الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال صاحب الظلال:
وهكذا تختم السورة بما بدئت به بالتوحيد في العبادة، والتوبة والإنابة، والرجعة إلى الله في نهاية المطاف. وذلك بعد طول التطواف في آفاق الكون، وأغوار النفس، وأطواء القرون. وهكذا يلتقي جمال التنسيق في البدء والختام، والتناسق بين القصص والسياق، بكمال التوجيه والاتجاه في هذا القرآن. وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً.
كلمة في السياق:
بدأت سورة هود عليه السلام بتبيان أن الحكمة من إنزال القرآن على ما هو عليه من إحكام وتفصيل: أن يعبد الله وحده، ثم بينت السورة في مقاطعها اللاحقة أن الرسل جميعا بعثوا في ذلك، وأن أقوامهم عوقبوا بسبب من إعراضهم عن ذلك، وبين المقطع الخامس أن سنة الله هذه مستمرة في تعذيب الكافرين في الدنيا والآخرة، وإذ اتضح هذا الأمر فإن المقطع الأخير جاء ليؤكد استحقاق الذين لم يستجيبوا لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم للعذاب، كما يحذرنا أن نكون كبني إسرائيل في اختلافهم في الكتاب، وهاهنا يأتي أمر بالاستقامة وإقام الصلاة، وتأتي دعوة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتختم السورة بالأمر بالعبادة كما كان بدؤها بذلك.
فوائد:
1 -
يلاحظ أن المقطع الأخير في السورة حوى من جملة ما حوى التوجيهات التالية:
أ- الجزم بأن المشركين على ضلال، والجزم بالعقوبة في حقهم.
ب- أن المختلفين من أهل الكتاب يمهلون فلا يستأصلون، وحسابهم آت.
ج- وجوب الاستقامة، والوقوف عند الحدود، وعدم الميل للظالمين، والركون إليهم، وإقامة الصلاة، ووجوب الصبر.
د- وجوب الإصلاح، والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
هـ- الإقبال على الله بالعبادة والتوكل، فإذا كانت هذه المعاني كلها قد جاءت في سياق السورة التي محورها العبادة، عرفنا ارتباط هذه المعاني كلها بموضوع العبادة.
2 -
في قوله تعالى: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ كلام كثير حول «لما» وقد اخترنا أنها هنا بمعنى «إلا» كهي في قوله تعالى: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (الطارق: 4) وقد طال كلام المفسرين حولها لكثرة القراءات فيها، أما هي في قراءة حفص فلا تحتمل غير ما ذكرنا.
3 -
من الأشياء التي يغفل المسلمون عنها كثيرا في عصرنا الموضوع الذي وجهنا إليه قوله تعالى وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ذكر النسفي عن الموفق أنه صلى خلف الإمام، فلما قرأ هذه الآية غشي عليه، فلما أفاق قيل له فقال: هذا فيمن ركن فكيف بالظالم، وأفظع الظلم تعطيل كتاب الله ورفضه، وتجد الكثيرين من المسلمين يركنون إلى من عطل كتاب الله ورفضه، ومن الظلم الاعتداء على عباد الله، وكل أنواع الظلم لا يجوز الركون لأهلها، بل تجب معاداتهم قال النسفي:(ولقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقى شربة ماء؟ فقال: لا. فقيل له يموت. فقال دعه يموت) ومن أعظم البلاء أن نرى أن أفظع أنواع الركون يقوم به بعض من يعتبرون- عند العامة- من علماء المسلمين. قال النسفي: وقال سفيان:
في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك. وعن الأوزاعي: ما من شئ أبغض إلى الله من عالم يزور عاملا، أي أميرا، فقد كانوا يسمون الأمير عاملا. وهذا إذا كان العامل ظالما.
4 -
عن الحسن قال: جعل الله الدين بين لاءين (ولا تطغوا، ولا تركنوا) فانظر هذا الفقه العظيم لدين الله، وانظر كيف يفهم العلماء الربانيون دين الله، وإن أكثر ما يقع فيه الانحراف: الطغيان والركون. فإذا وجد الطاغية ووجد الركون إليه فقد عم البلاء وطم.
5 -
مما يعين على فهم قوله تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ الروايات التالية وقد ذكرها جميعا ابن كثير ننقلها عنه مع حذف الأسانيد، واختيار أجمع الروايات.
أ- روى الإمام أحمد وأهل السنن عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه،
وإذا حدثني عنه أحد استحلفته، فإذا حلف لي صدقته. وحدثني أبو بكر- وصدق أبو بكر- أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«ما من مسلم يذنب ذنبا فيتوضأ ويصلي ركعتين إلا غفر له» .
ب- وفي الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان أنه توضأ لهم كوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: هكذا رأيت رسول الله يتوضأ. وقال: «من توضأ وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه» .
د- وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهرا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقي من درنه شيئا؟» قالوا:
لا يا رسول الله، قال:«كذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الذنوب والخطايا» .
هـ- روى مسلم في صحيحه
…
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن، ما اجتنبت الكبائر» .
و- وروى الإمام أحمد
…
عن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إن كل صلاة تحط ما بين يديها من خطيئة» .
ز- روى ابن جرير
…
عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«جعلت الصلوات كفارات لما بينهن» فإن الله قال: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ.
ح- روى البخاري
…
عن ابن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة؛ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ فقال الرجل: يا رسول الله ألي هذا؟ قال: «لجميع أمتي كلهم» .
ط- روى الإمام أحمد
…
عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إن الله قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من أحب، فمن أعطاه الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده، لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه» قال: قلنا: وما بوائقه يا نبي الله؟ قال: «غشه وظلمه، ولا يكسب عبد مالا حراما فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث» .
ي- روى الإمام أحمد
…
عن أبي عثمان قال: كنت مع سلمان الفارسي تحت شجرة، فأخذ منها غصنا يابسا فهزه حتى تحات ورقه ثم قال: يا أبا عثمان، ألا تسألني لم أفعل هذا؟، قلت: ولم تفعله؟، قال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلى الصلوات الخمس تحاتت خطاياه كما يتحات هذا الورق. وقال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ.
ك- روى الإمام أحمد
…
عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» .
ل- روى الإمام أحمد
…
عن أبي ذر قال: يا رسول الله أوصني، قال:«إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها» قال: قلت: يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله؟ قال: «هي أفضل الحسنات» .
م- روى الحافظ أبو يعلى الموصلي
…
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما قال عبد: لا إله إلا الله في ساعة من ليل أو نهار إلا طلست (1) ما في الصحيفة من السيئات حتى تسكن إلى مثلها من الحسنات» .
ن- روى الحافظ أبو بكر البزار
…
عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله ما تركت من حاجة ولا داجة (2)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟» قال: بلى. قال: «فإن هذا يأتي على ذلك» .
6 -
بمناسبة قوله تعالى: فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ ذكر ابن كثير الحديث: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب» نسأل الله أن يرزقنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن يرزقنا العفو والعافية وحسن الختام.
7 -
بمناسبة قوله تعالى: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ نقول: إن هؤلاء هم الفرقة الناجية كما جاء في الحديث المروي في المسانيد والسنن من طرق يشد بعضها بعضا «إن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن النصارى افترقت على
(1) أي محت.
(2)
الداجة: هي ما كانت أقل شأنا من الحاجة.