الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ألسنَةُ المفترين
ممَّا يُسْتخرَج به الضَّحِك أن يحدّثك المحدّث أو الكاتب بشئٍ سخيفٍ لا يُعْقَل، وهو يُبْدى لكَ الجدّ كل الجدّ فيما يحدِّثُ أو يكتب. ولكنه عندئذٍ لا يريدُ إلّا إضحاكك. فإذا جاءَ امرؤ يفعَل ذَلك وهو لا يريدُ إلا الجدّ، لأنّه قد بَنَى حديثَه عليه عند نفسه وعند سامعه أو قارئه، فهذا هو المضحك المحزنُ معًا. ولكن من العجيب أن يَكون هذا السَّمْتُ الأخيرُ، هو سمْت أكثر الذين يكتبون اليوم في تاريخ الإسلام. ومن البلْوى أن يأتي هذا في زمنٍ أصبحنا فيه وأصبح الناس، وكلّ حرف مكتوبٍ يُعدُّ عندهم كأنه تنزيلٌ يتلقوْنه بالثقة والتسليم لا يكادُ امرؤ مِنهم ينظر في مأتاهُ من أين أتى، ولا في منتهاهُ إلى أين ينتهي. فإذا اجتمع إلى هذه البلوى بلْوى الهوى المخلوط بالغلوِّ، خرجَ الأمرُ كله من الضَّحِك والحزنِ، إلى الهلاكِ المطبق الذي يغتال العقول والنفوس جميعًا.
يرى الكاتب ذو الهوى خبرًا أو أخبارًا، فلا يدفعه هواهُ إلا إلى أخذ أقربها موافقة لهواه، ويمنعُه الهوى من التمييز، ويحمله التعبُّد للحرف المكتوب أن يغمِض كل بصيرةٍ عن مواضع الدَّخل والغشّ والزَّيْف فيما كُتِب، وتشتدُّ البلوى حين ينتصب لهذا التزوير المدمِّر رجالٌ يلبسون للناس ثيابَ الغيرة على دين ربهم، والحمية لماضي أمتهم، والجهادِ في سبيل إعزاز هذا الدين بأنفسهم وألسنتهم. وتجتمع عليهم وعلى الناس صواعق الهلاك، حين يخدع عامة الناس أمرُهم، فيتلقوْن عنهم معاني وأحكامًا وأخبارًا، وما شئتَ من حصائد الألسنة، على غير هُدًى ولا بيّنةٍ. فيوشك أمر الناسِ أن ينتهي إلى الردَّةِ الماحقة، والكفر المستعلِن. كما مضى مثل الأوَّلين، الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، حين استنصحوا الأحبار والرهبان فأطاعوهم على غير هدى ولا بينة ولا كتاب منير.
وقبل أن أفضى إلى الأمثلة التي تبين عن الفساد والضلال، أحبُّ أن يعلم من
(*) المسلمون، العدد الرابع، 1371 هـ/ 1952، ص: 351 - 359
لم يكن يعلم، أن أسلافنا رضي الله عنهم وغفر لهم، منذ ألفوا كتبهم، وضعوا لها قواعد يعرفها أهل هذا العلم، ويجهلها من جنح عن أصولهم وعمى عليه طريقهم. فهم منذ بدأوا يكتبون أسسوا كتبهم على إسناد الأخبار إلى رواتها، وبَرئِوا من عهدة الرواية بهذا الإسناد، ولم يبالوا بعد ذلك أن يكون الخبرُ صحيحًا أو ضعيفًا أو زائدًا أو ناقصًا أو موضوعا مكذوبا؛ لأنهم كانو يعلمون حال الرُّواة ومنازلهم من الصدق والكذب، ومن الورَع والاستخفاف، ومن الأمانة والهوى. وكأنهم أرادوا بهذا أن يجعلوا كتبهم في التاريخ وغير التاريخ سجلا لما قد قيل في زَمانهم وما قبل زمانهم، وما كان يقوله قومٌ، وما كان يقوله آخرون، مهما تعارض القولان أو اختلفا أو تناقضا. وتركوا للعلماء تمييز الحق من الباطل، والصدق من الكذب، على أساسهم المشهور، وهو معرفة الرجال الذين رووا هذه الأخبار أو تكذّبوها. هذا الطبري مثلا (توفي سنة 310) يقول في فاتحة كتابه في التاريخ:"فما يكن في كتابى هذا من خبر ذكرناهُ عن بعض الماضين، مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجها صحيحًا، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يُؤت في ذلك من قِبَلنا، وإنما