الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فضة
…
والمعنى: أن لهذه الفلذات عند غليانها زبدا مثل زبد الماء كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ أي كذلك يضرب الله مثل الحق والباطل فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً أي متلاشيا أي لا ينتفع به، بل يتفرق ويتمزق ويذهب في جانبي الوادي ويعلق بالشجر وتنسفه الرياح، وكذلك خبث الذهب والفضة والحديد والنحاس، يذهب ولا يرجع منه شئ وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ من الماء والحلي والأواني فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ أي فيثبت كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ أي ليظهر الحق من الباطل، قال ابن كثير: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها الآية. هذا مثل ضربه الله احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها، فأما الشك فلا ينفع معه العمل، وأما اليقين فينفع الله به أهله وهو قوله فَأَمَّا الزَّبَدُ وهو الشك فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ وهو اليقين، وكما يجعل الحلي في النار فيؤخذ خالصه ويترك خبثه في النار، فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك. قال النسفي:(قال الجمهور: وهذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن والقلوب، والحق والباطل، فالماء القرآن نزل لحياة الجنان كالماء للأبدان، والأودية للقلوب، ومعنى بقدرها بقدر سعة القلب وضيقه، والزبد هواجس النفس ووساوس الشيطان، والماء الصافي المنتفع به مثل الحق، فكما يذهب الزبد باطلا ويبقى صفو الماء، كذلك تذهب هواجس النفس ويبقى الحق كما هو، وأما حلية الذهب والفضة فمثل للأحوال السنية والأخلاق الزكية، وأما متاع الحديد والنحاس والرصاص فمثل للأعمال الممدة بالإخلاص المعدة للخلاص، فإن الأعمال جالبة للثواب دافعة للعقاب، كما أن تلك الجواهر بعضها أداة النفع للكسب، وبعضها آلة الدفع في الحرب، وأما الزبد فالرياء والخلل والملل والكسل).
كلمة في السياق:
لقد قلنا: إن محور سورة الرعد هو آيتا سورة البقرة: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ
بدأت هاتان الآيتان بالحديث عن الله وضربه الأمثال، وموقف الناس من المثل، وانقسامهم بذلك إلى قسمين: مهتدين،
وضالين، وأن الذين استحقوا الضلال هم الموصوفون بالصفات المذكورة، وهاهنا في سورة الرعد بدأ المقطع الثاني بالحديث عن الله، وعلمه المحيط، وعظمته وعنايته بالإنسان، وقانونه العادل في خلقه. ثم تحدث عن مظاهر من قدرته وعظمته وانتقامه، ثم ضرب مثلا لمن يعبده ويعبد غيره، ثم قرر خضوع الخلق كلهم له، ثم قرر ربوبيته ووحدانيته وقهره، ثم ضرب مثلا للحق الذي أنزله ووقعه في القلوب، وحال القلوب معه، واستحقاق هذا الحق للبقاء والمكث في الأرض، ليوصلنا بذلك كله إلى ما أعد للمسلمين له، وما أعد للرافضين هداه، ثم ليقارن بين الذين علموا الحق والذين لا يعلمونه، وبين صفات الذين علموا الحق واستجابوا له، وصفات الذين رفضوا الحق ولم يستجيبوا له، وهي نفس الصفات المذكورة في سورة البقرة الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ
…
فالمقطع إذن تفصيل لآيتي سورة البقرة اللتين هما محور هذه السورة، إن معرفة الله توصل إلى أنه هو وحده الذي يعلم الحق، وهو الذي ينزله ويبينه. ولكن الناس يختلفون في موقفهم منه، فيقبله بعضهم ويرفضه آخرون، والبقاء الحقيقي للحق وحده، والثواب الحقيقي والجزاء الصارم إنما يكونان يوم القيامة، والذين يستجيبون للحق لهم مواصفاتهم، والذين لا يستجيبون لهم مواصفاتهم. فلنر كيف عرضت المعاني فيما تبقى من المقطع:
لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى أي: الجنة ورضوان الله تعالى للذين أطاعوا الله ورسوله، وانقادوا لأوامره وصدقوا وحيه وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ برفضهم هديه لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أي لو ملكوا أموال الدنيا وملكوا معها مثلها لبذلوه ليدفعوا عن أنفسهم عذاب الله، وأنى لهم ذلك، ومع بعد ذلك عنهم فإن الله لا يتقبل منهم أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ أي في الدار الآخرة، أي يناقشون على النقير والقطمير والجليل والحقير، ومن نوقش الحساب عذب وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ أي ومرجعهم بعد المحاسبة النار وَبِئْسَ الْمِهادُ أي وبئس المكان الممهد جهنم،
ثم قارن الله عز وجل بين الفريقين فقال: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى أي لا يستوي من يعلم من الناس أن الذي أنزل إليك يا محمد من ربك هو الحق الذي لا شك فيه ولا مرية ولا لبس فيه ولا اختلاف فيه، بل هو كله حق يصدق بعضه بعضا، لا يضاد شئ منه شيئا آخر، فأخباره كلها حق، وأوامره ونواهيه عدل، لا يستوي من كان كذلك ومن هو أعمى لا يهتدي إلى خير ولا يفهمه، ولو فهمه ما انقاد له ولا صدقه
ولا اتبعه، أفهذا كهذا؟ لا استواء. فالاستفهام في الآية إنكاري، أي إنه لمستنكر بعد كل هذا وبعد ما ضرب الله من المثل وما جاء به من الهدى أن تقع شبهة لا يعرف فيها الحق، إنه ليس إلا العمى وحده هو السبب في عدم رؤية الحق، ثم ختم الله الآية بقوله:
إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ أي إنما يتعظ ويعتبر ويعقل أولو العقول السليمة الصحيحة الذي يعملون على قضايا عقولهم فينظرون ويستبصرون، فمن لا عقل له لا يتذكر، ومن لم يتذكر فهو أعمى، وقد دل ذلك على أن العقول السليمة مركوز فيها الحق، فإذا نزل عليها الوحي تذكرت، أما القلوب التي لا تتذكر فإنها وصلت إلى العمى الكامل، ولذلك كله علاماته،
ومن ثم فإن الله عز وجل ذكر بعد هذه الآية خصائص الفريقين، مقدما صفات أهل الحق، فمن وجد من نفسه صفات أهل الحق فإنه من المهتدين، ومن وجد من نفسه صفات أهل الباطل فإنه من الظالمين. أول هذه الصفات: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ وعهد الله ما أوثقوه على أنفسهم من الشهادة بربوبيته، فهم يفون لله بعهده أنه الرب وهم عبيد، ثم هم لا ينقضون ما أوثقوه على أنفسهم من المواثيق بينهم وبين الله، أو بينهم وبين العباد.
خصص الوفاء بعهد الله ثم عمم ليدخل فيه كل عهد واجب الوفاء شرعا.
وثاني هذه الصفات: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ويدخل في ذلك صلة الأرحام والإحسان إليهم، وإلى الفقراء والمحاويج وبذل المعروف. قال النسفي:(ويدخل فيه وصل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرابة المؤمنين الثابتة بسبب الإيمان .. إنما المؤمنون إخوة، بالإحسان إليهم على حسب الطاقة، ونصرتهم والذب عنهم، والشفقة عليهم، وإفشاء السلام عليهم، وعيادة مرضاهم، ومنه مراعاة حق الأصحاب والخدم والجيران والرفقاء في السفر) الصفة الثالثة: وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ لمعرفتهم به وبجلاله. الصفة الرابعة: وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ في الدار الآخرة فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا، ويراقبون الله فيما يأتون ويذرون من الأعمال، فيكون أمرهم على السداد والاستقامة، في جميع حركاتهم وسكناتهم وجميع أحوالهم.
