الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
آصرته العقيدة المتميزة وعنوانه القيادة الإسلامية .. لا بد أن يميزوا أنفسهم من المجتمع الجاهلي وأن يميزوا قيادتهم من قيادة المجتمع الجاهلي أيضا!
إن اندغامهم وتميعهم في المجتمع الجاهلي، وبقاءهم في ظل القيادة الجاهلية يذهب بكل السلطان الذي تحمله عقيدتهم وبكل الأثر الذي يمكن أن تنشئه دعوتهم وبكل الجاذبية التي يمكن أن تكون للدعوة الجديدة
وهذه الحقيقة لم يكن مجالها فقط هو الدعوة النبوية في أوساط المشركين .. إن مجالها هو مجال هذه الدعوة كلما عادت الجاهلية فغلبت على حياة الناس .. وجاهلية القرن العشرين لا تختلف في مقوماتها الأصلية، وفي ملامحها المميزة عن كل جاهلية أخرى واجهتها الدعوة الإسلامية على مدار التاريخ.
والذين يظنون أنهم يصلون إلى شئ، عن طريق التميع في المجتمع الجاهلي والأوضاع الجاهلية والتدسس الناعم من خلال تلك المجتمعات ومن خلال هذه الأوضاع بالدعوة إلى الإسلام .. هؤلاء لا يدركون طبيعة هذه العقيدة ولا كيف ينبغي أن تطرق القلوب! ..
إن أصحاب المذاهب الإلحادية أنفسهم يكشفون عن عنوانهم وواجهتهم ووجهتهم أفلا يعلن أصحاب الدعوة إلى الإسلام عن عنوانهم الخاص؟ وطريقهم الخاص؟
وسبيلهم التي تفترق تماما عن سبيل الجاهلية؟) اهـ
ولنعد إلى السياق:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا لا ملائكة نُوحِي إِلَيْهِمْ فلست بدعا من الرسل حتى يستغرب الناس بعثتك مِنْ أَهْلِ الْقُرى أي المدن لأنهم أحلم وأرق طباعا وألطف، وأكثر ألفة وتألفا لكثرة العشرة والخلطة، فإرسالك إذن على نفس السنة أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من الأمم المكذبة للرسل كيف دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها، فمن نظر اعتبر وآمن. فالله عز وجل يلفت نظر هؤلاء إلى مجموعة سنن له من تأملها آمن، وانتفى ريبه وشكه برسالة رسول الله وبالكتاب المنزل عليه، وفي الوقت نفسه فمن نظر وتدبر عاقبة الماضين في نجاة المؤمنين وإهلاك الكافرين اتعظ وآمن وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا الله، بفعل طاعته واجتناب معصيته أَفَلا تَعْقِلُونَ عن الله آياته وسننه،
ثم بين الله سنته في نصرة رسله أنها لا تأتي بسرعة، وفي قصة يوسف عليه السلام نموذج حَتَّى إِذَا
اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ أي يئسوا من إيمان القوم وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا أي وظن أقوامهم أن الرسل قد أخلفوا ما وعدوه، أو وظن المرسل إليهم أنهم كذبوا من جهة الرسل، أي كذبتهم الرسل في أنهم ينصرون عليهم ولم يصدقوهم فيه، وهناك قراءة بتشديد الذال، ومعناها على هذا: وأيقن الرسل أن قومهم كذبوهم جاءَهُمْ نَصْرُنا أي جاء الأنبياء والمؤمنين بهم النصر فجأة من غير احتساب فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ أي النبي ومن آمن به وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا أي عذابنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ أي الكافرين
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ أي لقد كان في خبر المرسلين مع قومهم وكيف جعلنا العاقبة لهم كما رأيت نموذج ذلك في قصة يوسف عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ أي عظة لأصحاب العقول، وقد رأينا في قصة يوسف كيف نقل من غيابة الجب إلى نهاية الحب، ومن الحصير إلى السرير. فصارت عاقبة الصبر سلامة وكرامة، ونهاية المكر وخامة وندامة ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى أي ما كان القرآن حديثا مفترى كما زعم الكفار، ولا يتصور أن بالإمكان أن يفترى هذا القرآن على الله إلا مجنون وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي من الكتب المنزلة من السماء فهو يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير، وقد رأينا في قصة يوسف نموذجا، وكتاب هذا شأنه منزل على الرسول الأمي ما كان ليكون إلا من عند الله وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ من تحليل وتحريم، ومحبوب ومكروه، وغير ذلك من الأمر بالطاعات والواجبات والمستحبات، والنهي عن المحرمات وما شاكلها من المكروهات، والإخبار عن الأمور الجليلة، وعن الغيوب المستقبلة المجملة والتفصيلية، والإخبار عن الرب تبارك وتعالى بالأسماء والصفات، وتنزهه عن مماثلة المخلوقات، وبالجملة فإن القرآن تفصيل لكل شئ يحتاج إليه في الدين لأنه كما قال النسفي: القانون الذي تستند إليه السنة والإجماع والقياس، ومن هذه الآية ومن قوله تعالى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ فهم العلماء أنه ما من قضية إلا ولله فيها حكم، عرفه من عرفه، وجهله من جهله، وكتاب هذا شأنه لا يمكن أن يكون إلا من عند الله وَهُدىً من الضلال وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بالله وأنبيائه في الدنيا والآخرة.
