المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كلمة في السياق: - الأساس في التفسير - جـ ٥

[سعيد حوى]

فهرس الكتاب

- ‌ قسم المئين

- ‌[المجموعة الأولى من القسم المئين]

- ‌كلمة في قسم المئين:

- ‌سورة يونس

- ‌كلمة في سورة يونس ومحورها:

- ‌القسم الأول من سورة يونس

- ‌مقدمة السورة والمقطع الأول من القسم الأول

- ‌ملاحظة حول طريقتنا في تفسير ما سيأتي من القرآن:

- ‌كلمة بين يدي الآيات:

- ‌المعنى الحرفي لمقدمة السورة وللمقطع الأول من القسم الأول فيها:

- ‌فوائد:

- ‌كلمة في السياق:

- ‌ المجموعة الأولى

- ‌فوائد:

- ‌فائدة:

- ‌ملاحظة:

- ‌فائدة:

- ‌كلمة في السياق:

- ‌ المجموعة الثانية

- ‌فوائد:

- ‌كلمة في السياق:

- ‌ المجموعة الثالثة

- ‌فوائد:

- ‌كلمة في السياق:

- ‌ المجموعة الرابعة

- ‌كلمة في السياق:

- ‌فوائد:

- ‌ المجموعة الخامسة

- ‌فوائد:

- ‌كلمة في السياق:

- ‌ المجموعة السادسة

- ‌فائدة:

- ‌ كلمة حول السياق

- ‌المقطع الثاني من القسم الأول

- ‌المجموعة الأولى

- ‌فائدة:

- ‌كلمة في السياق:

- ‌ المجموعة الثانية

- ‌كلمة في السياق:

- ‌السؤال الأول وجوابه:

- ‌السؤال الثاني وجوابه:

- ‌كلمة في السياق:

- ‌فوائد:

- ‌القسم الثاني من سورة يونس عليه السلام

- ‌المقطع الأول من القسم الثاني

- ‌التفسير:

- ‌فوائد:

- ‌كلمة في السياق:

- ‌المقطع الثاني من القسم الثاني

- ‌كلمة بين يدي هذا المقطع:

- ‌التفسير:

- ‌كلمة في القصة القرآنية:

- ‌فائدة:

- ‌كلمة في السياق:

- ‌فائدة:

- ‌فائدة حول السياق:

- ‌كلمة في السياق:

- ‌فوائد:

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌فوائد:

- ‌فوائد:

- ‌فوائد:

- ‌كلمة في السياق:

- ‌ المقطع الثالث من القسم الثاني

- ‌كلمة في هذا المقطع:

- ‌التفسير:

- ‌فوائد:

- ‌القسم الثالث: وهو خاتمة السورة

- ‌كلمة في هذا القسم:

- ‌ الفقرة الأولى

- ‌فوائد:

- ‌ الفقرة الثانية:

- ‌كلمة في سورة يونس:

- ‌سورة هود

- ‌ما ورد فيها:

- ‌كلمة في سورة هود ومحورها:

- ‌نقول عن السورة:

- ‌المقدمة والمقطع الأول:

- ‌التفسير:

- ‌فوائد:

- ‌فائدة

- ‌فوائد:

- ‌ولنعد إلى التفسير:

- ‌فوائد:

- ‌فوائد:

- ‌كلمة في السياق:

- ‌المقطع الثاني

- ‌المجموعة الأولى

- ‌المجموعة الثانية

- ‌المجموعة الثالثة

- ‌تفسير المجموعة الأولى

- ‌فائدة:

- ‌ولنعد إلى السياق:

- ‌فوائد:

- ‌نقول من الظلال:

- ‌كلمة في السياق:

- ‌تفسير المجموعة الثانية

- ‌تفسير المجموعة الثالثة

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌نقل عن الظلال حول قصة صالح عليه السلام

- ‌فوائد:

- ‌كلمة في السياق:

- ‌ المقطع الثالث

- ‌التفسير:

- ‌فوائد:

- ‌ في الإصحاح الثامن عشر

- ‌وفي الإصحاح التاسع عشر:

- ‌كلمة في السياق:

- ‌ المقطع الرابع:

- ‌التفسير:

- ‌فوائد:

- ‌نقول:

- ‌كلمة في السياق:

- ‌المقطع الخامس

- ‌بين يدي هذا المقطع:

- ‌التفسير:

- ‌فوائد:

- ‌ المقطع السادس

- ‌بين يدي المقطع:

- ‌التفسير:

- ‌كلمة في السياق:

- ‌فوائد:

- ‌كلمة أخيره في سورة هود:

- ‌سورة يوسف

- ‌نقل عن الألوسي في سورة يوسف عليه السلام:

- ‌كلمة في سورة يوسف ومحورها:

- ‌مقدمة سورة يوسف عليه السلام

- ‌التفسير:

- ‌فوائد:

- ‌كلمة في السياق:

- ‌ المشهد الأول

- ‌التفسير:

- ‌فوائد:

- ‌ المشهد الثاني

- ‌التفسير:

- ‌فوائد:

- ‌ المشهد الثالث من قصة يوسف عليه السلام

- ‌التفسير:

- ‌فوائد:

- ‌ملاحظات:

- ‌ المشهد الرابع

- ‌التفسير:

- ‌فائدة:

- ‌فوائد:

- ‌نقل عن الظلال:

- ‌المشهد الخامس

- ‌التفسير:

- ‌فوائد:

- ‌المشهد السادس

- ‌التفسير:

- ‌نقل:

- ‌فوائد:

- ‌مختارات من تعليقات صاحب الظلال على قصة يوسف:

- ‌كلمة في السياق

- ‌خاتمة السورة

- ‌التفسير:

- ‌ملاحظة حول السياق:

- ‌ولنعد إلى السياق:

- ‌نقول من الظلال:

- ‌ولنعد إلى السياق:

- ‌فوائد:

- ‌كلمة في سورة يوسف:

- ‌سورة الرعد

- ‌قال الألوسي في تقديمه لسورة الرعد:

- ‌كلمة في سورة الرعد ومحورها في السياق القرآني العام:

- ‌المقدمة:

- ‌[سورة الرعد (13): آية 1]

- ‌التفسير:

- ‌المقطع الأول

- ‌التفسير:

- ‌الموقف الأول:

- ‌الموقف الثاني:

- ‌الموقف الثالث:

- ‌فوائد:

- ‌كلمة في السياق:

- ‌المقطع الثاني من سورة الرعد

- ‌التفسير:

- ‌كلمة في السياق:

- ‌فائدة:

- ‌كلمة في السياق:

- ‌الفوائد:

- ‌المقطع الثالث والأخير من سورة الرعد

- ‌ملاحظة حول المضمون والسياق:

- ‌تفسير المقطع الثالث:

- ‌ملاحظة حول السياق:

- ‌ولنعد إلى السياق:

- ‌كلمة في السياق:

- ‌فوائد:

- ‌كلمة في محل سورة الرعد:

- ‌سورة إبراهيم

- ‌قال الألوسي في تقديمه لسورة إبراهيم عليه السلام:

- ‌كلمة في سورة إبراهيم ومحورها:

- ‌المجموعة الأولى

- ‌التفسير:

- ‌كلمة في السياق:

- ‌فوائد:

- ‌المجموعة الثانية

- ‌التفسير:

- ‌فوائد:

- ‌الإصحاح التاسع والعشرون

- ‌الإصحاح الثلاثون

- ‌كلمة في السياق:

- ‌المجموعة الثالثة

- ‌التفسير:

- ‌نقل:

- ‌الفوائد:

- ‌المجموعة الرابعة

- ‌التفسير:

- ‌نقل:

- ‌كلمة في السياق:

- ‌فوائد:

- ‌المجموعة الخامسة

- ‌التفسير:

- ‌نقل:

- ‌فوائد:

- ‌المجموعة السادسة

- ‌التفسير:

- ‌فوائد:

- ‌كلمة في السياق:

- ‌ المجموعة السابعة

- ‌التفسير:

- ‌الفوائد:

- ‌المجموعة الثامنة

- ‌التفسير:

- ‌فوائد:

- ‌خاتمة السورة

- ‌[سورة إبراهيم (14): آية 52]

- ‌التفسير:

- ‌فائدة:

- ‌كلمة في سورة إبراهيم:

- ‌كلمة في المجموعة الأولى من قسم المئين:

الفصل: ‌كلمة في السياق:

‌كلمة في السياق:

