الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سببا إلى دعائهما إلى التوحيد والإسلام، لما رأى في سجيتهما من قبول الخير، والإقبال عليه. والإنصات إليه،
ولما فرغ من دعوتهما شرع في تعبير رؤياهما من غير تكرار سؤال فقال: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وهو الذي رأى أنه يعصر خمرا، ولكنه لم يعينه لئلا يحزن ذاك، ولهذا أبهمه وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ وهو في نفس الأمر الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا، ثم أعلمهما أن هذا قد فرغ منه، وهو واقع لا محالة قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ أي قطع وتم ما تستفتيان فيه من أمركما وشأنكما
وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا الظان هو يوسف عليه السلام، فإن كان تأويله بطريق الاجتهاد فالظن على حقيقته، وإن كان بطريق الوحي فالظن بمعنى اليقين، وكان كلامه للناجي في ظنه، وهو الساقي، ويبدو أنه قال ذلك خفية عن الآخر لئلا يشعره أنه هو المطلوب اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ أي اذكر قصتي عند ربك، وهو الملك، وصفني
بصفتي، وقص عليه قصتي لعله يرحمني ويخلصني مما أنا فيه فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ أي فنسي ذلك الموصى أن يذكر مولاه الملك بذلك، وكان ذلك النسيان من جملة مكايدة الشيطان لئلا يخرج نبي الله من السجن فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ أي مكث في السجن بضع سنين، والبضع ما بين الثلاث إلى التسع. وأكثر المفسرين على أن مدة مكثه سبع سنين. وبهذا ينتهي المشهد.
فوائد:
1 -
هذا المشهد الذي مر معنا موجود في التوراة الحالية في الإصحاح الأربعين من سفر التكوين. ولكن شتان بين العرضين وليس لنا ما نأخذه من هذا الإصحاح إلا أن هناك قضية خلافية بين المفسرين حول قوله تعالى: فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ.
هل الضمير يعود على يوسف أو على الساقي والراجح عن مفسرينا أن الضمير يعود على الساقي، والتوراة الحالية ترجح هذا الاتجاه إذ تقول:(ولكن لم يذكر رئيس السقاة يوسف بل نسيه) كما أن في هذا الإصحاح كلام يوسف للساقي (وتذكرني لفرعون وتخرجني من هذا البيت لأني قد سرقت من أرض العبرانيين وهنا أيضا لم أفعل شيئا حتى وضعوني في السجن) وليس في الإصحاح دعوة يوسف للساقي وزميله، وليس في الإصحاح ذكر للسبب الذي به سجنا سوى أنهما أذنبا. وبعض المفسرين المسلمين يذكر أن سبب سجنهما توهم فرعون أنهما تمالآ على سمه في طعامه وشرابه، وفي الإصحاح مزيد تفصيل حول الرؤيا وتعبيرها، وفيه تصريح بأن يوسف واجه كلا من
الاثنين بتعبير رؤياه صراحة، وبهذه المناسبة نقول: إن من يتأمل هذا المشهد ويقارنه بما ورد في هذا الشأن في سفر التكوين يجد في هذا المشهد وحده معجزة، فإصحاح سفر التكوين لا تكاد تجد فيه أي مظهر من مظاهر النبوة وهديها وكلامها ودعوتها، بينما تجد القرآن يذكر لك الموضوع كأنك تراه بكل حيثياته الهادية، وبكل ما يدل على شخصية يوسف كما هي في نبوتها وما يليق بهذه النبوة من هدى. وللمقارنة ننقل الإصحاح كله. الإصحاح الأربعين: (وحدث بعد هذه الأمور أن ساقي ملك مصر والخباز أذنبا إلى سيدهما ملك مصر، فسخط فرعون على خصييه رئيس السقاة ورئيس الخبازين، فوضعهما في حبس بيت رئيس الشرط في بيت السجن المكان الذي كان يوسف محبوسا فيه. فأقام رئيس الشرط يوسف عندهما فخدمهما، وكانا أياما في الحبس. وحلما كلاهما حلما في ليلة واحدة كل واحد حلمه كل واحد بحسب تعبير حلمه. ساقي ملك مصر وخبازه المحبوسان في بيت السجن. فدخل يوسف إليهما في الصباح ونظرهما وإذا هما مغتمان. فسأل خصيي فرعون اللذين معه في حبس بيت سيده قائلا لماذا وجهاكما مكمدان اليوم: فقالا له حلمنا حلما وليس من يعبره. فقال لهما يوسف أليست لله التعابير. قصا علي. فقص رئيس السقاة حلمه على يوسف وقال له كنت في حلمي وإذا كرمة أمامي. وفي الكرمة ثلاثة قضبان وهي إذا أفرخت طلع زهرها وأنضجت عناقيدها عنبا. وكانت كأس فرعون في يدي، فأخذت العنب، وعصرته في كأس فرعون وأعطيت الكأس في يد فرعون. فقال له يوسف هذا تعبيره. الثلاثة القضبان هي ثلاثة أيام. في ثلاثة أيام أيضا يرفع رأسك ويردك إلى مقامك، فتعطي كأس فرعون في يده كالعادة الأولي حين كنت ساقيه. وإنما إذا ذكرتني عندك حينما يصير لك خير تصنعه إلي إحسانا وتذكرني لفرعون وتخرجني من هذا البيت لأني قد سرقت من أرض العبرانيين. وهنا أيضا لم أفعل شيئا حتى وضعوني في السجن.
