الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تاريخ بلا إيمان
أنا أعلمُ أنى استفتحتُ موضوعًا، لو شئت أن أستهلك فيه تلك الذُّبالة الخفاقة المترددة من بقيّة عمرى، لما استطعتُ أن أوفيه حَقه من البيان. فإن مادة التاريخ كلها تستقبلنى بقضها وقَضيضها، وتتذاءَبُ بين يديَّ أصنافُ الطبائع البشرية التي فطر الله الناسَ عليها -على ما علمَ هو سبحانه من اختلاف نفوسهم وساعاتهم وأيامهم وأجيالهم وعصورهم. وطبيعةُ رجُل واحدٍ حيّ، تعرفه وتعاشرهُ من ولد أبينا آدم صلى الله عليه، مشكلةٌ تعجز الفارس (1) البصيرَ أن يهتدى إلى ما يختبئ فيها من التناقض والتخَفي والتسرُّب. فما ظنُّك بإنسان لم يستبقِ لك الله منْه ما تعرفه به إلا نبذًا يسيرًا من أخبار تُروى، لا تستغرقُ سوى صفحة أو صفحات، ولقد قضى في الدنيا عُمُرًا من قبلُ، لو هو قُيّد وكتب بجميع ما أحدث فيه، لما وسعته المجلدات الضخمة؟ فانظر إذنْ أين ينتهي بك توهمك، وأنت تتحرَّى أن تتعرَّفَ خبءَ مؤلّفه من مثل هذا الإنسان، عاشت أعمارًا طوالا وقصارًا في طوايا الغيب الماضي، استنفدتها بأعمالها وخواطرها ساعة بعد ساعة، ويومًا بعد يوم، وعامًا بعد عام -في تاريخ متقادِمٍ متطاول يمتدُّ في غيب الماضي سبعين سنة، وثلاثمائة سنة، وألف سنة، أو تزيد! ! هذا تصوُّرٌ مثبطٌ للفكر، ولكنه ضرورة لا غِنى عنها للمؤرخ، وهو أشد ضرورة لمؤرخ يكتب تاريخ أهل الإسلام، ثم هو أفدح ضرورة لأنه تاريخ -ما علمتُ- يختلف اختلافًا مبينًا صارخًا عن كل تاريخ عهده البشر في سائر تواريخهم، ثم هو الضرورة الراسخة لمن ورَّط نفسه في تاريخ أهل القرون الأولى من الإسلام. بيد أنّ المؤرخ المسلم وحده هو القادر على أن يكتب تاريخ أهل الإسلام، وغيرهم إن شاءَ، على وجه يمكن أن يوصف بالنبل والفهمِ والصدق والأمانة والثقة- إذا هو حرَصَ على أن يتأدّب بما أدَّبه به ربه من أخلاق تَلزمه في معاملته، كما تصحبهُ في
(*) المسلمون، العدد الثاني، 1371 هـ / 1951، ص: 138 - 145
(1)
الفارس هنا: صاحب الفراسة.
تفكيره وبحثه، وإذا هو مكن في قلبه ونفسه الطاعة لما تركه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدب كان يؤدب به أصحابه ممسكا بِحُجُزِهم أنْ: هلموا عن النار!