أتى من بعض ناقليه إلينا، وإنما أدينا ذلك على نحو ما أدَّى إلينا". ومن عرف كتابه وكتب القوم، علم يقينًا صدق ما يقول، فإنه يأتي بالخبر لا يصحُّ أبدًا، وبالخبر الصحيح الذي لا شك فيه، ولا يعرض لهما. بتصديق أو تكذيب، ثم تراه في موضع آخر قد احتاج إلى البيان عن حال هذين الخبرين، فعندئذ يميز لك ما هو صحيح عنده وما هو باطلٌ من هذين الخبرين. فهو كما قال، إنما يؤدّى إلى الناس ما أدَّى إليه. وكان الناسُ على عهدهم أهل دين وتقوى، لا يستحل امرؤ منهم -إلا من ضلَّ- أن يحتج في دين الله، ولا في تاريخ الناس والحكم عليهم، بخبر لا يدري أصدق قائله فيما روى أم كذب. ثم جاء من بعدهم قوم خلطوا عامة الأخبار بلا إسناد إلى رواتها، فاجتمع الغث والسمين والصحيح والسقيم، والصادق والمكذوب. ولكن لم يزل دين الناس يعصمهم من شر هذا الخلط المضل، فأمسكوا ألسنتهم عن الخوض في المطاعن والمثالب بلا بينة ولا حجة. فلما جاء
زماننا هذا، بَشِع الأمر وقبُح. فإن الناس قد هجروا أدب دينهم، ومروءة أسلافهم، وعلم كتبهم، واقتحموا بالجهالة على الظنون المردية، واستخفهم الهوى حتى أخذوا الباطل وعارضوا به الحق بلا تمحيص ولا رواية ولا فهم. وشابهوا زمن هذه الحضارة الغالبة عليهم؛ فاجترؤا وتهوروا واستغلظوا معاني وألفاظًا يتقاذفونها في ألسنتهم وكتُبهم، وقد نفى الشيطان من قلوبهم كلّ معاني الوَرَع ومخافة العذاب يوم القيامة، حتى قذفوا بالغيب من مكانٍ بعيدٍ، واجترأوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأوهامهم وأهوائهم فأفحشوا القالة فيهم وفيمن تبعهمِ، بلا معرفة ولا تخوّفٍ، وربّ العالمين ينذرهم فيما يتلون من كتابه:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [سورة الأحزاب: 58].
أفتراهم يحسبون أنَّ الله حرّم عليهم أعراض عبادِه الأحياءِ، وأباحَ لهم أعراض عباده الموتَى، بعد أن أفضوا إلى ربهم بأعمالهم وغيبهم وما قدَّموا من حسنات وسيئات؟ ! ألا فليعلموا أن الميت أولى بأن تكفَّ عنه ألسنة المفترين مِنَ الحيّ، فإنه لا يدفع عن نفسه، وليتقوا عذاب ربهم، فإنّ الذي لا يملك أن يدفع عن نفسه، يدفع عنه ربُّ العالمين الذي أحصى كل شيء خلَقه ثم يحكم بينهم بالعدل وهو العليم القدير.
* * *
وأعود إلى هذا الكاتب الذي طرح لسانه في معاوية بن أبي سفيان وأبيه وأمه، وفي عمرو بن العاص، وفي عامة بني أمية، ووصفهم وصفًا آذاهم بغير ما اكتسبوا. وأنا لن أجادله في صواب ما يدَّعى أو خطئه، ولن أتعرض لتزييف أحكامه وأحكام أشباهه من الطاعنين بألسنتهم في أعراض المؤمنين حتى يخرجوهم من الدين، وينسبوهم إلى التغيير والتبديل. بل أريد أن أعرض على الناس بعض ما يروى، حتى أعرف لم ترك خبرًا وأخذ آخر؟ ولم صدق رواية وأعرض عن أخرى؟ ولم وضع قاعدة في أمر ثم أغفلها في مثله؟
كان مما جعله من سيئات معاوية رضي الله عنه في سياسة الحكم توليته يزيد
ابن معاوية فروى أن يزيد "كان فتى شراب ولهو يبلغ فيه إلى حدِّ التفاهة، فيعني بتدليل القرود وتربيتها، أكثر مما يعني بسياسة الحكم ومصالح الرعية. . . إلى نزق وطيش وفتون". ومن المفيد أن أنقل مع هذا أيضا قول قائل آخر في صفة يزيد "ويزيد هذا شاب خليع لا يصلح أن يلى أمر مدرسة ابتدائية، بله أن يقف على منبر الرسول، ويحل مكان أبي بكر وصحبه".