1 -

أقام الله عز وجل الحجة عليهم بأن هذا القرآن لا ريب فيه بتحديهم أن يأتوا بسورة من مثله، ثم بين لهم العلل الحقيقية لريبهم، وهي: ظلمهم، وإفسادهم، وأعمالهم السيئة، وصممهم عن سماع كلمة الحق، وعدم استعمال عقولهم، وعمى أبصارهم عن رؤية الحق، وعمى بصائرهم عن التدبر، وظلمهم لأنفسهم، وبعد أن أقام عليهم الحجة وبين لهم علل تكذيبهم، تأتي بعد ذلك مجموعة واعظة تعظ وتنذر 2 - رأينا أنه قد مر معنا في هذه المجموعة من هذا المقطع قوله تعالى بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ والمراد بتأويله هنا- والله أعلم- تفسيره العملي، وتفسيره العملي هو وقوع ما أخبر عنه من غيوب، وهذا الذي أخبر عنه من الغيوب سيقع شيئا فشيئا، وآخر هذا الوقوع هو ما سيكون يوم القيامة، ومن ثم فإن المجموعة الثانية في هذا المقطع تحدثنا عن بعض جوانب التفسير العملي الكائن لما أخبر عنه هذا القرآن من غيوب، وفي ذلك إقامة حجة على من كذب وإنذار له، وقبل أن ننتقل إلى عرض المجموعة الثانية فلننقل بعض ما قاله صاحب الظلال بمناسبة قوله تعالى: قُلْ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.

قال: (وقد ثبت هذا التحدي؛ وثبت العجز عنه. وما يزال ثابتا ولن يزال. والذين يدركون بلاغة هذه اللغة، ويتذوقون الجمال الفني والتناسق فيها، يدركون أن هذا النسق من القول لا يستطيعه إنسان.

وكذلك الذين يدرسون النظم الاجتماعية، والأصول التشريعية، ويدرسون النظام الذي جاء به هذا القرآن، يدركون أن النظرة فيه إلى تنظيم الجماعة الإنسانية ومقتضيات حياتها من جميع جوانبها، والفرص المدخرة فيه لمواجهة الأطوار والتقلبات في يسر ومرونة .. كل أولئك أكبر من أن يحيط به عقل بشري واحد، أو مجموعة العقول في جيل واحد أو في الأجيال. ومثلهم الذين يدرسون النفس الإنسانية ووسائل الوصول إلى التأثير فيها وتوجيهها، ثم يدرسون وسائل القرآن وأساليبه.

فليس هو إعجاز اللفظ والتعبير وأسلوب الأداء وحده، ولكنه الإعجاز المطلق الذي يلمسه الخبراء في هذا، أو في النظم والتشريعات، والنفسيات وما إليها ..

والذين زاولوا فن التعبير، والذين لهم بصر بالأداء الفني، يدركون أكثر من غيرهم

ص: 2464

مدى ما في الأداء القرآني من إعجاز في هذا الجانب. والذين زاولوا التفكير الاجتماعي والقانوني والنفسي، والإنساني بصفة عامة، يدركون أكثر من غيرهم مدى الإعجاز الموضوعي في هذا الكتاب أيضا.

ومع تقدير العجز سلفا عن بيان حقيقة هذا الإعجاز ومداه، والعجز عن تصويره بالأسلوب البشري. ومع تقدير أن الحديث المفصل عن هذا الإعجاز- في حدود الطاقة البشرية- هو موضوع كتاب مستقل. فسأحاول هنا أن ألم إلمامة خاطفة بشيء من هذا ..

إن الأداء القرآني يمتاز ويتميز من الأداء البشري .. إن له سلطانا عجيبا على القلوب ليس للأداء البشري؛ حتى ليبلغ أحيانا أن يؤثر بتلاوته المجردة على الذين لا يعرفون من العربية حرفا .. وهناك حوادث عجيبة لا يمكن تفسيرها بغير هذا الذي نقول- وإن لم تكن هي القاعدة- ولكن وقوعها يحتاج إلى تفسير وتعليل .. ولن أذكر نماذج عما وقع لغيري؛ ولكن أذكر حادثا وقع لي وكان عليه معي شهود ستة، وذلك منذ حوالي خمسة عشر عاما .. كنا ستة نفر من المنتسبين إلى الإسلام على ظهر سفينة مصرية تمخر بنا عباب المحيط الأطلسي إلى نيويورك؛ من بين عشرين ومائة راكب أجانب، ليس منهم مسلم .. وخطر لنا أن نقيم صلاة الجمعة في المحيط على ظهر السفينة، والله يعلم أنه لم يكن بنا أن نقيم الصلاة ذاتها أكثر مما كان بنا حماسة دينية وإزاء مبشر كان يزاول عمله على ظهر السفينة؛ وحاول أن يزاول تبشيره معنا! .. وقد يسر لنا قائد السفينة- وكان إنجليزيا- أن نقيم صلاتنا؛ وسمح لبحارة السفينة وطهاتها وخدمها- وكلهم نوبيون مسلمون- أن يصلي منهم معنا من