الصفة الخامسة: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ صبروا عن المحارم والمآثم، وصبروا على المصائب في النفوس والأموال ومشاق التكاليف لله وحده، لا ليقال ما أصبره وأحمله للنوازل، وأوقره عند الزلازل، ولا لئلا يعاب في الجزع، قال صاحب الظلال: (والصبر ألوان. وللصبر مقتضيات. صبر على تكاليف الميثاق من عمل وجهاد ودعوة واجتهاد ..... الخ، وصبر على النعماء والبأساء. وقل من يصبر على النعمة فلا يبطر ولا يكفر. وصبر على
حماقات الناس وجهالاتهم وهي تضيق الصدور .. وصبر وصبر وصبر .. كله ابتغاء وجه ربهم لا تحرجا من أن يقول الناس: جزعوا، ولا تجملا ليقول الناس: صبروا. ولا رجاء في نفع من وراء الصبر. ولا دفعا لضر يأتي به الجزع. ولا لهدف واحد غير ابتغاء وجه الله والصبر على نعمته وبلواه. صبر التسليم لقضائه والاستسلام لمشيئته والرضى والاقتناع .. ) الصفة السادسة: وَأَقامُوا الصَّلاةَ أي داوموا على إقامتها بحدودها ومواقيتها وركوعها وسجودها وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي. الصفة
السابعة:
وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ أي على الذين يجب عليهم الإنفاق لهم من زوجات وقرابات وأجانب، من فقراء ومحاويج ومساكين سِرًّا وَعَلانِيَةً أي في السر والجهر لم يمنعهم من ذلك حال من الأحوال آناء الليل وأطراف النهار. وصدقة السر في النفل أفضل، وصدقة الجهر في الفرض أفضل نفيا للتهمة. الصفة الثامنة: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي يدفعون القبيح بالحسن، فإذا آذاهم أحد قابلوه بالجميل صبرا واحتمالا وصفحا وعفوا، يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سيئ غيرهم، وإذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا، وإذا أذنبوا تابوا، وإذا هربوا أنابوا، وإذا رأوا منكرا أمروا بتغييره، قال صاحب الظلال: (والمقصود أنهم يقابلون السيئة بالحسنة في المعاملات اليومية لا في دين الله، ولكن التعبير يتجاوز المقدمة إلى النتيجة.
فمقابلة السيئة بالحسنة تكسر شرة النفوس، وتوجهها إلى الخير وتطفئ جذوة الشر وترد نزغ الشيطان، ومن ثم تدرأ السيئة وتدفعها في النهاية. فعجل النص بهذه النهاية وصدر بها الآية ترغيبا في مقابلة السيئة بالحسنة وطلبا لنتيجتها المرتقبة .. ثم هي إشارة خفية إلى مقابلة السيئة بالحسنة عند ما يكون في هذا درء السيئة ودفعها لا إطماعها واستعلاؤها فأما. حين تحتاج السيئة إلى القمع ويحتاج الشر إلى الدفع فلا مكان لمقابلتها بالحسنة لئلا ينتفش الشر ويتجرأ ويستعلي، ودرء السيئة بالحسنة يكون غالبا في المعاملة الشخصية بين المتماثلين فأما في دين الله فلا .. إن المستعلي الغاشم لا يجدي معه إلا الدفع الصارم، والمفسدين في الأرض لا يجدي معهم إلا الأخذ الحاسم، والتوجيهات القرآنية متروكة لتدبر المواقف واستثارة الألباب والتصرف بما يرجح أنه الخير والصواب) وبعد فهذه مجموعة صفات ذكرها الله عز وجل، فمن استجمع هذا الصفات والخصائص فهو الجدير بالحق، البصير به، المهتدي بهداية الله، المستحق لما أعده الله لأهل الحق أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ أي عاقبة الدنيا وهي الجنة؛ لأنها التي أرادها الله أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها
جَنَّاتُ عَدْنٍ أي جنات إقامة يخلدون فيها يَدْخُلُونَها