وما كنت أظن قط أن عاقلا يرتضى لنفسه مثل هذا الزلل، فإن معاوية عند هؤلاء إنما دبر الأمر تدبيرًا هو وعمرو بن العاص وأشباههما (كما يقول)، حتى يأخذ الخلافة فيجعلها ملكا عضوضًا لبنى أمية أو بني عبد شمس. فالذي يفعل ذلك، ويستخلص الملك لنفسه وأهله من جمهور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليقيم عرش بني أمية على أكبر رقعة من الأرض متباعدة الأطراف، لا يفعل ذلك إلا وهو يريد المحافظة على هذا العرش وحياطته وتدبيره حتى يصبح ملكًا متوارثًا فيما يزعمون. هذا صريح العقل فيما أظن. فهب أن معاوية رضي الله عنه كان فاسد الدين مبدلا مغيرا مفتاتًا على أهل الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، أفكان أيضا فاسد العقل والتدبير؟ ولو كان فاسد العقل والتدبير، فكيف استطاع أن يصل إلى حكم أهل الشام عشرين عامًا في ولايته وعشرين أخرى في خلافته؟ وأي فساد في عقل إنسان يجاهد بسوء نيته عشرين عامًا لإقامة ملك عضوض، ثم يورث هذا الملك شابا يصفه واصف بأنه فتى لهو وشراب يبلغ إلى حد التفاهة، يعني بتربية القرود وتدليلها أكثر مما يعني بسياسة الحكم ومصالح الرعية، إلى نزق وطيش! ! ويصفه آخر مثله بأنه شاب خليع لا يصلح أن يلى مدرسة ابتدائية بله أن يقف على منبر الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ويحل محل أبي بكر وصحبه (رضي الله عنهم)! ! أليس هذا عجبًا عاجبًا؟ ولكن لا عجب في زماننا مع الأسف! ولا عجب مع اللجاجة والهوى وافتراء الألسنة وتهور الأقلام! ومن العبث عندي أن يجادل المرء أمثال هؤلاء. وسأتناول الآن كتابا للبلاذُرِى (توفي في نحو سنة 280)، ويقول عنه مؤرخوه إنه كان "عالمًا فاضلا شاعرًا راوية نسابة متقنا، وكان مع ذلك كثير الهجاء بذئ اللسان أخِذ الأعراض". فإذا البلاذرى هذا
الذي وصفوه بما وصفوه، يروى في أول ترجمته ليزيد بن معاوية عن رواة وصفهم علماء الرجال بأنهم من الكذابين والوضاعين ومن المتشيعين الغلاة فيقول:
"كان يزيد بن معاوية أول من أظهر شرب الشراب، والاستهتار بالغناء والصيد، واتخاذ القيان والغلمان، والتفكه بما يضحك منه المترفون، من القرود والمعاقرة بالكلاب والديكة. ثم جرى على يده قتل الحسين وقتل أهل الحرة، ورمى البيت وإحراقه. وكان مع هذا صحيح العقدة فيما يُروى، ماضي العزيمة، لا يهم بشيء إلا ركبه" ثم ذكر أخبارًا في لعبه بالقرود وشربه الخمر. ثم ذكر بعد ذلك بإسناده قال: "قال رجل لسعيد بن المسيَّب: أخبرني عن خطباء قريش. قال: معاوية وابنه يزيد. . . .". ثم روى بعد أسطر عن المدائنى عن عبد الرحمن ابن معاوية قال: قال عامر بن مسعود الجمحي: إنا لبمكة إذ مر بنا بريد ينعى معاوية، فنهضنا إلى ابن عباس وهو بمكة وعنده جماعة، وقد وضعت المائدة ولم يؤت بالطعام. فقلنا له: يا أبا العباس، جاء البريد بموت معاوية. فوجم طويلا ثم قال: اللهم أوسع لمعاوية. أما والله ما كان مثل من قبله ولا يأتي بعده مثله، وإن ابنه يزيد لمن صالحي أهله. فالزموا مجالسكم، وأعطوا طاعتكم وبيعتكم. هات طعامك