لا يكون في «الخدمة» وقت الصلاة! وقد فرحوا بهذا فرحا شديدا، إذ كانت المرة الأولى التي تقام فيها صلاة الجمعة .. وقمت بخطبة الجمعة وإقامة الصلاة؛ والركاب الأجانب- معظمهم- متحلقون يرقبون صلاتنا! .. وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على نجاح «القداس» !!! فقد كان هذا أقصى ما يفهمونه من صلاتنا! ولكن سيدة من هذا الحشد- عرفنا فيما بعد أنها يوغسلافية مسيحية هاربة من جحيم «تيتو» وشيوعيته! - كانت شديدة التأثر والانفعال، تفيض عيناها بالدمع ولا تتمالك مشاعرها. جاءت تشد على أيدينا بحرارة؛ وتقول:- في إنجليزية ضعيفة- إنها لا تملك نفسها من التأثر العميق بصلاتنا هذه وما فيها من خشوع ونظام وروح! .. وليس هذا موضع الشاهد في القصة .. ولكن ذلك كان في قولها: أي لغة هذه

ص: 2465

التي كان يتحدث بها «قسيسكم» ؟! فالمسكينة لا تتصور أن يقيم «الصلاة» إلا قسيس. أو رجل دين- كما هو الحال عندها في مسيحية الكنيسة-! وقد صححنا لها هذا الفهم! .. وأجبناها .. فقالت: إن اللغة التي يتحدث بها ذات إيقاع موسيقي عجيب، وإن كنت لم أفهم منها حرفا .. ثم كانت المفاجأة الحقيقية لنا وهي تقول: ولكن هذا ليس الموضوع الذي أريد أن أسأل عنه .. إن الموضوع الذي لفت حسي، هو أن «الإمام» كانت ترد في أثناء كلامه- بهذه اللغة الموسيقية- فقرات من نوع آخر غير بقية كلامه! نوع أكثر موسيقية وأعمق إيقاعا .. هذه الفقرات الخاصة كانت تحدث في رعشة وقشعريرة! إنها شئ آخر! كما لو كان- الإمام- مملوءا من الروح القدس- حسب تعبيرها المستمد من مسيحيتها- وتفكرنا قليلا. ثم أدركنا أنها تعني الآيات القرآنية التي وردت في أثناء خطبة الجمعة وفي أثناء الصلاة! وكانت- مع ذلك- مفاجأة لنا تدعوا إلى الدهشة، من سيدة لا تفهم مما نقول شيئا.

وليست هذه قاعدة كما قلت. ولكن وقوع هذه الحادثة- ووقوع أمثالها مما ذكره لي غير واحد- ذو دلالة على أن في هذا القرآن سرا آخر تلتقطه بعض القلوب لمجرد تلاوته.

وقد يكون إيمان هذه السيدة بدينها، وفرارها من الجحيم الشيوعي في بلادها، قد أرهف حسها بكلمات الله على هذا النحو العجيب .. ولكن ما بالنا نعجب وعشرات الألوف ممن يستمعون إلى القرآن من عوامنا لا يطرق عقولهم منه شئ، ولكن يطرق قلوبهم إيقاعه- وسره هذا- وهم لا يفترقون كثيرا من ناحية فهم لغة القرآن عن هذه السيدة اليوغسلافية.

ولقد أردت أن أقدم للحديث عن القرآن بسلطانه هذا الخفي العجيب. قبل أن أتحدث عن الجوانب المدركة التي يعرفها أكثر من غيرهم من يزاولون فن التعبير. ومن يزاولون التفكير والشعور.