فلما رأى رئيس الخبازين أنه عبر جيدا قال ليوسف كنت أنا أيضا في حلمي، وإذا ثلاثة سلال حوارى على رأسي. وفي السل الأعلى من جميع طعام فرعون من صنعة الخباز. والطيور تأكله من السل عن رأسي. فأجاب يوسف وقال: هذا تعبيره، الثلاثة السلال هي، ثلاثة أيام. في ثلاثة أيام أيضا يرفع فرعون رأسك عنك ويعلقك على خشبة وتأكل الطيور لحمك عنك.
فحدث في اليوم الثالث يوم ميلاد فرعون أنه صنع وليمة لجميع عبيده ورفع رأس رئيس السقاة ورأس رئيس الخبازين بين عبيده. ورد رئيس السقاة إلى سقيه. فأعطى
الكأس في يد فرعون. وأما رئيس الخبازين فعلقه كما عبر لهما يوسف. ولكن لم يذكر رئيس السقاة يوسف بل نسيه).
2 -
عند ما ذكر الله لنا في سورة الأنعام أسماء ثمانية عشر رسولا ذكر هناك من جملتهم يوسف عليه السلام. ثم بعد ذلك قال الله عز وجل أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ وعلى هذا فيوسف عليه السلام قدوة، وهذا المشهد الذي مر معنا يعطينا إذن القدوة لمن ابتلي بالسجن، ومما نلاحظه في هذا الموضوع أن يوسف عليه السلام كان محسنا في سجنه، وإن إحسانه كان عاما مع أن من حوله كانوا مشركين، وأنه كان لا يترك فرصة تمر إلا ويدعو فيها إلى الله. وقد استنتج بعض المفسرين أن يوسف عليه السلام كان في السجن مشتهرا بالجود والأمانة، وصدق الحديث، وحسن السمت، وكثرة العبادة، ومعرفة التعبير، والإحسان إلى أهل السجن، وعيادة مرضاهم، والقيام بحقوقهم. ونلاحظ أن يوسف عليه السلام لم يستنكف أن يقول لساقي الملك اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ولكنه طلب جميل وبأسلوب عفيف.
3 -
التوراة الحالية تذكر أن سن يوسف عند ما ألقاه إخوته في البئر كان سبعة عشر عاما، وتذكر أنه عند ما خرج من السجن كان سنة ثلاثين سنة. وتذكر أنه بقي سنتان بعد خروج الساقي من السجن. فإذا اعتبرنا رأى أكثر المفسرين أن مدة سجنه كانت سبع سنين تكون المسألة على الشكل التالي: أن المراودة كانت وسنة ثلاث وعشرون، وأن رؤيا الفتيين كانت وسنه ثمانية وعشرون سنة، وعلى هذا فإن رواية التوراة الحالية تفيد أنه بقي في السجن سبع سنين وليس في المسألة نص قاطع.
4 -
هناك اتجاه للمفسرين أن الرؤيين للفتيين كانتا مختلقتين، ورواية التوراة الحالية ترجح الرأي الآخر كما رأينا وهو الرأي الذي يقول: إنهما رؤييان حقيقة وهو ما نرجحه.
5 -
بمناسبة قول يوسف عليه السلام بعد تعبيره الرؤيين قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ يذكر ابن كثير الحديث الشريف الذي رواه الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم «الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت» . وفي مسند أبي يعلى عن أنس مرفوعا «الرؤيا لأول عابر» أي: تقع كما يفسرها أول مفسر. أقول: على شرط أن يكون المعبر يعبر عن علم لا عن جهل.