الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
انقضاء آجالهم، فإذ كان الأمر كذلك فليسارع إلى الإيمان من يريد النجاة،
ثم لفت الله النظر إلى الحكمة الكلية في وجود كفر وإيمان. وأن هذا إنما هو بمشيئته فقال: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ يا محمد لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً فيما جئتهم به ولكن له حكمة فيما يفعله، ومن حكمته أنه لم يشأ، وترك المسألة لاختيار الإنسان أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ بأن تلزمهم وتلجئهم حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي ليس ذلك عليك ولا إليك، فلا إكراه في الدين، وخلق الهداية لله، وقد جرت سنة الله أن لا يهدي الفاسقين والظالمين والمتكبرين والمتجبرين
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بإرادته وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ أي الخبال والضلال عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ حجج الله وأدلته، فهو العادل في هداية من يهديه وإضلال من يضله، وهكذا بينت هذه الآيات بعض حكم الإضلال، وهي عدم العقل عن الله من المخاطبين، وشكهم بالحق الواضح، وتكذيبهم للآيات البينة.
وأنذرت أن يصيب المكذبين عذابه الذي إذا جاء لا يرد ولا ينفع معه إيمان، وبينت أن الاستثناء الوحيد إنما كان لقرية يونس ليعرف أن مشيئة الله مطلقة، وقد بينت الآيات في أكثر من مقام طلاقة المشيئة الإلهية. ليقبل الإنسان على الله بقلب مخبت خائف وجل راغب راهب.
فوائد:
1 -
قال الألوسي في قصة قوم يونس: (وكان من قصة هؤلاء القوم على ما روي عن غير واحد أن يونس عليه السلام بعث إلى أهل نينوى من أرض الموصل، وكانوا أهل كفر وشرك، فدعاهم إلى الإيمان بالله تعالى وحده، وترك ما يعبدون من الأصنام، فأبوا عليه وكذبوه، فأخبرهم أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث. فلما كانت الليلة الثالثة ذهب عنهم من جوف الليل، فلما أصبحوا تغشاهم العذاب، فكان فوق رءوسهم ليس بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل، وجاء أنه غامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخانا شديدا، فهبط حتى غشى مدينتهم، واسودت أسطحتهم، فلما أيقنوا بالهلاك طلبوا نبيهم فلم يجدوه، فخرجوا إلى الصحراء بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم، ولبسوا المسوح وأظهروا الإيمان والتوبة، وفرقوا بين الوالدة وولدها من الناس والدواب، فحن البعض إلى البعض، وعلت الأصوات، وعجوا جميعا، وتضرعوا إليه تعالى، وأخلصوا النية؛ فرحمهم ربهم، واستجاب دعاءهم، وكشف عنهم ما نزل بهم من العذاب،
وكان ذلك يوم عاشوراء، وكان يوم الجمعة.
قال ابن مسعود: إنه بلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم فيما بينهم، حتى إن كان الرجل ليأتي إلى الحجر قد وضع أساس بنيانه عليه فيقلعه ويرده إلى صاحبه، وجاء في رواية عن قتادة أنهم عجوا إلى الله تعالى أربعين صباحا، حتى كشف ما نزل بهم، وأخرج أحمد في الزهد. وابن جرير. وغيرهما عن ابن غيلان قال: لما غشى قوم يونس العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا: ما ترى؟ قال: قولوا: يا حي حين لا حي، ويا حي محيي الموتى، ويا حي لا إله إلا أنت، فقالوها فكشف عنهم العذاب. وقال الفضيل بن عياض: قالوا: اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت، وأنت أعظم وأجل، فافعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله. وكان يونس عليه السلام إذ ذهب عنهم قعد في الطريق يسأل الخبر- كما جاء مرفوعا- فمر به رجل فقال له: ما فعل قوم يونس؟
فحدثه بما صنعوا فقال: لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم، وانطلق مغاضبا حسبما قصة الله في غير هذا الموضع كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وظاهر الآية يستدعي أن القوم شاهدوا العذاب لمكان (كشفنا) وهو الذي يقتضيه أكثر الأخبار، وإليه ذهب كثير من المفسرين، ونفع الإيمان لهم بعد المشاهدة من خصوصياتهم؛ فإن إيمان الكفار بعد مشاهدة ما أعدوا به إيمان يأس غير نافع، لارتفاع التكليف حينئذ، وعادة الله إهلاكهم من غير إمهال كما أهلك فرعون).
2 -
قال ابن كثير بمناسبة قوله تعالى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ ..