إن الأداء القرآني يمتاز بالتعبير عن قضايا ومدلولات ضخمة في حيز يستحيل على البشر أن يعبروا فيه عن مثل هذه الأغراض، وذلك بأوسع مدلول، وأدق تعبير، وأجمله وأحياه أيضا، مع التناسق العجيب بين المدلول والعبارة والإيقاع والظلال والجو، ومع جمال التعبير دقة الدلالة في آن واحد، بحيث لا يغني لفظ عن لفظ في موضعه، وبحيث لا يجور الجمال على الدقة ولا الدقة على الجمال. ويبلغ من ذلك كله مستوى لا يدرك إعجازه أحد، كما يدرك ذلك من يزاولون فن التعبير فعلا؛ لأن هؤلاء هم الذين يدركون حدود

ص: 2466

الطاقة البشرية في هذ المجال. ومن ثم يتبينون بوضوح أن هذا المستوى فوق الطاقة البشرية قطعا.

وينشأ عن هذه الظاهرة ظاهرة أخرى في الأداء القرآني .. هي أن النص الواحد يحوي مدلولات متنوعة متناسقة في النص؛ وكل مدلول منها يستوفي حظه من البيان والوضوح دون اضطراب في الأداء واختلاط بين المدلولات؛ وكل قضية وكل حقيقة تنال الحيز الذي يناسبها. بحيث يستشهد بالنص الواحد في مجالات شتى؛ ويبدو كل مرة أصيلا في الموضع الذي استشهد به فيه؛ وكأنما هو مصوغ ابتداء لهذا المجال ولهذا الموضع! وهي ظاهرة قرآنية بارزة لا تحتاج منا إلى أكثر من الإشارة إليها.

وللأداء القرآني طابع بارز كذلك في القدرة على استحضار المشاهد، والتعبير المواجه كما لو كان المشهد حاضرا، بطريقة ليست معهودة على الإطلاق في كلام البشر؛ ولا يملك الأداء البشري تقليدها. لأنه يبدو في هذه الحالة مضطربا غير مستقيم مع أسلوب الكتابة! وإلا فكيف يمكن للأداء البشري أن يعبر عن طريقة الأداء القرآني مثلا في مثل هذه المواضع: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ- بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ .. (وإلى هنا هي قصة تحكى) .. ثم يعقبها مباشرة خطاب موجه في مشهد حاضر .. آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ؟! فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً .. ثم يعود الأداء للتعقيب على المشهد الحاضر: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ ..

قُلْ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ، شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ .. وإلى هنا أمر يوجه ورسول يتلقى .. ثم فجأة نجد الرسول يسأل القوم: أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى؟ .. وإذا به يعود للتلقي في شأن هذا الذي سأل عنه قومه- وأجابوه: قُلْ: لا أَشْهَدُ قُلْ: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ، وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ.

وكذلك هذه الالتفاتات المتكررة في مثل هذه الآيات: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ .. وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا. قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ، إِنَ

ص: 2467

رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ .. وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ .. يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ

هذا قالُوا: شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ.

وأمثالها كثير في القرآن كله. وهو أسلوب متميز تماما عن الأسلوب البشري وإلا فمن شاء أن يماري فليحاول أن يعبر عن هذا النحو ثم ليأت بكلام مفهوم مستقيم؛ فضلا على أن يكون له هذا الجمال الرائع، وهذا الإيقاع المؤثر، وهذا التناسق الكامل.

هذه بعض جوانب الإعجاز في الأداء نلم بها سراعا. ويبقى الإعجاز الموضوعي، والطابع الرباني المتميز من الطابع البشري فيه.

إن هذا القرآن يخاطب الكينونة البشرية بجملتها، فلا يخاطب ذهنها المجرد مرة. وقلبها الشاعر مرة. وحسها المتوفز مرة. ولكنه يخاطبها جملة، ويخاطبها من أقصر طريق، ويطرق كل أجهزة الاستقبال والتلقي فيها مرة واحدة كلما خاطبها .. وينشئ فيها بهذا الخطاب تصورات وتأثرات وانطباعات لحقائق الوجود كلها، لا تملك وسيلة أخرى من الوسائل التي زاولها البشر في تاريخهم كله أن تنشئها بهذا العمق، وبهذا الشمول، وبهذه الواقعية وبهذا الوضوح، وبهذه الطريقة وهذا الأسلوب أيضا.

