الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير:
يبدأ المقطع بالنهي عن الشك في ضلال من يعبدون غير الله فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ أي في شك مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ أي كل مشرك فعبادتهم باطلة وجهل وضلال ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ أي ليس لهم مستند فيما هم فيه إلا اتباع الآباء في الجهالات وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ أي حظهم من العذاب، كما وفينا آباءهم أنصباءهم غَيْرَ مَنْقُوصٍ أي كاملا. والمعنى: لا تشك بعد ما أنزل عليك من هذه القصص في سوء عاقبة عبادة هؤلاء كما أصاب أمثالهم قبلهم، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ووعيد للكافرين بالانتقام منهم، وهكذا علمتنا الآية أن نجزم بضلال الكافرين وأن نجزم بسوء عاقبتهم، وإذ مر معنا من قبل ما نفهم منه سنة الله عز وجل في استئصال أهل الشرك. وإذ جاء النهي بعد ذلك عن الشك في ضلالهم والوعد بعقابهم، فقد آن الأوان لنعرف سنته تعالى فيمن استجابوا لدعوة الله إذا انحرفوا
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة فَاخْتُلِفَ فِيهِ اختلف في فهمه اجتهادا في محله، واختلف في التأويل ظلما وبغيا، وحدث التفرق والخلاف وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ أن لا يعاجل المستجيبين لدعوته بالعذاب المستأصل مع كثرة الذنب والخطأ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالعذاب المستأصل لأهل الباطل، ولكن سنته في هؤلاء ليست كذلك وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أي من العذاب، أو من التوراة فلا تأويل باطل «أي وراءه شك بالكتاب، أو مما هم فيه من الاختلاف أن يكونوا على خطأ فلا طمأنينة قلب مع الباطل والضلال مُرِيبٍ أي بالغ في الريبة
وَإِنَّ كُلًّا من المحسنين والمسيئين أي من المختلفين لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ أي إلا ليجزينهم ربك بعملهم إن خيرا فخير. وإن شرا فشر، أي إلا ليوفينهم ربك جزاء أعمالهم من إيمان وجحود وحسن وقبيح إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي عليم بأعمالهم جميعها، جليلها وحقيرها، صغيرها وكبيرها.
وهكذا علمتنا الآيات الأولى في هذا المقطع أن نجزم بضلال من يعبد غير الله، وأن نجزم بسوء عاقبته، كما علمتنا أن من كان من أهل الكتاب ففيه سنة ماضية ألا يستأصله
الله بعذاب، ولكنه سيحاسبه على عمله، ومن خلال العرض نفهم أن علينا أن لا نختلف في كتابنا، وأن نتمسك بما فيه، وأن نخضع للحق الذي أنزله، فلا نتأول ولا نزل فنكون كاليهود.
وإذ استقرت هذه المعاني تأتي الآن مجموعة أوامر ونواه:
1 -
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أي فاستقم استقامة مثل الاستقامة التي أمرت بها غير عادل عنها وَمَنْ تابَ مَعَكَ أي وليستقم من تاب معك بأن رجع إلى الله مخلصا.
2 -
وَلا تَطْغَوْا أي ولا تخرجوا عن حدود الله إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لا يغفل عن شئ، ولا يخفى عليه شئ، فهو مجازيكم فقفوا عند حدوده.
3 -
وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي لا تميلوا إليهم، ولا ترضوا حالهم، ولا تتعاونوا معهم على إثم، ولا تلتحقوا بهم فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ بسبب هذا الركون وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يقدرون على منعكم من عذابه ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ أفادت (ثم) هنا استبعاد النصرة أبدا، فالنصرة من الله مستبعدة حال الركون، أي ثم لا ينصركم هو لأنه حكم بتعذيبكم بسبب الركون.
4 -
وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ أي: غدوة وعشية، دخل في الطرف الأول الفجر، والطرف الثاني الظهر والعصر، لأن ما بعد الزوال عشي وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ أي وساعات من الليل، والزلف: جمع زلفة وهي ساعاته القريبة من آخر النهار، دخل في ذلك المغرب والعشاء إِنَّ الْحَسَناتِ مطلقا يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ مطلقا وأعظم الحسنات التي تذهب الذنوب الصلوات الخمس، وفي الحديث «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» ذلِكَ إشارة إلى هذه الأوامر ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ أي عظة للمتعظين وفي قوله (للذاكرين) تصريح بأن الذي يتذكر هو من تحقق بصفة الذكر، فكان ذاكرا.
وَاصْبِرْ ختم هذه الأوامر والنواهي بالصبر لأنه لا يتم شئ من هذه الأوامر والنواهي إلا بالصبر، فلا الاستقامة، ولا الوقوف عند الحدود، ولا عدم الركون للظالمين، ولا إقامة الصلوات تكون إلا بالصبر. والمعنى: اصبر على امتثال ما أمرت به والانتهاء عما نهيت عنه، ثم بشر المطيعين والصابرين وسماهم محسنين فقال: فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ بل يثيبهم ويزيدهم، وفي هذا إشارة إلى أن المحسنين هم من اجتمع لهم تنفيذ هذه الأوامر والنواهي.
وبعد هذه المجموعة من الأوامر والنواهي:
يأتي الآن حض وتوجيه نحو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان حكمة الاختلاف وغير ذلك مما سنرى.