يا غلام". ويروى أيضًا:"أن سبب وفاة يزيد أنه حمل قرده على الأتان وهو سكران ثم ركض خلفها، فسقط، فاندقت عنقه، أو انقطع في جوفه شيء" ثم يعود بعد ستين صحيفة يروى أيضًا "وكان سبب موت يزيد أنه ركض فرسا فسقط عنه وأنه أصابه قطع، ويقال: إن عنقه اندقت". هذا ضرب من الرواية لا يشك شاك أن بعضه يناقض بعضًا في كتاب واحد، فابن عباس، وهو أعلم قريش بقريش، يقول عن يزيد إنه من صالحي أهله، والذي يروى خبر استهتاره بالغناء والخمر والقرود، يختم كلامه بأنه "كان مع هذا صحيح العقدة فيما يرى" أي صحيح الاعتقاد والإيمان، وأنه كان "ماضي العزيمة لا يهم بشيء إلا رَكِبه" فأين هذا من الذي استباح لنفسه أن يجعله بالغًا حد التفاهة والنزق والطيش، ومن الذي جعله "لا يصلح أن يلى أمر مدرسة ابتدائية"؟ وأين هذان من سعيد بن المسيب، الذي عده هو وأباه من خطباء قريش؟ أفيكون الفتى التافه الخليع
الطياش، خطيبًا معدودًا في خطباء العرب، إلا إذا كان سعيد يعد من الخطباء أولئك المتشدقين الثرثارين كخطباء عصرنا هذا!
ثم يكون ماذا إذا وجدنا منا يروى كلام من يصف يزيد بما زعموه من شرب الخمر واللعب بالقرود، ثم يعقب فيروى أن أهل المدينة لما رجعوا من عند يزيد:"مشى عبد الله بن مطيع وأصحابه إلى محمد بن الحنفية (وهو محمد بن على ابن أبي طالب رضي الله عنهما)، فأرادوه على خلع يزيد، فأبى عليهم، فقال ابن مطيع: إن يزيد يشربُ الخمر، ويترك الصلاة، ويتعدّى حكم الكتاب. فقال: ما رأيتُ منه ما تذكرون، وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظبًا على الصلاة، متحرِّيًا للخير، يسأل عن الفقه، ملازمًا للسنة. قالوا: فإن ذلك كان منه تصنعًا لك. فقال: وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر إليّ الخشوع؟ أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر؟ فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه، وإن لم يكن أطلعكم فيما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا. قالوا: إنه عندنا لحقُّ وإن لم نكن رأيناه! فقال لهم: أبى الله ذلك على أهل الشهادة فقال: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة الزخرف: 86]، ولست من أمركم في شيء. قالوا: فلعلك تكره أن يتولى الأمر غيرك، فنحن نوليك أمرنا. قال: ما أستحل القتالَ على ما تريدوننى عليه تابعًا ولا متبوعًا. قالوا: فقد قاتلتَ مع أبيك؟ قال جيئونى بمثل أبي أقاتل على مثل ما قاتل عليه. فقالوا: فمر ابنيك أبا القاسم والقاسم بالقتال معنا. قال: لو أمرتهما قاتلت. قالوا: فقم معنا مقامًا تحضُّ الناسَ فيه على القتال. قال: سبحان الله! آمر الناس بما لا أفعله ولا أرضاه! إذنْ ما نصحتُ لله في عباده. قالوا: إذن نُكرهك! قال: إذنْ آمُر الناسَ بتقوى الله ولا يُرضون المخلوق بسُخْط الخالق. وخرج إلى مكة". فهذه شهادة رجُل قاتل معاوية نفسه، وخليق أن يُعدّ عدوًّا له ولملكه فيما يزعمون.
فما الذي جعل هؤلاء يرجحون هذه الروايات عن فسق يزيد وفجوره، على صلاح أمره وتستُّره؟ لا أدري!