ونستعير هنا فقرات مقتبسة من القسم الثاني من كتاب: (خصائص التصور ومقوماته) تعين على توضيح هذه الحقيقة؛ وهي تتحدث عن (المنهج القرآني في عرض مقومات التصور الإسلامي) في صورتها الجميلة الكاملة الشاملة المتناسقة المتوازنة، وأبرز خصائص هذا المنهج في العرض:

«أنه يمتاز عن كل المناهج:

«أولا: بكونه يعرض الحقيقة- كما هي في عالم الواقع- في الأسلوب الذي يكشف كل زواياها، وكل جوانبها، وكل ارتباطاتها، وكل مقتضياتها .. وهو- مع هذا الشمول- لا يعقد هذه الحقيقة، ولا يلفها بالضباب، بل يخاطب بها الكينونة البشرية في كل مستوياتها .. ولم يشإ الله- سبحانه- رحمة منه بالعباد أن يجعل مخاطبتهم بمقومات هذا التصور وإدراكهم لها، متوقفا على سابق علم لهم .. إطلاقا ..

لأن العقيدة هي حاجة حياتهم الأولى، والتصور الذي تنشئه في عقولهم وقلوبهم هو

ص: 2468

الذي يحدد لهم طريقة تعاملهم مع الوجود كله. ويحدد لهم كذلك طريقة اتجاههم لتعلم أي علم، ولطلب أية معرفة .. لهذا السبب لم يجعل الله إدراك هذه العقيدة متوقفا على علم سابق. ولسبب آخر هو أن الله يريد أن يكون هذا التصور الذي تنشئه حقائق العقيدة هو قاعدة علم البشر ومعرفتهم- بما أنه هو قاعدة تصورهم وتفسيرهم للكون من حولهم، ولما يجري فيه ولما يجري فيهم- كي يقوم علمهم وتقوم معرفتهم على أساس من الحق المستيقن الذي ليس هنالك غيره حق مستيقن. ذلك أن كل ما يتلقاه الإنسان وكل ما يصل إليه- عن غير هذا المصدر- هو معرفة- «ظنية» ونتائج «محتملة» لا «قطعية» حتى ذلك «العلم التجريبي» . فطريق العلم التجريبي هو القياس- لا الاستقراء والاستقصاء- فما يتسنى للبشر الاستقصاء والاستقراء في أية تجربة. هذا على فرض صحة جميع الملاحظات والاستنتاجات، والأحكام البشرية على الظواهر، إنما قصارى «العلم» أن يقوم بعدد من التجارب، ثم يقيس على نتائجها.

والعلم نفسه يسلم بأن النتائج الناشئة عن هذا القياس ظنية محتملة، لا يقينية قطعية (وذلك بالإضافة إلى أن كل تجربة على حدة، تقوم على ترجيح أحد «الاحتمالات» لا على القطع الحتمي) .. فلم يبق من علم مستيقن يمكن أن يحصل عليه البشر إلا العلم الذي يأتيهم من عند العليم الخبير، والذي يقصه من يقص الحق وهو خير الفاصلين.

وثانيا: بكونه مبرأ من الانقطاع والتمزق الملحوظين في الدراسات «العلمية» والتأملات «الفلسفية» والومضات «الفنية» جميعا. فهو لا يفرد كل جانب من جوانب (الكل) الجميل المتناسق بحديث مستقل كما تصنع أساليب الأداء البشرية. وإنما هو يعرض هذه الجوانب في سياق موصول؛ يرتبط فيه عالم الشهادة بعالم الغيب. وتتصل فيه حقائق الكون والحياة والإنسان بحقيقة الألوهية. وتتصل فيه الدنيا بالآخرة. وحياة الناس في الأرض بحياة الملأ الأعلى في أسلوب تتعذر مجاراته أو تقليده، لأن الأسلوب البشري عند ما يحاول تقليده في هذا الخاصية تبدو فيه الحقائق مختلطة مضطربة غامضة، غير واضحة ولا محددة ولا منسقة، كما تبدو في المنهج القرآني.

«وهذا الاتصال والارتباط في عرض جملة الحقائق في السياق القرآني الواحد قد يختلف فيه التركيز على أي منها بين موضع وموضع. ولكن هذا الترابط يبدو ودائما.

