الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والإنذار، والوعظ والترغيب والترهيب، وقد عبر عن هذا المعنى عرب الجاهلية بسذاجتهم فطالبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بقرآن ليس فيه ما يغيظهم من ذم عبادة الأوثان، والوعيد لأهل الطغيان، وأن يبدله بأن يجعل مكان آية عذاب آية رحمة، وعبر عن هذا المعنى كثير من الفلاسفة بشكل أو بآخر، فاستبعدوا أن يكون هذا القرآن من عند الله، لأنهم يتصورون أن الله إذا أنزل وحيا فينبغي أن يكون على شاكلة أخرى، كأن لا تظهر فيه صفات الجلال، وهؤلاء في منتهى السفاهة. فقد جعل الله في هذا القرآن من الآيات والمعجزات ما لا يستطيع المنصف إلا أن يسلم بأنه من عند الله وقد جعل الله في شخصية رسوله صلى الله عليه وسلم من الأمور ما لا
يبقى معه شك أن هذا القرآن من عند الله. وبهذا يتبين لنا أن هذه المجموعة سائرة على نفس النسق في تحطيم العجب من أن يرسل الله رسولا.
فوائد:
1 -
الملاحظ من قوله تعالى قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا
…
أن الذين يتعنتون في مواقفهم إنما هم الذين لا يعرفون إلا الحياة الدنيا، وليس عندهم رجاء لليوم الآخر أصلا. فداء الأدواء إذن هذه العلة. ومن ثم كان من واجب الدعاة تحريك همة الإنسان، وتحريك عقله لرجاء اليوم الآخر.
2 -
إن اقتراح الكافرين على الرسول صلى الله عليه وسلم الإتيان بقرآن آخر، أو تبديل هذا القرآن فيه معنى ضمني، وهو أنهم يعتقدون أن هذا القرآن من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قادر على مثله، ولذلك طالبوه بالتغيير والتبديل. وهذا تأكيد لأصل الشبهة التي بدأ فيها هذا المقطع، وهي استبعاد أن ينزل الله وحيا على أحد من خلقه، وجاء الرد حاسما وحازما: قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ. وفي تفسير قوله تعالى أَفَلا تَعْقِلُونَ من الآية الأخيرة يقول الألوسي: أي ألا تلاحظون ذلك فلا تعقلون امتناع صدوره عن مثلي، ووجوب كونه منزلا من عند الله العزيز الحكيم، فإن ذلك غير خاف على من له عقل سليم، وذهن مستقيم، بل لعمري أن من كان له أدنى مسكة من عقل إذا تأمل في أمره صلى الله عليه وسلم، وأنه نشأ فيما بينهم هذا الدهر الطويل، من غير مصاحبة العلماء في شأن من الشئون، ولا مراجعة إليهم في فن من الفنون، ولا مخالطة للبلغاء في
المحاورة والمفاوضة، ولا خوض معهم في إنشاء الخطب والمعارضة، ثم أتى بكتاب بهرت فصاحته كل ذي أدب، وحيرت بلاغته مصاقع العرب، واحتوى على بدائع أصناف العلوم، ودقائق حقائق المنطوق والمفهوم، وغدا كاشفا عن أسرار الغيب التي لا تنالها الظنون، ومعربا عن أقاصيص الأولين وأحاديث الآخرين من القرون، ومصدقا بين يديه من الكتب المنزلة، ومهيمنا عليها في أحكامه المجملة والمفصلة، لا يبقى عنده اشتباه، في أنه وحي منزل من عند الله جل جلاله وعمت أفضاله.
