الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير:
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي كتاب فيه ما لكم وما عليكم، قد جعله الله لمن تلاه وتدبره زاجرا عن الفواحش، ومربيا وحاضا على الخير، وهذا من خصائص هذا القرآن، فإنه تكلم عن كل معنى من المعاني بأسلوب الوعظ، وهذا من مظاهر إعجازه، إن أحدا من البشر لا يستطيع أن يتكلم عن الكون، وعن التشريع، وعن القصة، وعن التاريخ، وعن المستقبل، وعن التربية، بأدق المعاني
وبأسلوب وعظي يصل إلى كل قلب، فإن يكون هذا القرآن هكذا فهذا وحده دليل على أنه من عند الله، وأن يكون كذلك فذلك من فضل الله وَشِفاءٌ أي دواء شاف لِما فِي الصُّدُورِ أي القلوب من العقائد الفاسدة، والشبه والشكوك، وهو إزالة ما فيها من رجس ودنس، فهذه خاصية ثانية من خواص هذا القرآن: أنه مطهر للقلب البشري من كل مرض، فالقلب البشري يمرض بالكفر والشك، والحقد والحسد وغير ذلك، هذا القلب في القرآن شفاؤه، إذا أقبل صاحبه على هذا القرآن بالتلاوة والتدبر والرغبة الصادقة وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أي ومن خصائصه أنه هدى، وأنه رحمة، ولكن للمؤمنين المصدقين، فهؤلاء الذين تحصل لهم الهداية، وتنالهم الرحمة به، فهم المستفيدون الوحيدون به ومنه، وهذا كذلك من خصائص هذا القرآن، فإن الإنسان يأخذ منه على قدر استعداده وإيمانه، أما الكافرون والمنافقون فليس لهم في هذا القرآن نصيب
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ الذي مظهره الهداية للإيمان والإسلام وَبِرَحْمَتِهِ أي القرآن فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا أي بهذا الذي من الله عليهم به من الهدى ودين الحق والكتاب الهادي فليفرحوا؛ فإنه أولى ما يفرحون به هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية الذاهبة لا محالة، وهذا أدب عظيم لا يتحقق به إلا الموفقون الذين عرفوا القيمة الحقيقة للأشياء، أما الذين طاش لديهم الميزان فيعطون السعر الكبير لذي القيمة الحقيرة، والسعر الرخيص لذي القيمة الكبيرة، فهؤلاء بعيدون عن التوفيق وبعيدون عن حقيقة الإيمان.
أخرج ابن أبي حاتم عن أيفع بن عبد الكلاعي قال: لما قدم خراج العراق إلى عمر رضي الله عنه خرج عمر ومولى له فجعل عمر يعد الإبل فإذا هي أكثر من ذلك، فجعل
عمر يقول: الحمد لله تعالى. ويقول مولاه: هذا والله من فضل الله ورحمته، فقال عمر:
كذبت ليس هذا هو الذي يقول تعالى قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ الآية، وهذا مما يجمعون. رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني، فانظر هداك الله إلى نظرات الموفقين وتقييمهم للأشياء واقتد بها ولا يسرين إلى قلبك داء العصر (المادية) أي حب الدنيا والركون إليها، والاطمئنان إليها، وجعلها المقياس الوحيد، ومن هذا المقام ندرك الفارق الكبير بين التصور الإسلامي والتصورات الكافرة المعاصرة. إن أضخم دولتين في العالم الآن الاتحاد السوفيتي وأمريكا، يقوم مجتمعهما على فلسفة مادية بحتة؛ تقيم الأشياء من خلال مردودها المادي.
الاتحاد السوفيتي ينطلق من الفلسفة الماركسية التي تعتبر الإنتاج هو كل شئ، والاقتصاد هو كل شئ في حياة البشر. والمجتمع الأمريكي يقوم على فلسفة البراجماتزم: أي فلسفة
المنفعة، وهي تعني أن قيمة الشئ بقدر ما يقدم من نفع مادي للإنسان. وشتان بين هذا كله وبين تربية القرآن.