وعلمُ ضمائر خلق الله علم قد استأثر به ربنا سبحانه علامُ الغيوب. ومع ذلك، فلست أغالى شيئًا إذا زعمتُ لك أن أكثر من ثلاثة أرباع تاريخ الدنيا، لم يجتمع ولم يتكوَّن ولم يصبح عملا في الأرض، إلا من خفيات هذه الضمائر. ونحن حينَ نرى نتائج أعمال البشر، والتي نزعمها أو نسميها تاريخًا، لا نرى إلا أثرًا شاحبًا متهافتًا مما استسرّ في جوانح خلق الله. وهذه الآثار ربما تشابهتْ عندنا تشابهًا غريبًا، مع أن الأسباب التي أحدثتها تختلف في حقيقتها وطبيعتها كل الاختلاف. فإذا خفيت الأسبابُ وتشابهت الآثار، فإجراءُ حكمٍ واحد على هذه الآثار المتشابهة خطلٌ وسوء رأي، وإعظامٌ في الفرية على الناس الماضين، وإغراقٌ في التضليل بالناسِ الحاضرين. وأنا لا أحيلك في معرفة مصداقِ ما أقول إلى التاريخ الماضي، بل إلى ما تشهدهُ بعينيك، وتسمعهُ بأذنيك، وتدركهُ ببصيرتك وفكرك من أحوال الناس الذين تعاشر، والتاريخ الذي يصنع الآن بمرأى منك ومسمع، ساعة بعد ساعة، ويومًا بعد يوم. فانظر كيف يحكُم الناس بعضهم على بعض، وكيف يفسر بعضُهم أعمالَ بعض، فإذا صح هذا عندك وتأملته، علمت لم أوثر أن أدعوك إلى تصوّر أزمنة التاريخ وخلائقه، تصوُّرًا طويلا عريضًا متراحبًا، يكاد يثبط الفكر الإنساني عن العناية به والإلحاح عليه.
وهذا الأصلُ الذي يكادُ يبلغُ مبلغَ البديهيَّ، أصلٌ متروك في التأريخ الحديث. وذلك لأن حضارة هذا القرن العشرين المتحدّرةَ من عصور المدنية الأوربية الوثنية والمسيحية، قد انبثقت من ضرورات اجتماعية وأخلاقية ودينية، لا يمكنُ أن تدع لمثل هذا الأصل مكانًا في التصوُّر، إلا شعاعًا ميتَ النور، ربما انبثَّ في بعض ما يؤلفون، محاطًا بظلمات شديدة من الجرأة والتهجم والافتراء والرجم بالغيب، والمبالغة في اعتداد المؤرخ منهم بنفسه، والإفراط في ثقته بقدرة عقله، والغلو في تحكيم ما يدَّعيه وما يفرضه على مادَّة التاريخ ورواياته، بغير بينة ولا حُجة.
ثم زاد هذا كله بشاعة حين نجمت طائفة المستشرقين، بأحقادها وضغائنها وسفاهة ألسنتها وسرائرها، وبدأوا يكتبون تاريخ الإسلام على أصولهم الفاسدة، ثم قام في الشرق العربي والإسلامي طائفة أخرى من أصحاب الأهواء، من بين مسلم وغير مسلم، فاتبعوهم وناصروهم، وأذاعوا بعلمهم، وأشادوا بمقدرتهم في التقصَّى وكمال مناهجهم في البحث، فنقلوا إلى العربية ثمرة هذه الأحقاد والضغائن، في كتب ألفوها، ونشرُوها وطارت بين عامة المثقفين، يتلقفها الإعجاب بها، والإفتتانُ بأسلوب قصصها وحكايتها وتحقيقها! وجاء هذا مع غلبة الحضارة المسيحية الأوربية حين تم لها سلطانها في أرض الشرق والإسلام، بالغزو الحربى والسياسي والأدبى والعلمي والاجتماعى والأخلاقى والثقافي عامة، فعشش في القلوب ثم باض ثم فرَّخ كما يقول الجاحظ. وانتهى الأمر بالعرب والمسلمين أخيرًا إلى أن يكون مصدرُ ثقافتهم وفكرهم عدوًا لهم من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون -تجد ذلك في كتبهم ومجلاتهم، وصحفهم، ومدارسهم ومعاهدهم، وفي معاقل دينهم كالأزهر وغيره. فسادَ من يومئذ الافتراء الكاذبُ سيادة تامة في الحياة العقلية والأدبية، وأصبح تاريخ الإسلام وأدبه وعلمه، منظورًا إليه من صميم أهله المتحمسين بعين تبغضُ، وقلب يعرض، ونفس تزورُّ عنه، ولم ينج من غائلة هذا الفساد إلا من عصم الله، وهي قلة قليلة هي اليوم في طريقها إلى الفناء، إلى الانقراض، إلى مصارع الأولين من أهل العلم والفقه والمعرفة.
