الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فكان تذكير نوح يرافقه الوعظ، وكان تذكير هود يرافقه التأنيب، وكان تذكير صالح يرافقه التذكير بالنعمة، وكلها طرق يقتدى بها، ولكل منها محله وأهله، وكل قصة تعرض حججا وتعرض أجوبة، وتعطينا عطاء خاصا، وكل ذلك يخدم سياق السورة، فليست كل قصة تكرارا للأخرى، فلكل قوم طبيعة، ولكل قوم عقوبة، ولكل قوم خطاب، ولكل قوم رد، فتأمل جوانب الاتفاق والاختلاف ففي كل ذلك من المعاني ما لا يتناهى. ولنعد إلى السياق:
قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أي كنت فيما بيننا مرجوا للسيادة والمشاورة في الأمور، أي كنا نرجوك في عقلك قبل أن تقول ما قلت:
أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وما كان عليه أسلافنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من عبادة الله وحده مُرِيبٍ أي موقع في الريبة، والريبة: قلق النفس وانتفاء الطمأنينة، وهكذا نجد هنا لغة أخرى في خطاب رجل الدعوة إلى الله، الثناء على حاله الأول قبل الدعوة، وإنكار الحق بحجة تقليد الآباء، وإظهار التشكك في الدعوة، وهي طرق خبيثة من طرق الصد عن سبيل الله.
فائدة:
يلاحظ أن حجة قوم نوح كانت: بشرية الرسول، وضحالة رأي أتباعه، وقلة مكانتهم، وعدم رؤية الميزة لنوح ومن معه، مما يجعلهم غير مؤهلين للاتباع، وكان رد قوم هود منصبا على أنه لا بينة واضحة في دعوة هود، مع تهديد هود بآلهتهم، وكانت اللغة التي استعملت مع صالح عليه السلام هي ما رأينا، وهكذا نجد مواقف متعددة، وأساليب متنوعة، تسع الحالات التي يصادفها كل داعية إلى الله وهو يدعو إلى عبادة الله واستغفاره، وهكذا تبني سورة هود قصة الدعوة إلى الله من خلال التقرير والتمثيل والعرض والقصة، وتأتي القصص واحدة بعد أخرى؛ لنرى في كل منها جوانب جديدة، إن في موضوع الدعوة، أو في موضوع ردها وحجج الرادين، أو في مواقف الرسل عليهم السلام، أو في عاقبة الظالمين. ولنعد إلى السياق:
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أي أخبروني إن كنت على بينة من ربي أي على يقين وبرهان فيما أرسلني به إليكم وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً أي نبوة أي:
قدروا أني على بينة من ربي، وأنني نبي على الحقيقة، وانظروا إن تابعتكم وعصيت ربي في أوامره فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ أي فمن يمنعني من عذاب الله إِنْ عَصَيْتُهُ في
تبليغ رسالته ومنعكم عن عبادة الأوثان فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ أي لو تركت دعوتكم إلى الحق وعبادة الله وحده لما نفعتموني، ولما زدتموني إلا خسارة بأن أنسب إلى الخسار
وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً أي معجزة شاهدة على أنني رسول الله، وقد مرت معنا القصة في سورة الأعراف فلا نذكر هنا إلا ما يحتاجه فهم النص فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ كأنه قال: لكم نفعها وليس عليكم رزقها، فلا حجة إن آذيتموها ولذلك قال: وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ من عقر أو نحر أو إيذاء فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ أي عاجل، وهكذا كان رد صالح إظهار العجز عن ترك دعوة الله، والتذكير بالمعجزة، بينما كان رد هود التحدي لهم، والتوكل على الله، وكان رد نوح النقاش المفصل لكل جزء من أجزاء كلامهم، وفي كل قدوة، ولكل كلمة محلها، والناس طبائع، ولكل طبيعة كلمة تناسبها، ولكل من الدعاة طبيعة، والقرآن يسع النفس البشرية كلها، وفيه لكل نفس ما يناسبها ضمن إطار الحق ودائرته
فَعَقَرُوها أي فذبحوها فَقالَ صالح تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ أي استمتعوا بالعيش في بلدكم، وتسمى البلاد الديار لأنه يدار فيها أي: يتصرف ويحتمل أن يكون المعنى: استمتعوا في دار الدنيا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ أي ثم تهلكون ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ أي غير مكذوب فيه
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي بالعذاب أو فلما جاء عذابنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا إذ لولا رحمته بهم ما هداهم فاستحقوا النجاة، رحمهم إذ هداهم، ورحمهم إذ نجاهم، والأمر أمره، والجميع ملكه وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ تقديره: ونجيناهم من ذلك اليوم وفضيحته، ولا خزي أعظم من خزي من كان هلاكه بغضب الله وانتقامه، وجاز أن يكون المراد بيومئذ يوم القيامة إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ أي القادر على تنجية أوليائه الْعَزِيزُ أي الغالب بإهلاك أعدائه
وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ أي الصاعقة وقد ذكر في سورة الأعراف أنهم أخذوا بالرجفة ويبدو- والله أعلم- أنهم اجتمع عليهم الزلزال والصعق فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ أي في منازلهم جاثِمِينَ أي ميتين
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أي كأن لم يقيموا فيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ فاستحقوا العذاب أَلا بُعْداً لِثَمُودَ وقد بعدوا في الدنيا والآخرة.
وهكذا كانت نهاية قوم صالح بالصيحة، ونهاية قوم هود بالريح، ونهاية قوم نوح بالطوفان، وكانت العاقبة نجاة نوح، وهود، وصالح، وهذا هو الدرس الأعظم للدعاة إلى عبادة الله واستغفاره، وبهذا ينتهي المقطع الثاني في سورة هود. وقبل أن ننتقل إلى