«والغرض أنه لم توجد قرية آمنت بكمالها بنبيهم ممن سلف من القرى إلا قوم يونس، وهم أهل نينوى، وما كان إيمانهم إلا تخوفا من وصول العذاب الذي أنذرهم به رسولهم بعد ما عاينوا أسبابه، وخرج رسولهم من بين أظهرهم، فعند ما جأروا إلى الله، واستغاثوا به، وتضرعوا له، واستكانوا، وأحضروا أطفالهم ودوابهم ومواشيهم، وسألوا الله تعالى أن يرفع عنهم العذاب الذي أنذرهم به نبيهم. فعندها رحمهم الله، وكشف عنهم العذاب، وأخروا كما قال تعالى: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ واختلف المفسرون هل كشف عنهم العذاب الأخروي مع الدنيوي أو إنما كشف عنهم في الدنيا فقط؟ على قولين:
(أحدهما): إنما كان ذلك في الحياة الدنيا كما هو مقيد في هذه الآية. (والثاني):
فيهما لقوله تعالى: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ* فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ فأطلق عليهم الإيمان والإيمان منقذ من العذاب الأخروي وهذا هو الظاهر، والله أعلم.
وقال قتادة في تفسير هذه الآية: لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب فتركت إلا قوم يونس، لما فقدوا نبيهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم قذف الله في قلوبهم التوبة، ولبسوا المسوح وفرقوا بين كل بهيمة وولدها، ثم عجوا إلى الله أربعين ليلة، فلما عرف الله منهم الصدق من قلوبهم، والتوبة والندامة على ما مضى منهم، كشف عنهم العذاب بعد أن تدلى عليهم، قال قتادة: وذكر أن قوم يونس بنينوى أرض الموصل. وكذا روي عن ابن مسعود ومجاهد وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف، وكان ابن مسعود يقرؤها (فهلا كانت قرية آمنت) وقال أبو عمران عن أبي الجلد قال:
لما نزل بهم العذاب جعل يدور على رءوسهم كقطع الليل المظلم، فمشوا إلى رجل من علمائهم فقالوا: علمنا دعاء ندعو به لعل الله يكشف عنا العذاب فقال قولوا: (يا حي حين لا حي، يا حي محيي الموتى، يا حي لا إله إلا أنت) قال: فكشف عنهم العذاب وتمام القصة سيأتي مفصلا في سورة الصافات إن شاء الله) اهـ. كلام ابن كثير.
3 -
كثيرون يشكل عليهم موضوع التوفيق بين عموم المشيئة الإلهية، واختيار الإنسان، وما ذلك إلا للجهل بالله تعالى، فالله تعالى محيط علما بكل شئ، وقد علم ما سيفعله كل إنسان، فأراد ذلك عدلا، وأبرز ذلك بقدرته، فالعلم كاشف لا مجبر، والإنسان مخير، ومن اختار الهدى وأخذ بأسبابه وفقه الله إليه، ومن اختار الضلال ورفض أسباب الهداية يسره الله فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى *. (سورة الليل 5 - 10) ولنعد إلى السياق.
بعد أن هدم الله فيما مر من هذا المقطع معقلا من معاقل الشك، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الظواهر والآيات الدالة على أسماء الله وصفاته، وما أكثرها وما أغزرها، وقد سجلنا طرفا منها في كتابنا (الله جل جلاله وَما تُغْنِي الْآياتُ جمع آية وَالنُّذُرُ جمع نذير عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ
دل هذا على أن في السموات والأرض آيات كثيرة ونذرا كثرا، ومن النذر الرسل، ولكن الكفرة لا يستفيدون من ذلك شيئا. والمعنى: وأي
شئ تغني الآيات السماوية والأرضية، والرسل بآياتها وحججها وبراهينها، الدالة على صدقها عن قوم لا يؤمنون؟ لقد عميت قلوبهم، وصمت آذانهم، فلم يعودوا يرون الحق، ولم يعودوا يسمعونه، فإذ كان أمر هؤلاء كذلك فماذا بقي إلا انتظار العذاب
فَهَلْ أي فما يَنْتَظِرُونَ أي بتكذيبك إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم أي: مثل وقائعهم من العذاب، وعندئذ يؤمنون، ولات حين مناص قُلْ فَانْتَظِرُوا ذلك إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ولكن شتان بين الانتظارين، لاختلاف سنة الله في الفريقين
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا أي ونهلك المكذبين بالرسل كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ حقا أوجبه الله على نفسه الكريمة أن ينجي الرسول ومن يؤمن معه إذا جاء العذاب المكذبين به، وهكذا هدمت هذه الآيات معقلا آخر من معاقل الشك، إذ بينت أن النظر في السموات والأرض يوصل إلى الإيمان، فمن نظر في التاريخ، وتقلبات الأيام، وحياة الرسل، وحياة أهل الإيمان، وعاقبة أهل الإيمان والكفر، فإنه سيجد في ذلك كله ما يدفعه إلى الإيمان، إلا إذا كان ممن عمي قلبه، وعندئذ فلينتظر مصيره المظلم .. وبهذا ينتهي القسم الثاني في سورة يونس، وقد استقر بالقسمين الأول والثاني أن هذا القرآن لا ريب فيه، وأن على الخلق أن يهتدوا به، وخلال ذلك ذكرت العوامل الحقيقية التي تحول بين الناس وبين الإيمان والاتباع، وإذ استقرت هذه المعاني كلها فإن القسم الثالث- وهو خاتمة السورة- يأتي ليخاطب الناس كل الناس خطابين أخيرين.