3 -
بمناسبة قوله تعالى فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ذكر ابن كثير أن الرسول الصادق، ومدعي النبوة الكاذب، لا بد أن ينصب الله من الأدلة على بر الصادق، أو فجور الكاذب، ما هو أظهر من الشمس- وقد دلل على فكرته بالكلام عن محمد صلى الله عليه وسلم عليه السلام ومسيلمة الكذاب فقال:(فإن الفرق بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين مسيلمة الكذاب- لمن شاهدهما- أظهر من الفرق بين وقت الضحى، وبين نصف الليل في حندسى الظلماء، فمن سيما كل منهما وأفعاله وكلامه يستدل من له بصيرة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وكذب مسيلمة الكذاب، وسجاح، والأسود والعنسي. قال عبد الله بن سلام: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس (أي اليهود) فكنت فيمن انجفل (أي هرب)، فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه رجل كذاب، قال: فكان أول ما سمعته يقول: «يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام» ولما وفد ضمام ابن ثعلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه بني سعد بن بكر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال له: من رفع هذه السماء؟ قال: «الله» قال: ومن نصب هذه الجبال؟ قال:
«الله» ، وقال ومن سطح هذه الأرض؟ قال:«الله» قال: فبالذي رفع هذه السماء، ونصب هذه الجبال، وسطح هذه الأرض، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ قال:«اللهم نعم» ثم سأله عن الصلاة والزكاة والحج والصيام، ويحلف عند كل واحدة هذه اليمين، ويحلف له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: صدقت، والذي بعثك بالحق لا أزيد على ذلك، ولا أنقص. فاكتفى الرجل بمجرد هذا» وقد أيقن بصدقه- صلوات الله وسلامه عليه- بما رأى وشاهد من الدلائل الدالة عليه. كما قال حسان بن ثابت:
لو لم تكن فيه آيات مبينة
…
كانت بديهته تأتيك بالخبر
وأما مسيلمة فمن شاهده من ذوي البصائر علم أمره لا محالة، بأقواله الركيكة التي
ليست بفصيحة، وأفعاله غير الحسنة بل القبيحة. وقرآنه الذي يخلد به في النار يوم الحسرة والفضيحة. وكم من فرق بين قوله تعالى اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ إلى آخرها، وبين قول مسيلمة- قبحه الله ولعنه-: يا ضفدع بنت ضفدعين، نقي كم تنقين، لا الماء تكدرين، ولا الشارب تمنعين. وقوله- قبحه الله-: لقد أنعم الله على الحبلى، إذا أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفان وحشى. وقوله- خلده الله في نار جهنم وقد فعل-: الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذلقوم طويل. وقولة- أبعده الله من رحمته-:
والعاجنات عجنا، والخابزات خبزا، واللاقحات لقما، إهالة وسمنا، إن قريشا قوم يعتدون
…
إلى غير ذلك من الخرافات والهذيانات التي يأنف الصبيان أن يتلفظوا بها إلا على وجه السخرية والاستهزاء، ولهذا أرغم الله أنفه، وشرب يوم حديقة الموت (1) حتفه، ومزق شمله، ولعنه صحبه وأهله، وقدموا على الصديق تائبين، وجاءوا في دين الله راغبين، فسألهم الصديق خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقرءوا عليه شيئا من قرآن مسيلمة- لعنه الله- فسألوه أن يعفيهم من ذلك، فأبى عليهم إلا أن تقرءوا شيئا منه ليسمعه من لم يسمعه من الناس، فيعرفوا فضل ما هم عليه من الهدى والعلم. فقرءوا عليه من هذا الذي ذكرناه وأشباهه، فلما فرغوا، قال لهم الصديق رضي الله عنه: ويحكم؟ أين كان يذهب بعقولكم؟ والله إن هذا لم يخرج من إل (2). وذكروا أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة- وكان صديقا له في الجاهلية. وكان عمرو بن العاص لم يسلم بعد، فقال له مسيلمة: ويحك يا عمرو ماذا أنزل على صاحبكم؟ - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المدة فقال: لقد سمعت أصحابه يقرءون سورة عظيمة قصيرة، فقال: وما هي؟ فقال: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ .... إلى آخر السورة ففكر مسيلمة ساعة ثم قال: وأنا قد أنزل علي مثله، فقال: وما هو؟ فقال: يا وبر (3)، إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حفر نقر، كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: الله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب. فإذا كان هذا من مشرك في حال شركة لم يشتبه عليه حال محمد صلى الله عليه وسلم وصدقه، وحال مسيلمة لعنه الله وكذبه، فكيف بأولي البصائر والنهى، وأصحاب العقول السليمة المستقيمة
والحجى) اهـ
فإذا ثبت أن عجب الكافرين من أن ينزل الله وحيا، ويرسل رسولا في غير محله، يمضي السياق الآن في المجموعة الثالثة ليعجب من مواقف هؤلاء الكافرين وأقوالهم،
(1) حديقة الموت: اسم البستان الذي قتل فيه في حرب اليمامة.
