الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا
…
فالسياق يتكامل بين المجموعات في تبيان حال الإنسان، وفي تبيان افتقاره إلى الله، وإظهار هذا الافتقار ساعة الشدة، ويدلل ذلك على عمق قضية التوحيد في ذاته، ومع ذلك فإنه يشرك، إن الصلات بين الآيات وبين المجموعات أكثر من أن يحاط بها وما ذكرناه نموذج
فوائد:
1 -
بمناسبة قوله تعالى دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ قال الألوسي: (أي دعوه سبحانه من غير إشراك لرجوعهم من شدة الخوف إلى الفطرة التي جبل عليها كل أحد من التوحيد، وأنه لا متصرف إلا الله سبحانه، المركوزة في طبائع العالم، وروى ذلك عن ابن عباس ومن حديث أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص:
«لما كان الفتح فر عكرمة بن أبي جهل فركب البحر، فأصابتهم عاصف، فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا، فقال عكرمة: لئن لم ينجيني في البحر إلا الإخلاص، ما ينحيني في البر غيره، اللهم إن لك عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه آتى محمدا حتى أضع يدي في يده، فلأجدنه عفوا كريما قال: فجاء فأسلم» وفي رواية ابن سعد عن أبي مليكة «أن عكرمة لما ركب السفينة وأخذتهم الريح فجعلوا يدعون الله تعالى ويوحدونه قال: ما هذا؟ قالوا: هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله تعالى قال: فهذا إله محمد صلى الله عليه وسلم الذي يدعونا إليه، فارجعوا بنا فرجع. وأسلم» وظاهر الآية أنه ليس المراد تخصيص الدعاء به سبحانه، بل تخصيص العبادة به تعالى أيضا، لأنهم بمجرد ذلك لا يكونون مخلصين له الدين.
وأيا ما كان فالآية دالة على أن المشركين لا يدعون غيره تعالى في تلك الحال. وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتارهم أمر خطير، وخطب جسيم، في بر أو بحر، دعوا من لا يضر ولا ينفع، ولا يرى ولا يسمع، فمنهم من يدعو الخضر وإلياس، ومنهم من ينادي أبا الخميس والعباس، ومنهم من يستغيث بأحد الأئمة، ومنهم من يضرع إلى شيخ من مشايخ الأمة، ولا ترى أحدا فيهم يخص مولاه بتضرعه ودعائه، ولا يكاد يمر له ببال أنه لو دعا الله تعالى وحده ينجو من هاتيك الأهوال، فبالله تعالى عليك قل لي أي الفريقين من هذه الحيثية أهدى سبيلا؟ وأي الداعيين أقوم قيلا؟ وإلى الله تعالى المشتكى من زمان عصفت فيه ريح الجهالة، وتلاطمت أمواج الضلالة، وخرقت سفينة
الشريعة، واتخذت الاستغاثة بغير الله تعالى للنجاة ذريعة، وتعذر على العارفين الأمر بالمعروف، وحالت دون النهي عن المنكر صنوف الحتوف)
أقول: لعل في كلام الألوسي الأخير شفاء من الداء العياء، الذي أعيا الأطباء، وهو ما استشرى عند طبقات من الأمة، إذ يدعون غير الله ويستغيثون به، وإذا نصحتهم أو وعظتهم جادلوا متأولين، وكأنك تدعوهم إلى شرك أو ضلال، لا إلى التوحيد الخالص.
2 -
بمناسبة قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ قال الألوسي:
(هذا وفي الآية من الزجر عن البغي ما لا يخفى. وقد أخرج أبو الشيخ وأبو نعيم.
