الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"
تاريخ اليوم الأول
"
ففي مثل هذا الشهر (ربيع الأول من سنة 1346) زار مكتب الأستاذ محب الدين الخطيب في دار المطبعة السلفية ومكتبتها فضيلة الأستاذ الجليل السيد محمد الخضر حسين، وكانا يتحدثان في أمر الاجتماعات التي كانت جمعية الشبان المسيحية تعقدها في تلك الأيام -كدأبها إلى اليوم- تدعو لها رجالا من رجال مصر، ليحاضروا الناس في دارها. فمما حدث يومئذ أن تلك الجمعية دعت إلى دارها رجلا كان من دأبه أن يجعل القرآن موضعا للتهكم والشك. وفيما هما في حديثهما هذا دخل عليهما صديقي الأديب الضليع الأستاذ عبد السلام محمد هارون -الطالب إذ ذاك بتجهيزية دار العلوم (1) - فأشرقت بوجوده فكرة انبسطت أنوارها فيما بعد، وأضاءت ظلمات من الغفلة والخمول والدعة، كانت قد انطبقت على العالم الإسلامي عامة، ومصر خاصة، حتى كنا نستشعر الفزع مما يمر بنا من أطياف الحوادث التي تمر بالناس، ولا تصيب منهم شيئا يبكى له، أو يؤسف عليه. . .
من ذلك الشر انقدحت الشرارة الأولى التي أوقدت النور الذي أشرق على العالم الإسلامي في الشهر المبارك شهر مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، ليكون ضياء للمسلمين، يسترشدون به في أمر دينهم عامة، ثم اجتماعهم خاصة بعد أن أصاب الأمة الإسلامية من قِبل التدابر والتقاطع، والفرقة والشتات ما أعيى حكمة الطبيب، وإشفاق الآسى. فلذلك كانت هذه الجمعية ولا تزال لا غرض لها إلا أن يكون المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا، ولا تتعمد في ذلك طعنا في دين، أو منابذة لملة، بل غرضها الذي لا يتغير أن تطلب خير الأمة الإسلامية والعربية من كل سبيل.
والآن نعود إلى تاريخ هذه الجمعية. . . أشرقت هذه الفكرة فكنت في طليعة
(1) وقد تخرج بعد ذلك في مدرستها العالية، وهو الآن يتولى التدريس في مدرسة فارسكور الابتدائية، من أعمال مديرية الدقهلية (شاكر).
مَن سُوِّغ من أشعتها لمحات، لا تزال تضئ في قلبي سراجا هاديا، فيما ينطق عليّ من ضلال الحياة انطباق فكٍّ من الظلام على فك. . . وكنت (حين تفجر النور من منبعه الصافي) مع أخي الذي أشرقتْ عليه (عبد السلام هارون) في طريقنا إلى المطبعة السلفية، يدفعنا الشباب، وتثور بنا الفكرة المنبعثة من الآلام التي لقيناها حين سمعنا خبر جمعية الشبان المسيحية. وكانت دار المطبعة السلفية -ولم تزل- نبع القلوب الصادية، تردُها من الشباب فئة قليلة الصبر على ضيم ينزل بالأمة العربية من ظلم الاستعمار، وعصبية الاستعمار. ففي المطبعة السلفية قلد السيف صاحبه. . . ذلك المجاهد الرابض في مكتبة، يواصل الليل بالنهار، عاملا لأشياء قد استقرت في نفسه فصارت إيمانا، ودارت على لسانه فأصبحت تسبيحا، وترامت عن قلمه فكانت جهادا - ذلك هو محب الدين الخطيب.
لم يلبث هذا الجمع أن جمع من كبار المجاهدين رجلين: أما أحدهما فرحمة الله عليه أحمد تيمور باشا، ذلك القلب الرقيق الوفي، الذي لا يَنْسَى ولا يُنْسَى، وأما الآخر، فهو العالم المخلص، والكاتب البليغ الأستاذ السيد محمد الخضر حسين، الذي بارك الله به هذا العمل من الساعة الأولى، فمن هؤلاء جميعا استفاض النور الحي الجميل على مدينة الأحلام الفاتنة، التي نسميها الآن (جمعية الشبان المسلمين).
أما تيمور باشا رحمة الله عليه فحين سمع ما تآمرنا له أضاء وجهه، وابتسم ثغره، وترقرق الدمع في عينه، حتى لظننت أنى لا أرى رجلا شيخا، بل أرى قلبا فتيًّا حيا، يتنزى إلى جهاد يبذل فيه الروح في غير حرص ولا شح.
وأما السيد الخضر فكان كالغُصن الرطب، حين يَفيئه النسيم، يهتز طربا وسرورا، فحين بدأنا العمل أصبح نشاطا قد سُوِّىَ رجلا، وإيمانا قد أفرغ قلبا، وصراحة قد جمعت حزما وعزما.
هذا الاجتماع الأول كان هو الحجر الأساسي الذي يقوم عليه البناء الحي النابض بدم الشباب، العامل بفكرة الشيوخ، المترامى إلى الحقيقة العظمى في