من أجل ذلك البلاء المستفيض في حياتنا، وفي عقولنا، وفي دراستنا أقول دائمًا: إنه لا يغرنى من أحد دينه، ولا تقواه ولا علمه ولا جهاده ولا فضله ولا عقله، إذا لم يكن ذلك كله نابعًا من كتاب الله، ومن الحياة الإسلامية المهتدية بهدى الله ورسوله، غير مختلط ما استطاع بذلك الوباء الجائح الذي فرض علينا في صورة مدنية أو حضارة أو علم أو ثقافة. ومن أجل ذلك لم أزل أثور عند كل بثق ينبثق من هذا الشر، في شأن أبي بكر رضي الله عنه قديمًا، وفي شأن عثمان رضي الله عنه، وفي شأن صحابة رسول الله في أيام فتنة عثمان؛
لأن استشراء ضغائن المستشرقين، واستفحال منهج الحضارة الأوربية في الجرأة على عباد الله بالكذب المتهجم، وادعاء كل مدع ممن يحاول أن يكتب في التاريخ أو يقول: إن هذا هو حق الأسلوب التاريخي -كل ذلك قد مس النفوس والعقول، وأوقع فيها معاني لم تكن لتقع فيها، لو أن حضارة الإسلام وأخلاقه وآدابه وما نبع من هذه الأخلاق والآداب من أساليب العلم والبحث والفكر- بقيت هي السائدة في حياتنا الأدبية والعقلية والعلمية والاجتماعية.
* * *
إن المؤرخين الأوربيين، ثم المستشرقين خاصة، ثم من لفَّ لفهم من المتخطِّفين من فُتَات موائدهم من أهل هذا الشرق العربي والإسلاميّ -يزعمون أنّ للتاريخ منهاجًا أو منهاجين أو ثلاثة أو عشرة، هي كلّ ما يستطيع الباحثُ أن يعتمد عليه في دراسة كلّ تاريخ. وأنا أحبُّ أن أزعمَ أيضًا أن ليس فيها منهاج واحدٌ يصلح لدراسة تاريخ الإسلام، بل أشكُّ كل الشكّ في صلاحه لدراسة تاريخ أيّ الناس كانَ من غير المسلمين. وإذا احتاج المسلمون إلى إعادة كتابة تاريخهم، فحاجتهم لا تنتهي -أو ينبغي ألا تنتهي- إلى الشعور بفقرهم إلى إمام يقتدون به مقلدين، ثم يكونُ هذا الإمامُ منهجًا فاسدًا نشأ في تربة غريبة، ودعتْ إلى نشأته أسباب اجتماعية محدودة، وعلل أخلاقية وعقلية معينة. كلا، فإن تحكيم مثل هذا المنهاج، وفي هذا العصر الذي لوثت ثقافته منابع الفكر كلها وكدرتها، لا يؤدى إلا إلى شيء واحد: هو إفسادُ تاريخ أهل الإسلام إفسادًا يشقُّ إصلاحه. وفي الكتب الحديثة التي كتبها مسلمون متحمسون في هذا العصر، برهانٌ لمن تطلب البرهان، على مقدار ما ينجمُ من الضرر والفساد والعبث والتبديل والتحريف والافتراء، والجهل إن شئت -إذا انطلق كلّ حامل قلم، ليكتب تاريخ أهل الإسلام، على مثل هذه المناهج، وبمثل هذا القصور عن معرفة الحقائق الصريحة في الحياة الإسلامية، وبمثل هذا التقليد البشع للمستشرقين وأكثرهم من اليهود، وبمَثل هذا الإغفالِ الشديد للفرق بين الأصول التي قامت عليها حضارة هذا الإسلام وانفردت بها دون سائر الحضارات، والأصول التي
قامت عليها حضارة سائر أمم الأرض؛ وتناولها المؤرخون بالبحث والتنقيب والكتابة والتصوير.
