الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير:
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ أي في قصتهم وحديثهم آياتٌ لِلسَّائِلِينَ أي علامات ودلالات على قدرة الله وحكمته في كل شئ، وعبرة ومواعظ لمن سأل عن قصتهم واستخبر عنها، فإنها خبر عجيب يستحق أن يخبر عنه. وفي ورود هذه القصة في القرآن آيات على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى أن هذا القرآن من عند الله؛ إذ تلاها محمد صلى الله عليه وسلم على الخلق دون أن يسمعها من أحد، ودون أن يتلو كتابا
إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ بنيامين، وهو أخوه الشقيق من أمهما راحيل أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ
عُصْبَةٌ أي جماعة فكيف أحب ذينك الاثنين أكثر من الجماعة والمعنى: أنه يفضلهما في المحبة علينا وهما صغيران لا كفاية فيهما ونحن عشرة رجال كفاة نقوم بمرافقته، فنحن أحق بزيادة المحبة منهما، لفضلنا بالكثرة والمنفعة عليهما إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي في غلط في تدبير أمر الدنيا، إذ لو وصفوه بالضلالة في الدين لكفروا، وخطؤه عندهم أن قدم يوسف وأخاه عليهم وأحبهما أكثر
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ أي أرضا مجهولة بعيدة عن العمران، يقولون: هذا الذي يزاحمكم في محبة أبيكم لكم، أعدموه من وجه أبيكم ليخلو لكم وحدكم. إما بأن تقتلوه أو تلقوه في أرض من الأراضي تستريحون منه وتخلون أنتم بأبيكم. ومعنى يخل لكم وجه أبيكم: أي يقبل عليكم إقبالة واحدة لا يلتفت عنكم إلى غيركم، والمراد سلامة محبته لهم ممن يشاركهم فيها وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد يوسف أي من بعد كفايته بالقتل أو التغريب. أو من بعد قتله أو طرحه قَوْماً صالِحِينَ أي تائبين إلى الله مما جنيتم عليه، أضمروا التوبة قبل الذنب. أو المعنى: أو يصلح حالكم عند أبيكم ومعه
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ أجمله لأنه لا فائدة من تعيينه لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ أي لا تصلوا في عداوته وبغضه إلى قتله، صرفهم الله عن قتله لأن الله تعالى كان يريد منه أمرا لا بد من إمضائه وإتمامه من الإيحاء إليه بالنبوة. ومن التمكين له في مصر وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ أي في مقر البئر، وما غاب منه عن عين الناظر فذلك أقل من القتل لأن القتل عظيم يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ أي بعض الأقوام الذين يسيرون في الطريق إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ به شيئا. أي إن كنتم عازمين على ما تقولون. قال محمد بن إسحاق بن يسار: لقد اجتمعوا على أمر عظيم من قطيعة الرحم، وعقوق الوالد، وقلة الرأفة بالصغير الفرع الذي لا ذنب له وبالكبير الفاني ذي الحق والحرمة والفضل والخطر عند الله، مع حق الوالد على ولده، ليفرقوا بينه وبين أبيه وحبيبه على كبر سنه، ورقة عظمه، مع مكانه من الله، ممن أحبه طفلا صغيرا، وبين ابنه على ضعف قوته وصغر سنه، وحاجته إلى لطف والده وسكونه إليه. يغفر الله لهم وهو أرحم الراحمين، فقد احتملوا أمرا عظيما. رواه ابن أبي حاتم من طريق سلمة بن الفضل عنه.
ولما تواطئوا على أخذه وطرحه في البئر قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ أي لم تخافنا عليه ونحن نريد له الخير ونشفق عليه، وهذه توطئة ودعوى، وهم يريدون خلاف ذلك. دل هذا على أن عادته حفظه منهم، وأنه كان متخوفا عليه منهم، لا كما تزعم الرواية الحالية للتوراة المحرفة أن يعقوب أرسله إليهم
ابتداء، وأن التآمر عليه كان بعد إذ رأوه قادما من عند أبيه، فهذا يتنافى مع الفراسة التي عليها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
أَرْسِلْهُ مَعَنا أي ابعثه معنا غَداً يَرْتَعْ أي يتسع في أكل الفواكه وغيرها وَيَلْعَبْ بما يباح كالصيد والرمي والركض وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من أن يناله مكروه
قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ أي إني ليحزنني ذهابكم به. أي يشق علي مفارقته مدة ذهابكم به إلى أن يرجع. وذلك لفرط محبته له لما يتوسم فيه من الخير العظيم، وشمائل النبوة، ولما كان عليه من الكمال في الخلق والخلق صلوات الله وسلامه عليه وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ أي وأخشى أن تشتغلوا عنه برميكم ورعيكم، فيأتيه ذئب فيأكله وأنتم لا تشعرون، اعتذر إليهم بأن ذهابهم به مما يحزنه، لأنه كان لا يصبر عنه ساعة، وأنه يخاف عليه من عدوة الذئب إذا غفلوا عنه، برعيهم ولعبهم. فأخذوا من فمه هذه الكلمة، وجعلوها عذرهم فيما فعلوه، وقالوا مجيبين له عنها في الساعة الراهنة
قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أي فرقة مجتمعة مقتدرة على الدفع إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ أي إن لم نقدر على حفظ بعضنا فنحن إذا عاجزون عن حماية أي شئ، ومن ذلك مواشينا وغيرها. وقد أجابوا عن عذره الثاني دون الأول، لأن الأول كان يغيظهم
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ أي وعزموا على إلقائه في البئر، وفي قوله تعالى وَأَجْمَعُوا تبشيع لما فعلوه أنهم اتفقوا كلهم على إلقائه في أسفل ذلك الجب، وقد أخذوه من عند أبيه فيما يظهرونه له إكراما وبسطا وشرحا لصدره وإدخالا للسرور عليه وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أي إلى يوسف في ذلك الحال الضيق تطيبا لقلبه وتثبيتا. قال النسفي: أوحى إليه في الصغر، كما أوحى إلى يحيى وعيسى عليهما السلام لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا أي لتحدثن إخوتك بما فعلوه بك وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أنك
يوسف، لعلو شأنك، وكبرياء سلطانك، وفي ذلك إشعار له ألا يحزن مما هو فيه، فإن له من ذلك فرجا ومخرجا حسنا، وسينصرك الله عليهم ويعليك، ويرفع درجتك، وستخبرهم بما فعلوا معك من هذا الصنيع، وهم لا يعرفونك ولا يستشعرون بك. ويحتمل أن يكون المعنى: وأوحينا إليه وهم لا يشعرون. أي آنسناه بالوحي، وأزلنا عن قلبه الوحشة وهم لا يشعرون لتنبئنهم بأمرهم هذا، والأول أقوى وأوجه وأصح. وسياق القصة يشهد له
وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً أي في ظلمة الليل يَبْكُونَ مظهرين الأسف والجزع والتغمم لأبيهم على يوسف. والظلمة أستر للمعتذر الكاذب. وأنسب للمتصنع. قال الأعمش: لا تصدق باكية بعد إخوة
يوسف. وفي كلمة الأعمش تنبيه كريم للمسلم ألا يكون غرا. ثم قالوا معتذرين عما وقع فيما زعموا
قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ أي نتسابق في العدو، أو في الرمي وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا أي ثيابنا وأمتعتنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وهو الذي كان قد جزع منه وحذر منه وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا أي بمصدق وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ أي ولو كنا عندك من أهل الصدق والثقة فإنك لا تصدقنا لشدة محبتك ليوسف، فكيف وأنت سيئ الظن بنا غير واثق بقولنا مع أن واقع الحال أننا صادقون
وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ أي مكذوب مفترى من أجل أن يؤكدوا ما تمالئوا عليه من المكيدة. ولكن ذلك لم يرج على نبي الله يعقوب. بل قال لهم معرضا عن كلامهم إلى ما وقع في نفسه من لبسهم عليه قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ زينت أو سهلت أَمْراً عظيما ارتكبتموه فَصَبْرٌ جَمِيلٌ فأمري صبر جميل، أو فصبر جميل أجمل، أي فسأصبر صبرا جميلا على هذا الأمر الذي اتفقتم عليه حتى يفرجه الله بعونه ولطفه، والصبر الجميل: هو ما لا شكوى فيه إلى الخلق وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ أي على الرزء فيه، أو على ما تذكرون من الكذب والمحال. ثم أخبر تعالى عما جرى ليوسف عليه السلام في الجب حين ألقاه إخوته وتركوه في ذلك الجب وحيدا فريدا.
وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ أي رفقة تسير، والسياق يعرفنا إنها سائرة إلى مصر فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ أي الذي يرد الماء ليستقي للقوم فَأَدْلى دَلْوَهُ أي أرسل الدلو ليملأها، ويظهر أن يوسف تشبث بالدلو، فنزعه وأخرجه واستبشر به قالَ يا بُشْرى وفي قراءة يا بشراي هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً أي وأخفوه متاعا للتجارة، إذ البضاعة ما يقطع من المال للتجارة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ أي عليم بما فعل الجميع وهو قادر على تغيير ذلك ودفعه، ولكن له حكمة وقدرا سابقا، وفي هذا درس لرسولنا عليه الصلاة والسلام وأتباعه أن الله عالم بما يصيبهم من الأذى، وهو قادر على الإنكار. ولكنه سيملي للظالمين ثم يجعل العاقبة والحكم عليهم كما جعل ليوسف الحكم والعاقبة على إخوته.
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ أي وباعوه بثمن مبخوس أي ناقص عن القيمة نقصانا ظاهرا. وهل البائع هنا السيارة في مصر كما تدل الآية اللاحقة، أو إخوة يوسف. قولان للمفسرين. رجح ابن كثير أن البائع هنا إخوته، وعلل فقال: لأن قوله وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ إنما أراد أخوته لا أولئك السيارة، لأن السيارة استبشروا به وأسروه بضاعة، ولو كانوا فيه زاهدين لما اشتروه.
فترجح من هذا أن الضمير في شروه إنما هو لإخوته. أقول: والذي رجحه ابن كثير هو