فعند ما يكون التركيز في موضع من السياق القرآني مثلا على تعريف الناس بربهم الحق، تتجلى هذه الحقيقة الكبيرة في آثار القدرة الإلهية الفاعلة في الكون والحياة والإنسان. في

ص: 2469

عالم الغيب وعالم الشهادة سواء .. وعند ما يكون التركيز في موضع آخر على التعريف بحقيقة الكون تتجلى العلاقة بين «حقيقة الألوهية» و «حقيقة الكون» ويتطرق السياق كثيرا إلى حقيقة الحياة والأحياء، وإلى سنن الله في الكون والحياة .. وعند ما يكون التركيز على «حقيقة الإنسان» يتجلى ارتباطها بحقيقة الألوهية وبالكون والأحياء، وبعالم الغيب وعالم الشهادة على السواء .. وعند ما يكون التركيز على الدار الآخرة تذكر الحياة الدنيا وترتبطان بالله وبسائر الحقائق الأخرى .. وكذلك عند ما يكون التركيز على قضايا الدنيا .. إلى آخر النسق من العرض، الواضح الملامح في القرآن.

وثالثا: بكونه- مع تماسك جوانب «الحقيقة» وتناسقها- يحافظ تماما على إعطاء كل جانب من جوانبها- في الكل المتناسق- مساحته التي تساوي وزنه الحقيقي في ميزان الله- وهو الميزان- ومن ثم تبدو «حقيقة الألوهية» وخصائصها، وقضية «الألوهية والعبودية» بارزة مسيطرة محيطة شاملة؛ حتى ليبدو أن التعريف بتلك الحقيقة وتجلية هذه القضية هو موضوع القرآن الأساسي. وتشغل حقيقة عالم الغيب- بما فيه القدر والدار الآخرة- مساحة بارزة. ثم تنال حقيقة الإنسان، وحقيقة الكون، وحقيقة الحياة، أنصبة متناسقة تناسق هذه الحقائق في عالم الواقع. وهكذا لا تدغم حقيقة من الحقائق، ولا تهمل، ولا تضيع معالمها في المشهد الكلي الذي تعرض فيه هذه الحقائق. وكما أن هذه الحقائق لا يطغى بعضها على بعض في التصور الإسلامي في ذاته- كما بينا في فصل «التوازن» في القسم الأول- حيث لا ينتهي الإعجاب بالكون المادي ودقة نواميسه وتناسق أجزائه وقوانينه إلى تأليهه- كمؤلهة العوالم المادية والأكوان الطبيعية قديما وحديثا- ولا ينتهي الإعجاب بعظمة الحياة واهتدائها إلى

وظائفها وتناسقها مع نفسها ومع المحيط الكوني إلى تأليهها- كأصحاب المذهب الحيوي- ولا ينتهي الإعجاب بالإنسان، وتفرده في خصائصه والاستعدادات الكامنة في كياناته المنطلقة في تعامله مع الكون، إلى تأليه الإنسان- أو العقل- في صورة من الصور- كالمثاليين في عمومهم- ولا ينتهي الإجلال للحقيقة الإلهية في ذاتها إلى إنكار وجود العوالم المادية أو احتقارها أو احتقار الكائن الإنساني- كالمذاهب الهندوكية والبوذية والنصرانية المحرفة- كما أن هذا التوازن هو طابع التصور الإسلامي ذاته، فكذلك هو طابع منهج العرض القرآني لمقومات هذا التصور والحقائق التي يقوم عليها بحيث تبدو كلها واضحة في المشهد الفريد الذي يرسمه للكل في السياق القرآني الواحد. وهي خاصية قرآنية لا يملكها الأداء الإنساني.

ص: 2470

«رابعا: بتلك الحيوية الدافقة المؤثرة الموحية- مع الدقة والتقرير والتحديد الحاسم. وهي تمنح هذه الحقائق حيوية وإيقاعات وروعة وجمالا، لا يتسامى إليها المنهج البشري في العرض ولا الأسلوب البشري في التعبير. ثم هي في الوقت ذاته تعرض في دقة عجيبة، وتحديد حاسم؛ ومع ذلك لا تجور الدقة على الحيوية والجمال، ولا يجور التحديد على الإيقاع والروعة.

«ولا يمكن أن نصف نحن في أسلوبنا البشري، ملامح المنهج القرآني. فنبلغ من ذلك ما يبلغه تذوق هذا المنهج. كما أنه لا يمكن أن نبلغ بهذا البحث كله عن «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» شيئا مما يبلغه القرآن في هذا الشأن. وما نحاول تقديم هذا البحث للناس إلا لأن الناس قد بعدوا عن القرآن ببعدهم عن الحياة في مثل الجو الذي تنزل فيه القرآن. ولم يعودوا يزاولون تلك الملابسات، ولا يعانون تلك الاهتمامات التي كان يزاولها ويعانيها من كان يتنزل عليهم القرآن. بينما ينشئون المجتمع المسلم في وجه كل الملابسات القائمة حينذاك والاستمتاع بخصائصه ومذاقاته». انتهت المقتطفات.