فَلَوْلا أي فهلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ أي أولو فضل، يقال: فلان من بقية القوم أي من خيارهم، ومنه قولهم: في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ بالنهي عن الكفر والمعاصي إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ أي ولكن قليلا ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد، وسائرهم تاركون للنهي، والنجاة للناهين وحدهم وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي الكافرون والساكتون ما أُتْرِفُوا فِيهِ أي شهواتهم، والمعنى: اتبعوا ما عرفوا فيه التنعم والترفه، من حب الرئاسة والثروة، وطلب أسباب العيش الهنئ، ورفضوا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونبذوه وراء ظهورهم وَكانُوا مُجْرِمِينَ هذا هو وصفهم الذي يستحقونه الإجرام، وهكذا عجب الله- عز وجل ألا يوجد في القرون الماضية، بقايا من أهل الخير، ينهون عما كان يقع بينهم من الشرور والمنكرات، والفساد في الأرض إلا قليلا، هم الذين أنجاهم الله- عز وجل عند حلول غضبه، وفجأة نقمته،
ثم بين الله عز وجل سنته في الإهلاك، فأخبر أنه لم يهلك قرية إلا وهي ظالمة لنفسها، ولم يأت قرية مصلحة بأسه وعذابه قط فقال: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ ولم يقل صالحين وإنما قال: مصلحون نزه ذاته تعالى عن الظلم، وجعل من الظلم أن يهلك قرية وأهلها مصلحون، ومن تتبع ما حل بالبلاد والقرى خلال العصور من عذاب فإنه يجد العذاب مرافقا للفساد،
ثم بين حكمة الاختلاف وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً أي متفقين على الطاعات والإيمان عن اختيار، ولكن لم يشأ ذلك وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ أي في الكفر وفي الإيمان، ولكن شاء اختلافهم لعلمه بما سيختارونه
إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ أي إلا المرحومين فهؤلاء متفقون على الحق، فهؤلاء عصمهم الله عن الاختلاف، فاتفقوا على دين الحق غير مختلفين فيه وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ قال مالك: فريق في الجنة وفريق في السعير، أي خلقهم للذي علم أنهم سيصيرون إليه من اختلاف أو اتفاق، ولم يخلقهم لغير الذي علم أنهم سيصيرون إليه وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وهي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (السجدة: 13) أخبر تعالى أنه قد سبق في قضائه وقدره- لعلمه التام وحكمته النافذة- أن ممن خلقه من يستحق الجنة، ومنهم من يستحق النار،
وأنه لا بد أن يملأ جهنم من هذين الثقلين الجن والإنس، وله الحجة البالغة، والحكمة التامة، وهكذا حضت هذه المجموعة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإصلاح والاتفاق على الخير، والاجتماع عليه والفرار من أسباب الهلاك في الدنيا والآخرة.
ثم ختمت السورة بتبيان حكمة ما ورد فيها وبتوجيهات أخيرة.
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ أي وكل أخبار نقصها عليك من أنباء الرسل المتقدمين من قبلك مع أممهم، وكيف جرى لهم من المحاجات والخصومات، وما احتمله الأنبياء من التكذيب والأذى، وكيف نصر الله حزبه المؤمنين، وخذل أعداءه الكافرين، كل هذا مما نثبت به فؤادك أي قلبك يا محمد؛ ليكون لك بمن مضى من أخوانك من المرسلين أسوة، ومعنى تثبيت فؤاده: زيادة يقينه لأن تكاثر الأدلة أثبت للقلب وَجاءَكَ فِي هذِهِ أي السورة الْحَقُّ فليست خيالا بل هي وقائع ثابتة وَمَوْعِظَةٌ يرتدع بها وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي وذكرى يتذكر بها المؤمنون، وبهذا ندرك مظهرا من مظاهر هذا الإعجاز في القرآن، كيف أنه اجتمع فيه الحق والتذكير والوعظ، ونادرا ما تجد هذه الأشياء مجتمعة إلا في كلام الله، أو في كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، أو من كان على قدم رسوله صلى الله عليه وسلم، إن هذا
القرآن- الذي هو كلام الله- قد عرض الحق كله بأسلوب الوعظ والتذكير، وفي ذلك وحده مظهر واضح الدلالة على أنه من عند الله
وَقُلْ يا محمد لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بما جئت به من ربك على وجه التهديد اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي على طريقكم ومنهجكم، وحالكم وجهتكم التي أنتم عليها إِنَّا عامِلُونَ أي على طريقنا ومنهجنا
وَانْتَظِرُوا أي بنا ما تنتظرون من الدوائر إِنَّا مُنْتَظِرُونَ أي أن ينزل بكم من الله ما وعد وأوعد، وقد أنجز الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وعده ونصره وأيده، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا، ومكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم ختمت السورة بقوله وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تخفى عليه خافية، عالم غيب السموات والأرض، وسيؤتي كل عامل عمله يوم الحساب وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فله الخلق والأمر، وإليه المرجع والمآب، فلا بد أن يرجع إليه أمرهم وأمرك، فينتقم لك منهم، وإذا كان الشأن كذلك فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ أي فلتجتمع لك العبادة والتوكل، وقرن العبادة بالتوكل دليل على ارتباطهما ببعضهما فمن لا توكل له لا يستقيم على العبادة. ومن توكل على الله كفاه وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أنت وهم، وسيجزيك ويجزيهم، وسينصرك وحزبك في الدارين.