وإذا كان الهاتف الذي هتف بالناس أنْ: "افهموا الإسلام فهمًا جديدًا" قذف بالمسلمين وبعقولهم وأهوائهم في متاهة لا يعلم غايتها إلا الله وحده، فإنه حين هتف أيضًا بهم أن:"افهموا تاريخ الإسلام فهمًا جديدًا"، أوشك كما قلتُ أن يهوى بتاريخ أهل الإسلام وأئمته في ظلمات مطبقة لا يطلع على خبثها إلا عالم غيب السموات والأرض. وقد مارستُ دعوَى من اتبعوا هذا الهاتف سنين، ولا أزال أمارسها وأتتبعها، فأدركتُ أن شيمة هذا العصر الوبئ، هي الغالبةُ دائمًا على أصحاب هذا الهاتف: من تحطيم، وتدمير، وغلو، وجرأة، وإصرار على التحكم، وضراوة في التهجم، وإغراق في الرجم بالغيب، وإفراط في ثقة المرء بقدرة عقله واعتداده بنفسه. ومن أجل ذلك كرهتُ كلمة التجديد هذه، وأنفتُ لنفسي أن أثق بالألفاظ التي يلقيها كثيرٌ من المتحمسين للإسلام، إذا لم أجد عمل أحدهم وتطبيقه وسيرته ونهجهُ، تؤيد دائمًا دلالة هذه الألفاظ على معانيها. هذا، إذا صحّ عندي أن منبع هذه الألفاظ هو دين الله نفسه، كما نزل في كتابه، بسياقه وبيانه وعربيته غير مؤَوَّل ولا مصروف عن وجهه وكما أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم في سيرته وعمله وتأديبه وحديثه، وكما جرت به سيرة أصحاب رسول الله، الذين أقاموا دين الله في الأرض، ولزموا طاعة الله ورسوله، وارتضاهم ربهم خلفاء في أرضه، وألزمهم كلمة التقوي وكانوا أحق بها وأهلها.
* * *
ولعلك ترانى شديد الحرص على أن أجعل أخلاقَ الإسلام وآدابَه وسننه وسائر ما يكون به الإسلام إسلامًا، هي الأصلُ الذي لا غنى عَنْه لمن يتعرَّض لكتابة تاريخ أهل الإسلام. وترانى أكادُ أقطع بأن هذا هو المنهجُ لا غيرُه من مناهج البحث، كما تعرف مناهج البحث في العصر الحديث. وأقول لك: نَعَمْ، ونِعمة
عين (1)، فأنا أنكر أن يكون في الدنيا شئٌ يسمى منهاجًا للبحث والفكر أو أسلوبًا أو طريقة إلا وهو منبثق من سرّ النفس الإنسانية، من تصوُّراتها ومآلفها، من عِشرتها وعهدها بما يحيط بها، من أسباب تصرُّفها في خواطرها، من دوافع نقدها للأشياء وتقديرها، من استحسانها واستقباحها، من دَواعى حبها وبغضها، من كلّ ما تعيش به في دخيلتها، وتعاشر به ما يتصل بها، بل إن العقل المجرّد نفسه، لا يستطيع أن يدرك الحق وحده، ولا أن يستقلّ بمعرفته وبالبيان عنه ولا أن ينفرد بشيء يسمى تفكيرًا، متخليًا عن جاراته من الطائع والغرائز والسلائق ومن العادات والآداب، ومما تسخطه النفس أو تحمدُه، ومما تحبه أو تكرهه، بل إن أكثر علم الناس في هذه الدنيا لا ينشق لهم طريقه إلا بما استقرَّ فيهم من أخلاقٍ وآدابٍ وسننٍ متبعة، بل إن اختلاف الأخلاق والآداب والسنن، أصلٌ أصيل في اختلاف العلم، ومفهوم العلم، وطبيعة العلم، بل إنّ الحضارات المتباينة، بعلمها وفنونها وصناعتها وآدابها، لم تتباين كل هذا التباين، إلا من جراءِ تباين الآداب والأخلاق والسنن في كل حضارة. فإذا أنا حرصتُ على أنْ أجعل أخلاقَ الإسلام وآدابه وَسننه هي الأصلُ الذي لا ينفك منه مؤرخ الإسلام، فذلك لأن المنهاجَ الذي يتبعه الباحث، لا يمكن إلا أن يكونَ صَدى لما تقوم به حياته التي يعانيها في دخيلة نفسه بالليل والنهار، وفي السرّ والعلن، وفي المنشطِ والمكره، وفي الرضا والغضب.