(2)
أي من ربوبية أي غير صادر عن الله عز وجل
(3)
الوبر: دويبة صغيرة.
وكلها سفه، وكلها في غير محلها؛ وكلها لا حجة فيها، فعجبهم في غير محله، وطلبهم تغيير القرآن أو تعديله في غير محله، وكذلك كثير من شئونهم، ومن ذلك:
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ إن لم يعبدوه وَلا يَنْفَعُهُمْ إن عبدوه.
أليس هذا هو العجب يرفضون أن يعبدوا الله، ويعبدون خلقه، يرفضون أن يعبدوا من ينفع ومن يضر، ويعبدون ما لا ينفع ولا يضر. وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ هذا منطق المشركين وفلسفتهم في الشرك، فهم مثبتون لوجود الله الذي لا ينكره عاقل أصلا، ولكنهم يشركون بعبادته، وهو الحقيق بالعبادة وحده، ويفلسفون ما هم عليه، وهذه هي فلسفة كل مشرك، سواء أشرك بالله صنما أو بشرا أو غير ذلك، حتى الذين يشركون عيسى أو نبيا آخر أو وليا هذه فلسفتهم، ويأتي الجواب قُلْ لهم أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ أي أتخبرونه بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إذ لو كان له شريك لعلمه. قال ابن جرير معناه: أتخبرون الله بما لا يكون في السموات ولا في الأرض، وقال النسفي تفسيرا للآية: أتخبرونه بكونهم شفعاء عنده وهو إنباء بما ليس بمعلوم لله، وإذا لم يكن معلوما له- وهو عالم بجميع المعلومات- لم يكن شيئا. وقوله:
في السموات ولا في الأرض تأكيد لنفيه، لأن ما لم يوجد فيهما معدوم. ثم نزه نفسه الكريمة عن شركهم وكفرهم فقال: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن الشركاء الذين يشركونهم به، أو عن إشراكهم، وهكذا حطم فلسفتهم التي- من أجلها ومن أجل الدفاع عنها- حاربوا الوحي، وحاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاربوا القرآن،
ثم أخبر تعالى أن هذا الشرك حادث في الناس بعد أن لم يكن، وأن الناس كلهم كانوا على دين واحد هو الإسلام. قال ابن عباس:(كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام) ثم وقع الاختلاف بين الناس، وعبدت الأصنام والأنداد والأوثان، فبعث الله الرسل بآياته وبيناته وحججه البالغة، وبراهينه الدامغة وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً أي حنفاء متفقين على ملة واحدة من غير أن يختلفوا، وذلك إما في عهد آدم- والقرون العشرة بعده- أو بعد الطوفان حين لم يبق على الأرض من الكافرين ديار- على أحد القولين- فَاخْتَلَفُوا أي فصاروا مللا، منهم أهل الحق، ومنهم أهل الباطل وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وهي تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ عاجلا فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي فيما اختلفوا فيه ولميز المحق من المبطل. قال ابن كثير: أي لولا ما تقدم من الله تعالى أنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه، وأنه قد أجل الخلق إلى أجل معدود، لقضي بينهم فيما