وكتاب هذا شأنه فيه الهدى في كل أمر، وفيه الرحمة في شأن الدنيا والآخرة، في شأن الجسد والقلب، في شأن الروح والعقل، في شأن الفرد والمجتمع، كتاب هذا شأنه لا يمكن أن يكون إلا من عند الله، وهكذا حطمت سورة يوسف الريب في سياقها العام،
وأعطت في كل آية من آياتها دروسا لا تنتهي، ومن دروسها العامة ما قاله النسفي:
قال أبو منصور رحمه الله: في ذكر قصة يوسف عليه السلام وإخوته تصبير لرسول لله صلى الله عليه وسلم على أذى قريش كأنه يقول: إن إخوة يوسف مع موافقتهم إياه في الدين ومع الأخوة عملوا بيوسف ما عملوا من الكيد والمكر، وصبر على ذلك، فأنت مع مخالفتهم إياك في الدين أحرى أن تصبر على أذاهم، ومن دروسها: أن على
أهل الإيمان أن يثقوا بحسن العاقبة.
وبمناسبة قوله تعالى حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ
…
قال صاحب الظلال:
تلك سنة الله في الدعوات لا بد من الشدائد ولا بد من الكروب حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة. ثم يجئ النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس. يجئ النصر من عند الله فينجو الذين يستحقون النجاة ينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين، وينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون ويحل بأس الله بالمجرمين، مدمرا ماحقا لا يقفون له ولا يصده عنهم ولي ولا نصير.
ذلك كيلا يكون النصر رخيصا فتكون الدعوات هزلا. فلو كان النصر رخيصا لقام في كل يوم دعي بدعوة لا تكلفه شيئا أو تكلفه القليل. ودعوات الحق لا يجوز أن تكون عبثا ولا لعبا فإنما هي قواعد للحياة البشرية ومناهج ينبغي صيانتها وحراستها من الأدعياء. والأدعياء لا يحتملون تكاليف الدعوة لذلك يشفقون أن يدعوها فإذا ادعوها عجزوا عن حملها وطروحها وتبين الحق من الباطل على محك الشدائد التي لا يصمد لها إلا الواثقون الصادقون الذين لا يتخلون عن دعوة الله ولو ظنوا أن النصر لا يجيئهم في هذه الحياة!
إن الدعوة إلى الله ليست تجارة قصيرة الأجل إما أن تربح ربحا معينا محدودا في هذه الأرض وإما أن يتخلى عنها أصحابها إلى تجارة أخرى أقرب ربحا وأيسر حصيلة، والذي ينهض بالدعوة إلى الله في المجتمعات الجاهلية- والمجتمعات الجاهلية هي التي تدين لغير الله بالطاعة والاتباع في أي زمان أو مكان- يجب أن يوطن نفسه على أنه لا يقوم برحلة مريحة ولا يقوم بتجارة مادية قريبة الأجل، إنما ينبغي له أن يستيقن أنه يواجه طواغيت يملكون القوة والمال، ويملكون استخفاف الجماهير حتى ترى الأسود أبيض والأبيض أسود، ويملكون تأليب هذه الجماهير ذاتها على الدعوة إلى الله، باستثارة شهواتها وتهديدها بأن أصحاب الدعوة إلى الله يريدون حرمانها من هذه الشهوات! .. ويجب أن