فإذا استقر ما مر- وهو أن هذا القرآن هدى للمؤمنين-فماذا يترتب على ذلك؟
يترتب على ذلك أن لا يتلقى الإنسان في باب التشريع، أو في باب العقائد والتصورات، إلا عن الله، ويترتب على ذلك أن يصوغ الإنسان نفسه صياغة قرآنية كاملة، ولذلك نلاحظ أن الله أمر رسوله عليه الصلاة والسلام أن يصحح فيما يأتي مفاهيم، وفيما بين التصحيحات قرر الله تقريرات، وفي التصحيحات والتقريرات نرى نموذجا على كون القرآن موعظة وشفاء وهدى ورحمة. فلنر بقية المقطع:
قُلْ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني ما أَنْزَلَ اللَّهُ أي خلق لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا أي حرمتم وأحللتم بمجرد الأهواء والآراء التي لا مستند عليها ولا دليل، والرزق رزقه، والمال ماله، والملك ملكه، فهو الذي يحرم ويحل، وعنه يتلقى التحريم والتحليل، وكل تحريم وتحليل غير متلقى عنه فهو باطل، وكذب وافتراء قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ في ذلك التحريم والتحليل؟ أَمْ أي بل عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ أي تكذبون بنسبة ذلك إليه
وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي ما ظن هؤلاء الذين يحرمون ويحللون بأهوائهم، مفترين على الله أن يصنع الله لهم يوم مرجعهم إليه يوم القيامة، أيحسبون أنه لا يعاقبهم وهم يكذبون عليه. لا، بل سينالون جزاء أعمالهم إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ إذ أحل لهم ما ينفعهم وحرم ما يضرهم، وأمهل الظالمين وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ بالأخذ عن الله، وتطبيق شرع الله، والإقبال على الله، وتسخير ما أعطى الله في طاعة الله، وبعد هذا التصحيح لمفهوم التحليل والتحريم، وأنه لا يجوز أن يكون تحليل أو تحريم إلا من الله، وأن كل تحليل غير ذلك كذب وافتراء على الله، يذكر الله ويعظ ويبشر
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ أي في أمر وَما تَتْلُوا مِنْهُ أي من الشأن أو من الله مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً أي رقباء إِذْ تُفِيضُونَ أي تأخذون فِيهِ أي العمل وَما يَعْزُبُ أي يغيب عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ أي وزن ذَرَّةٍ أصغر جزء متكامل من المادة فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وذكرهما دليل على إحاطة علمه تعالى وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ كالإلكترون أو البروتون أو النيوترون وَلا أَكْبَرَ كالجزيء وما هو أكبر إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي بين وهو اللوح
المحفوظ، أخبر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يعلم أحواله وأحوال أمته، وجميع الخلائق في كل ساعة وأوان ولحظة، وأنه لا يغيب عن علمه وبصره مثقال ذرة في حقارتها وصغرها في السموات والأرض ولا أصغر منها ولا أكبر، إلا في كتاب، فمن كان كذلك فهو أهل الخشية وأهل التقوى، وأهل لأن يتلقى عنه في التحليل والتحريم، وأهل لأن يعبد وحده،
ولذلك عقب هذه الآية بقوله أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أي فيما يستقبلونه من أحوال الآخرة وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما وراءهم من الدنيا،
ثم فسر تعالى من هم أولياؤه فقال: الَّذِينَ آمَنُوا بكل ما يجب الإيمان به وَكانُوا يَتَّقُونَ الله بامتثال أمره ونهيه، فمن كان تقيا كان لله وليا ولا ولاية إلا بهذا، فليخسأ المنحرفون عن أمر الله المفرطون في تطبيق شرعه
لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا هي الرؤيا الصالحة للرجل الصالح، يراها أو ترى له- كما سنرى- أو بشرى الملائكة للمؤمن عند احتضاره بالجنة والمغفرة وَفِي الْآخِرَةِ عند ما تتلقاهم مبشرة: هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ .. بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ
…
لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ أي لا خلف لمواعيده أي هذا الوعد لا يبدل ولا يخلف ولا يغير، بل هو مقرر مثبت كائن لا محالة ذلِكَ أي المذكور هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