والتاريخ، في زماننا، ليس علمًا على الحقيقة، كما ترى في الكيمياء والحساب والهندسة، بل هو تفسيرٌ لحوادث خفية الأسباب، مطمورة الجذور، متعدّدَةِ الدوافع، كثيرة المحامل والوجوه، متعلقة كل التعلق بحياة كل فرد عاش في الفترة التي تريدُ أن تؤرخها، شديدةِ الخضوع لعوامل لا يحصيها إلا الله وحده سبحانه. فما كان هذا شأنه وتعقيده، واختلاف أسبابه، وخفاء علله ودوافعه، فإنّ منهاجَ دراسته لا يقوم أبدًا على مقاييس لا تختلُّ كمقاييس الرياضة أو التجربة؛
(1) تقول: نَعَمْ ونعْمَةَ (مثلثة النون) عَيْنٍ: أي أفعلُ ذلك كرامةً لك.
بل هو يلقى المؤرخ بقدر هائل من الطبائع الإنسانية المتآلفة والمتنافرة، والمتآخية والمتناحرة، والمتفقة والمتناقضة، والظاهرة والغامضة، فلا معدَى له عن لقائها بقدر مثله من نفسٍ تراحبَ إدراكها للطبائع والسجايا والأخلاق. ومادامَ الأمرُ قد انتقل من المقاييس المحدَّدة الضابطة، إلى إدراك الطبائع الإنسانية البعيدة الغوْر، الخفية السرِّ، المتباينة الصور، بقدْر تباين صور البشر وألوانهم وأشكالهم وألسنتهم وأصواتهم وأهوائهم ونوازعهم -فقد انتقل المنهاج كله من التحديد الضابط الى التشتت المفزع الذي لا تدْري ماذا تأخذُ منه أو تَدع. فلا مناص إذن لأي عاقل بعض العقل من الرجوع الى شيء لا يختلف، يقومُ على أصل صحيح من هذا التقدير المخيف لاختلاف الطبائع، ومهما التمس الإنسان شيئًا يَفي بضبط هذا القدْر من التباين المتفجر، فهو خليقٌ ألا يجده. فإذا أثبته العجز عنه فآثر أن يغفله لمجرد شهوة يشتهيها، وهي أن يكتب للناس ويؤرخ لهم، فهو عندئذ خليقٌ أن يضلَّ في تقديره، وفي تصوّره، وفي حكمه، وصار كل ما يأتي به رجمًا وظنونًا وأهواءً وعبثًا وافتراءً وتكذبًا واقتفاء لما ليس له به علم: وهذا الذي كان.
وليس على الأرض العاقلة شيء يمكنُ أن يعدَّ ميزانًا عادلا لهذه الطبائع البشرية التي وصفنا، إلا ميزان واحدٌ لا غير، هو الذي أنزلهُ ربُّ العالمين إذ يقول:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [سورة الحديد: 25].
واهتداء البشر بالكتاب، وفقههم لمعانيه، واتخاذهم الميزان الذي أنزله الله على أنبيائه ورُسله، أصلا يتعايشون به في حياتهم ويتحاكمون إليه في النظر والفكر، وفي العلم والفقه، وفي المعرفة والتقدير، وفي القياس والاستنباط، هو الوسيلة الوحيدة التي تضمن لصاحب الرأي أن يكون رأيه قريبًا من الحقّ، ويكون منهاجه قادرًا بعضَ القدرة على لقاء هذه الكثرة الجياشة من الاختلاف. فإن منزل الميزان للناس ليقوموا بالقسط، هو الذي خلق الناس مختلفين، وجعل لهم هذا الميزان بإزاء هذا الاختلاف.
ولم يبق على الأرض العاقلة تنزيلٌ لا يأتيه الباطلُ من يديه ولا من خلفه، سوى كتاب واحد لا غير، هو كتاب الله تبارك اسمه، ثم بيان هذا الكتاب، وهو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فهما بجميع ما نزل فيهما، وما يستنبطُ منهما، غير مؤول عن حقه، ولا مصروف عن وجهه ولا مضروب بعضه ببعض: أخرجا الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم من الظلمات إلى النور، فجعلهم أمة وسطًا ليكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليهم شهيدًا. فلما أطاعوا الله وأطاعوا رسوله، واتبعوا ما أنزل إليهم وساروا بما استطاعوا مما أوحي إليهم من البينات والكتاب والحكمة أثنى عليهم ربهم بأفضل ثنائه سبحانه فقال لهم:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل عمران: 110]. ثم نبأهم بعد بما نعتهم به فيما نزل على موسى صلى الله عليه وسلم، وفيما نزل على عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم من قبل أن يكونوا هم شيئًا مذكورًا فقال لهم فيما يتلى عليهم:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [سورة الفتح: 29]. صدق الله وكذب القوَّالون.