والقرآن يقدم حقائق العقيدة- أحيانا- في مجالات لا يخطر للفكر البشري عادة أن يلم بها، لأنها ليست من طبيعة ما يفكر فيه عادة أو يلتفت إليه على هذا النحو.

من هذا القبيل ما جاء في سورة الأنعام في تصوير حقيقة العلم الإلهي ومجالاته.

وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ.

فهذه المطارح المترامية، الخفية والظاهرة، ليست مما يتوجه الفكر البشري إلى ارتيادها على هذا النحو؛ وهو في معرض تصوير شمول العلم، مهما أراد تصوير هذا الشمول. ولو أن فكرا بشريا هو الذي يريد تصوير شمول العلم لاتجه اتجاهات أخرى تناسب اهتمامات الإنسان وطبيعة تصوراته ....

وإن آية واحدة من القرآن كهذه الآية لمما يوحي بأن هذا القرآن ليس من قول البشر. فمثل هذا الخاطر الكوني لا يخطر بطبيعته على قلب بشر. ومثل هذا التصور الكوني لا دوافع إليه من طبيعة تصور البشر ....

كذلك يبدو الطابع الإلهي في هذا القرآن في طريقة استدلاله بأشياء وأحداث مثيرة

ص: 2471

صغيرة في ظاهرها؛ وهي ذات حقيقة ضخمة تناسب الموضوع الذي يستدل بها عليه.

كما يبدو في قوله تعالى من سورة الواقعة: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ* أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ؟ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ* نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ* عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ* وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى، فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ* لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ* أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ؟ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ؟ * نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ* فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ.

إن هذا القرآن يجعل من مألوفات البشر وحوادثهم المكرورة قضايا كونية كبرى يكشف فيها عن النواميس الإلهية في الوجود، وينشئ بها عقيدة ضخمة شاملة وتصورا كاملا لهذا الوجود، كما يجعل منها منهجا للنظر والتفكير، وحياة للأرواح والقلوب، ويقظة في المشاعر والحواس. يقظة لظواهر هذا الوجود التي تطالع الناس صباح مساء وهم غافلون عنها، ويقظة لأنفسهم وما يجري من العجائب والخوارق فيها.

إنه لا يكل الناس إلى الحوادث الفذة الخارقة، والمعجزات الخاصة المعدودة. كذلك لا يكلفهم أن يبحثوا عن الخوارق والمعجزات والآيات والدلائل بعيدا عن أنفسهم، ولا عن مألوف حياتهم، ولا عن الظواهر الكونية القريبة منهم المعروفة لهم. إنه لا يبعد بهم في فلسفات معقدة، أو مشكلات عقلية عويصة، أو تجارب عملية لا يملكها كل أحد. لكي ينشئ في نفوسهم عقيدة وتصورا للكون والحياة قائما على هذه العقيدة.

إن أنفسهم من صنع الله، وظواهر الكون حولهم من إبداع قدرته، والمعجزة كامنة في كل ما تبدعه يده. وهذا القرآن قرآنه. ومن ثم يأخذهم إلى هذه المعجزات الكامنة فيهم، والمبثوثة في الكون من حولهم. يأخذهم إلى هذه الخوارق المألوفة لهم التي يرونها ولا يحسون حقيقة الإعجاز فيها. لأنهم لطول ألفتهم بها غفلوا عن مواضع الإعجاز فيها. يأخذهم إليها ليفتح عيونهم عليها، فتطلع على السر الهائل المكنون فيها. سر القدرة المبدعة، وسر الوحدانية المفردة. وسر الناموس الأزلي الذي يعمل في كيانهم أنفسهم كما يعمل في الكون من حولهم، والذي يحمل دلائل الإيمان؛ وبراهين العقيدة فيبثها في كيانهم، أو يوقظها في فطرتهم بتعبير أدق.

وعلى هذا المنهج يسير، وهو يعرض عليهم آيات القدرة المبدعة في خلقهم هم أنفسهم. وفي زرعهم الذي تزاوله أيديهم. وفي الماء الذي يشربون. وفي النار التي

ص: 2472