فهذه الأخبارُ كلها موجودة مذكورة مروية في كتب التاريخ، فبأي حجة
يحتجُّ الآخذ فيما أخذ، والتارك فيما ترك؟ لست أدري أيضًا. فإما أن يفعل هؤلاء المتدسّسون إلى التاريخ ما فعل أوائلهم من جمع الغث والسمين والصحيح والسقيم، ثم يكفوا ألسنتهم عن المعابة والإقذاع وسوء الأدب، وإما أن يأتوا الناس بحجة أو بيان يُرجّح أقوالهم فيما قالوا وما اختاروا من الروايات. وإلّا فإنَّ الله ربهم آخذهم فمحاسِبهم فمعطيهم نَصيبهم من العذاب الذي أنذر به من آذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا. وأنا أكتب هذا لقوم وصفتهم بأنهم يلبسون للناس ثياب الغيرة على الدين، والحمية لماضي سلفهم. ولو كنتُ أعلم أنى أكتب للزنادقة أو للمتبرئين من دين ربهم، لكان لما أكتب شأن آخر، وطريق غير هذا الطريق. ومع ذلك، فإني سوف أرتكبُ لهم فيما بعد طريقًا أنفي به الدَّخل والفساد والتزوير في تاريخ سلفي رضي الله عنهم وغفر لهم ما قدموا من سيئ وأثابهم بما فعلوا من صالح. ولستُ أكتب هذا دفاعًا عن يزيد، فإن يزيد نفسه دافع يومًا ما عن نفسه فيما ترويه كتب التاريخ التي ينقلون عنها، أو قُلْ يدلسون بالنقل عنها، إذ سمع قالة الخارجين عليه والكارهين لخلافته أو ولايته إذ قالوا:"إنه رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويعزف بالطنابير، ويضرب عنده القيان، ويلعبُ بالكلاب، ويُسامر الخرَّاب والفتيان". وبلغه أن المنذر بن الزبير، انطلق من عنده بعد أن أكرمه وأحسن إليه، فانحاز إليهم، فقال بمثل قولهم فأكثر وقال:"إنه يشربُ الخمرَ ويسكرُ، حتى يدع الصلاة". فقال يزيد: "اللهمَّ إني آثرته وأكرمته ففعل ما قد رأيتَ، فاذكرهُ بالكذبِ والقطيعة". لم يملك يَزيدُ إلّا أن يلجأ إلى ربه ليذكر هؤلاء بالكذب وقطيعة الأرحام. وماذا ينفع الدفاعُ عن النفس مع منْ لا يتورّعُ من كذب، ولا يتجافى عن قذفِ الناس بما يعلم أنه ليس فيهم؟
وأقول مرة أخرى أن ليس همى أن أدفع عن يزيد، ولا أن أصحح كتابة التاريخ. ولكني أكشف عن أصحابِ الأهواء الذين يتغلغلون بين الناس، وينفثونَ فيهم داءَ الهوى والعصبية، حتى يقعوا في أعراض عبادِ الله بالمذمّة والإقذاع وبسطة اللسان، فاتبعوا بذلك طريق الرافضة أهل الغلوّ والعداوة لأصحاب محمد
رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلو شاء هذا الكاتب أن يحقق معنى العدل والدينِ فيما يكتبُ، لوجد الطريق واضحًا لا يضطرب عليه، ولكنه ركب أهواء الرافضة حيث رَكِبوا، فأخذ ما حمله له الهَوى من الطعن في يزيد ليطعن أباه رضي الله عنه وغفر له، وهو يعلم أنه أحدُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. نعم ليس من أدب أهل المروءة، ولا أقول الدين أن يؤخذ الوالد بجريرة ولده، إلا ببينة لا تردُّ، ولكنه فعل. لا بل فعل أيضًا ما هو أكبر من ذلك في سبيل الطعن على رجل كان ينبغي أن يمسك لسانه عنه في الخطأ الظاهر، لأنه أحد أصحاب رسول رب العالمين، فإن لم يستطع أن يمسك لسانه فليطلقه بالاستغفار لهُ كما أمره ربه أن يستغفر لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. نعم ليس من أمانة التاريخ في شيء، بل ليس من أمانة العقل في شيء، بل ليس من أمانة الإنسان مجردًا من كل دين يتبعُه، أن يرفُضَ الروايات الصحيحة والأخبار المحكمة، لخبر مجهول لم يوجد إلا في كتاب طعَّان معروف بثلب عدوٍّ له، ويرفضها كلها لقاعدة أقامَ عليها رفضه، هي أن هذه الروايات الصحيحة والأخبار المحكمة إنما أشيعت بعد الظفر بالملك، أشاعها الأنصارُ والأتباع، كما يفعل سائر الدعاة. ثم لا يتوقى أن يكون الطعن والسلب من العدو، هو أيضًا من إشاعة الأعداء والمفترين، كما يفعلُ سائر الدعاة حين يريدون التشنيع على أعدائهم والوقيعة فيهم، وصرْف الناس عنهم، وهاك المثل.