فهؤلاء الذين زكّاهم ربهم وعلّمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، وبشّرهم في أواخر ما نزل على نبيهم: بآخرين منهم لمّا يلحقوا بهم، من سائر التابعين ومن تبعهم بإحسان، هم الذين كان بهم تاريخ الإسلام تاريخًا، وبما اتبعوا من آدابه وأخلاقه وسننه، وبما كانوا به بشرًا يتعاشرونَ فيتآلفون ويتنافَرون، وبما أخطأوا وأصابوا، وبما عدلوا وأسرفوا، وبما استغفروا إلى ربهم وتابوا، وبما اجتهدوا فأحسنوا أو اجتهدوا فأساءوا، وبكلّ ما تكون به الحياة الإنسانية حياةً مختلفة الأبدان والوجوه والصور والأعمار، مختلفة الطبائع والغرائز والنوازع، مختلفة الحاجات والدوافع، مختلفة المساخط والمحامد، مختلفة فيما يحبُّ وما يكره، مختلفةً فيما يغضبُ ويرضى، معدَّلة في كل ذلك
بضابط لم يوجد مثله في تاريخ البشر: تقوى الله، والتوبة إلى ربّ العالمين. فقاموا بذلك كله إذ ألزمهم ربهم كلمة التقوى في السر والعلن، وعادوا إليه من عند زلاتهم توابين مستغفرين بالأسحار، وعاشت هذه الأمة المنفردة في تاريخ الجنس البشريّ، وأنشأت تاريخها برضى الله عن بعض عملها، وغضبه على بعض، وبعقابه لبعض أهلها ومغفرته لبعضٍ، ولم يجعلهم ربهم أمة معصومةٌ من خطإ، ولكنهم يخطئون ويتوبون ما انفسحت آجالهم، يومًا بعد يوم وساعة بعد ساعة، فيرحمهم ربُّهم ويتوب عليهم، ويعاقبهم ببعض ذنوبهم {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [سورة فاطر: 45].
فمن غير الممكن، وأكادُ أقول إنه المستحيل، أن يطيق إنسانٌ لم يتأدَّبْ بما تأدبوا به في أنفسهم، وبما صار به تاريخهم تاريخًا فيه مشابه من تواريخ الأمم، ولكنه مختلفٌ عنها كل الاختلاف -أن يكون مصيبًا أو مقاربًا للصواب، أو خليقًا بأن يدرك بعضَ الصواب، إذا هو أرادَ أن يكتب تاريخهم على النهج الذي نعرفه اليوم من كتابة التاريخ، والذي تُرمى فيه الأحكام جزافًا بلا تقوى ولا ورع، ولا مخافةٍ من ظنّ السوء، ولا هيبة من بهت الناسِ بما ليس فيهم، ولا تأثم من الاجتراء على غيب لا يعلمه إلّا العليم الخبير. والذي لم يجرّبْ هذه الآداب في سريرة نفسه، غير مستطيع أن يدرك مأتَى أعمال هؤلاء الناس، ولا مقاطع أحكامهم، ولا سيرة حكامهم، ولا طبيعة حياتهم، بل هو خليق أن يخلط ما جرى في حياتهم وأيامهم، بما جرى في حياة غيرهم وأيامهم، وأن يحكم على الذي كان يجرى بينهم سهلا يسيرًا منظورًا إليه بما ينظر به إلى مجرد الاختلاف في الرأي، حكما جازمًا قاطعًا مدمرًا، كأن الله وَكَّلَ إليه الاطلاع على سرائر خلقه، وفوض إليه أن يقضى فيهم بقضائه:{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة آل عمران: 129].