والخطيب والديلمي وغيرهم عن أنس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث هن رواجع عن أهلها: المكر والنكث والبغي، ثم تلا عليه الصلاة والسلام يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وأخرج البيهقي في الشعب عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من ذنب أجدر أن يعجل لصاحبه العقوبة من البغي وقطيعة الرحم» وأخرج أيضا من طريق بلال بن أبي بردة عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يبغي على الناس إلا ولد بغي أو فيه عرق منه» وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس. وابن عمر رضي الله عنهم قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو
بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما» وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين لأخيه
يا صاحب البغي إن البغي مصرعة
…
فاربع فخير فعال المرء أعدله
فلو بغى جبل يوما على جبل
…
لاندك منه أعاليه وأسفله
وعقد ذلك الشهاب فقال:
إن يعد ذو بغي عليك فخله
…
وارقب زمانا لانتقام باغي
واحذر من البغي الوخيم فلو بغى
…
جبل على جبل لدك الباغي)
3 -
وبمناسبة الكلام عن الدنيا في المجموعة نذكر بالحديث: «يؤتى بأنعم أهل الدنيا فيغمس في النار غمسة فيقال: هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا، ويؤتى بأشد الناس عذابا في الدنيا فيغمس في النعيم غمسة ثم يقال له: هل رأيت بؤسا قط. فيقول: لا» .
4 -
وبمناسبة قوله تعالى: وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها نقول: إن الآية يمكن أن تفهم فهمين: فهما قريبا، وفهما بعيدا، أما الفهم القريب فهو ما ذكرناه، وأما البعيد فإنما يدلنا عليه ما نراه في عصرنا، فإن الأرض كلها في عصرنا تتطور نحو التحسين والتزيين بشكل كبير، وأصبح أهل الأرض قريبين من الشعور بأنهم مسيطرون عليها، متمكنون منها، حتى لو أرادوا أن يفنوا ما على الأرض بالقنابل الذرية والهيدروجينية وغيرهما لفعلوا، ولا يبعد أن يأتي يوم يزداد هذا الشعور، وعلى هذا الفهم فقد يكون ما نحن فيه علامة على أن عمر الأرض أصبح قريبا، وأن الساعة أصبحت قريبة، وهي قريبة بنص القرآن، ولكن المراد أن الأمر قد شارف، وعندئذ تكون الأرض كلها كأن لم تغن بالأمس. وهكذا نجد النص القرآني يسع الزمان والمكان والإنسان، فهذه الآية فيها إنذار للفرد والجماعة، وفيها إنذار للبشرية كلها
5 -
عقب النسفي على ما ضرب الله من مثل للحياة الدنيا بقوله: (وهذا من التشبيه المركب: شبهت حال الدنيا في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها بعد الإقبال، بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاما بعد ما التف وتكاثف وزين الأرض بخضرته ورفيفه، وحكمة التشبيه التنبيه على أن الحياة صفوها شبيبتها، وكدرها شيبتها، كما أن صفو الماء في أعلى الإناء، قال:
ألم تر أن العمر كأس سلافة
…
فأوله صفو وآخره كدر
وحقيقته: تزين جثة الطين، بمصالح الدنيا والدين، كاختلاط النبات على اختلاف التلوين، فالطيبة تنبت بساتين الأنس، ورياحين الروح، وزهرة الزهر، وكروم الكرم، وحبوب الحب، وحدائق الحقيقة، وشقائق الطريقة، والخبيثة تخرج خلاف الخلف، وثمام الإثم، وشرك الشرك، وشبح الشح، وحطب العطب، ولعاع اللعب، ثم يدعوه معاده، كما يحين للحرث حصاده، فتزايله الحياة مغترا، كما يهيج النبات مصفرا، فتغيب جنته في الرمس، كأن لم تغن بالأمس، إلى أن يعود ربيع البعث، وموعد العرض والبحث. وكذلك حال الدنيا، كالماء ينفع قليله ويهلك كثيرة، ولا بد من ترك ما زاد، كما لا بد من أخذ الزاد، وآخذ المال لا يخلو من زلة، كما أن خائض الماء لا ينجو من بلة، وجمعه وإمساكه تلف صاحبه وإهلاكه، فما دون النصاب كضحضاح ماء يجاوز بلا احتماء، والنصاب كنهر حائل بين المجتاز، والجواز إلى المفاز لا يمكن إلا بقنطرة وهي الزكاة، وعمارتها بذل الصلات، فمتى اختلت القنطرة غرقته