وبعد أن بين الله عز وجل أن أولياءه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وجه لرسوله صلى الله عليه وسلم نهيا عن نوع من الحزن على ما عند أناس من عقائد أهل الكفر وأقوالهم وكلامهم وما يجهرون من ذلك فقال: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ أي قول هؤلاء الكافرين والمشركين، أي اعتقاداتهم، وما يجهرون به، وما يؤذون به، مبينا له إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً أي فاستعن بالله، وتوكل عليه وثق به فإن له العزة: أي القوة كلها، وقد جعلها لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين هُوَ السَّمِيعُ لأقوال عباده الْعَلِيمُ بأحوالهم فيجازيهم، وينصرك في الدنيا والآخرة،
ثم عرض الله عز وجل نماذج من أقوال هؤلاء الكافرين مفندا إياها، مبينا كذبها من خلال تقرير العقيدة الحق أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ عبيدا وملكا وخلقا، فالكل ملكه وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ أي والمتبوعون الذين يعبدهم المشركون من دون الله هم كذلك مملوكون لله، وإذ كان الأمر كذلك فكيف يكون هؤلاء شركاء لله؟ ومن أخبر المشركين أن آلهتهم شريكة لله في ألوهيته وربوبيته؟ الحقيقة أن المشركين يعبدون ما لا دليل لهم على عبادته، بل إنما يتبعون في
ذلك ظنونهم وتخرصهم وكذبهم وإفكهم إِنَّ أي ما يَتَّبِعُونَ في ذلك إِلَّا الظَّنَّ أي ظنهم أنها آلهة تشفع لهم وَإِنْ أي وما هُمْ إِلَّا
يَخْرُصُونَ أي يكذبون في ذلك، ثم أخبر تعالى أنه الذي جعل لعباده الليل ليسكنوا فيه أي يستريحون فيه من تعبهم وكلالهم وحركاتهم، والنهار مبصرا مضيئا لمعاشهم وسعيهم وأسفارهم ومصالحهم، فمن كان كذلك كيف يشرك به؟
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أي لدلالات على وحدانيته لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ أي يسمعون سماع تدبر واتعاظ لهذه الحجج والأدلة فيعتبرون بها، ويستدلون على عظمة خالقها ومقدرها ومسيرها،
ثم عرض الله نموذجا على أقوالهم الفاسدة قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ أي تقدس عن ذلك؛ هو الغني عن كل ما سواه، وكل شئ إليه فقير، والولد مظهر من مظاهر الافتقار والحاجة، فإنما يطلب الولد من يحتاج إليه لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فكيف يكون له ولد مما خلق وكل شئ مملوك له عبد له! إِنْ أي ما عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أي حجة بِهذا الذي تقولون. أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي ليس عندكم دليل على ما تقولونه من الكذب والبهتان، فكيف تتقولون على الله بلا علم، وهو إنكار ووعيد أكيد، وتهديد شديد وتوبيخ لهم.
ثم أوعد الله هؤلاء المفترين عليه، الناسبين له ما يليق به. قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بنسبة الولد له وغير ذلك.
لا يُفْلِحُونَ أي لا يسعدون،
ثم بين وجه عدم فلاحهم مَتاعٌ فِي الدُّنْيا أي لهم متاع قليل في الدنيا يتمتعون به طول حياتهم. ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ بالموت ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ أي المؤلم الموجع بِما كانُوا يَكْفُرُونَ أي بسبب كفرهم وافترائهم وكذبهم على الله، فيما ادعوه من الإفك والزور. وبهذا انتهى المقطع بعد أن قرر الله فيه كذب الذين يحرمون- بدون علم- ويعتقدون عقيدة الشرك، وينسبون إليه ولدا. وبين الحق في صفاته ووحدانيته، وذكر برحمته بأوليائه، وذلك كله بأبلغ درجات الوعظ، فكان ذلك نموذجا على كيفية كون هذا القرآن موعظة وشفاء وهدى ورحمة.
وهكذا بين الله عز وجل في هذا المقطع خصائص القرآن، ثم بين ما يترتب على كون القرآن له هذه الخصائص، وهو الاهتداء به في أمر التحليل والتحريم، وفي أمر التصورات والمواقف، وفي أمر العقائد اعتقادا وشعورا. وقبل أن ننتقل إلى المقطع الثاني فلننقل فوائد لها علاقة بهذا المقطع.