يقول هذا الكاتب: "بَقى ما اشتهر خطأ من أن معاوية كان كاتب الوَحْى لرسول الله. فالصحيح أنّ أبا سفيان حين أسلم، رجَا النبيّ (صلى الله عليه وسلم) في أن يسند إلى معاوية شيئًا يعتزُّ به أمام العرب، ويعوّض عن سُبّة التأخر في الإسلام، وأنه من الطلقاء الذين لا سابقة لهم في الإسلام، فاستخدمه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الرسائل والحوائج والصدقات. ولم يقل أحدٌ من الثقات: إنهّ كتب للنبى شيئًا من الوحي، كما أشاعَ أنصارُه بعد استقرار الملك، كما يصنَعُ سائر الدعاة! ". سبحان الله! "لم يَقُل أحدٌ من الثِّقات"؟ فأين الثقات الذين قالوا إنّ النبي صلى الله عليه وسلم استخدمه "في الرسائل والحوائج والصَّدَقات"! ! وأنا لا أتعرّضُ هُنَا لفسادِ معنى هذا الكَلامِ من حيث هو كلامٌ عربيٍّ له دلالة على معانيه، بالألفاظ التي ذكرها هذا الكاتب، بل
أكشفُ له ولغيره من أين أخذَ كلامَه؟ ومن هو هذا "الثّقات" الذي يروى عَنْه؟ فهذا "الثقات" رجلٌ من الرافضة كان في زمن ابن تيمية. ألف كتابًا سمّاه "منهاج الكرامة"، فانبرى له ابن تيمية يردّ عليه في كتابٍ سماه "منهاج السنة" فكان ممّا نقله من نصّ كلامه (2: 201) "وسمّوه (يعني معاوية) كاتب الوحي، ولم يكتب له كلمة واحدة من الوحي، بل كان يكتب له رسائل (وزاد كاتبنا هذا ما لا نعرف معناه، الحوائج والصدقات! ! ). وقد كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، أربعة عشر نفسًا يكتبون الوحي، أولهم وأخَصُّهم وأقربهم إليه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، مع أن معاوية لم يزلْ مشركًا بالله تعالى في مدة كون النبيّ صلى الله عليه وسلم مبعوثًا يكذّب بالوحي ويهزأ بالشرع". ولستُ أدري لم ترك هذا الكاتبُ سائرَ ما ذكره الرافضيّ، فيزعم أيضًا أنّ معاوية ظل مشركًا لم يؤمِنْ مدّة بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كلا كلا فلعلّه استغنى عَنْه بأن جَعَله بطريق آخر "بريئًا من الإسلام والإسلامُ برئ منه"!
وقد ردّ ابن تيمية في ص 214 بقوله: "هذا قول بلا حجة ولا علم، فما الدليل على أنه لم يكتب له ولا كلمة واحدة من الوحي، وإنما كان يكتب له رسائل". وأزيد أنا فأقول: أوَ من الهين عند هذا الكاتب وأشباهه أن يكتب امرؤ لرسول الله صلى الله عليه وسلم رسائله؟ ! أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملى رسائل لشغل فراغه، وقضاء حوائجه، ومجاذبة أصدقائه، والتلهي بإملاء صغائر الأمور التي يتعايش بها الناس في شئون دنياهم! ! عجيب! ولكن لا عجب في زماننا، ومن أين يأتي العجب، بل كيف يطيق إنسان أن يعجب بعد أن تبلد حسه بالعجائب تترى لا تنقطع، حتى صار المعروف منكرًا والمنكر معروفا! وأنا لن أدلّ الكاتب على حيث قيل إن معاوية كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكني أحب أن يأتي هو الناس "بثقات" آخر ينفي أن يكون معاوية كتب الوحي لرسول الله، وأنه إنما كان يكتب له في الرسائل. . . والحوائج والصدقات أيضا!
وإذا كان قد استطاع بالأمانة والذمة أن يزيف قول من قال إنه كان يكتب الوحي لرسول الله، بأن ذلك من قول أنصار معاوية أشاعوه وأذاعوا به، أفلا