الذي في كلمته مما هو نظر أو نقد أو إسقاط لقولى. وليعلم الأستاذ أن للنقد الذي كتبه على نفسه بهذه الجملة طريقا لابد من انتهاجها، هو أدري بها وأعلم. وأول ذلك أن يذكر رأيي منقولا منسوبا، ثم حجتى متتابعة، ثم يعمل في ذلك عمل الناقد فإن شاء رفع وأن شاء أسقط. أما الذي سلك أستاذنا من مذهب القول فهو مما لا يخفض قولى ولا يرفع قوله.
ثم شرع الأستاذ ينظر إلى الجاحظ بطرف، ويقول عني ما يقول من أنى أحاول تأويل المحكم وأتهم الثقة، وانتحل الحيلة ثم يزيد ذلك أنى أريد تحصين المتنبى من كل تهمة، وأبرئه من كل مذمة، وأتصدى لاحتمال المكروه عنه. وأنا يعجزنى أن أرد على هذا القول! !
ثم لا يكتفي أستاذي بهذا بل يستبطن نفسي، ويتولج في دخيلتى ويزعم أنى أزعم أنى كتبت ما كتبت وأنا أظن أنى قد أوتيت الحكمة وبلغت غاية الفهم ..
إلى آخر ما تنبأ به من أمرى فجعل لي في الخواطر مسافات، وفي الإلهام سبحات! وأنا أسأل الأستاذ مرة أخرى أن يضع يد القارئ وعينه وعقله وفكره على موضع من كتابى تكون لي فيه هذه الدعوى مقولة أو مفهومة أو متوهمة. فإلى الأستاذ الجليل محمد هاشم عطية أسوق شكري أولا، ثم نصيحتى بعد، في أن يتجنب اتهام البرئ بالظن، واعتقاله بغير حجة بينة، وليأت بالبيان عن كل جملة في كلمته الجاحظية التي نقلناها، وليضع أمام القارئ جملته التي وصفني بها، والجملة التي وردت في كتابتى فحفزته إلى اختيار الأوصاف لي وصفا وصفا، وسأدع للأستاذ أسبوعا كأسبوع المتنبى يقرأ فيه ما كتبت مرة أخرى ليقول كلمته، ويجيب سؤالى وله الشكر أولا وأخيرا.