الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسبب وجود شئ من الإيمان في قلوبهم إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ بالشقي والسعيد
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ قال ابن كثير: معنى الاستثناء هاهنا أن دوامهم فيما هم فيه من النعيم ليس أمرا واجبا بذاته بل هو موكول إلى مشيئة الله، فله المنة عليهم دائما، ولهذا يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ أي غير مقطوع، ولكنه ممتد إلى غير نهاية، ونلاحظ أن المقطع الأول من السورة ختم بقوله تعالى:
لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ* إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرُونَ.
وهذا المقطع ختم بقوله تعالى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ* فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ* خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ* وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ.
والملاحظ أن المقطعين الأول والخامس انتهيا بالكلام عن العاقبة النهائية للكافرين والعابدين، وما بين ذلك كانت القصص تركز على العاقبة الدنيوية للطرفين، والعبرة دائما بالعاقبة، أما ما يكون قبل ذلك من عتو، أو انتصار، أو ظلم، فهذا كله لا يساوي شيئا، وفي هذا درس بليغ للعابدين، فليحرص المسلمون أن يقوموا بحق الله في عبادته، وليحاسبوا أنفسهم على كل تقصير، بملازمة الاستغفار، والعاقبة في الدنيا والآخرة لهم.
فوائد:
1 -
بمناسبة قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ نذكر الحديث المروي في الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ الآية.
كما نلفت نظر أهل البصائر إلى ما نسمع به يوميا- تقريبا- من كارثة تقع في مكان ما في العالم، من غرق، أو خسف، أو حرق، أو غير ذلك، فالغافل يمر بهذا كله
وكأنه شئ عادي، وأصحاب القلوب يرون في هذا كله انتقام الله، ويرون في كل حادثة عبرة، وفي كل عقوبة عظة لأنفسهم أو لغيرهم.
2 -
بمناسبة قوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ نذكر بقوله تعالى: لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (النبأ: 28) وبقوله تعالى وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً (طه: 108) وفي حديث الصحيحين في موضوع الشفاعة «ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم» .
3 -
بمناسبة قوله تعالى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ذكر ابن كثير ما رواه أبو يعلى في مسنده عن ابن عمر عن عمر قال: لما نزلت فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ سألت النبي صلى الله عليه وسلم: فقلت يا رسول الله علام نعمل؟ على شئ قد فرغ منه أم على شئ لم يفرغ منه؟ فقال «على شئ قد فرغ منه يا عمر وجرت به الأقلام، ولكن كل ميسر لما خلق له» .
4 -
وفي حكمة قوله تعالى: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ بعد الاستثناء في قوله تعالى وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ قال ابن كثير:
(لئلا يتوهم متوهم بعد ذكره المشيئة، أن ثم انقطاعا، أو لبسا، أو شيئا بل ختم له بالدوام وعدم الانقطاع، كما بين هناك أن عذاب أهل النار في النار دائما مردود إلى مشيئته، وأنه بعدله وحكمته عذبهم ولهذا قال: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ كما قال لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (الأنبياء: 23) وهنا طيب القلوب وثبت المقصود بقوله عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ وقد جاء في الصحيحين: «يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار ثم يقال: «يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت» وفي الصحيح أيضا «فيقال: يا أهل الجنة إن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا).
5 -
من المواطن التي كثر فيها الجدل بين المفسرين الاستثناء الوارد في الآيات الأخيرة من هذا المقطع ومن ثم اقتضى ذلك أن نقف وقفة بهذه المناسبة:
أقوى الاتجاهات على الإطلاق عند المفسرين أن يقال الأشقياء نوعان: نوع في قلوبهم إيمان، ونوع ليس في قلوبهم إيمان، فالاستثناء من أجل أن يظهر الله عز وجل أن ليس كل شقي يبقى أبدا، بل إن منهم من شاء إخراجه من النار بعد خلود طويل وهم الذين في قلوبهم إيمان.
والسعداء نوعان: سعيد يدخل الجنة ابتداء، وسعيد يتأخر دخوله، إما لكونه من أهل الأعراف، وإما لكونه ينجو بعد عذاب، وهذا النوع خلوده الأبدي قاصر في ابتدائه، فمن ثم ذكر الاستثناء ليبين أن مدة من دوام السموات والأرض ابتداء، لا تكون قسم من السعداء في الجنة.
والاتجاه الثاني: أن يقال ذكر الاستثناء في المقامين ليعلمنا الله عز وجل أن هذا الخلود ليس واجبا بذاته، بل هو موكول إلى الله، ليبقى المسلم متذكرا أن مشيئة الله مطلقة، ولولا أن الله عز وجل ذكر في مكان آخر الخلود الأبدي لأهل الجنة وللكافرين من أهل النار ما فهمنا الخلود الأبدي، وبذلك يعلمنا الله عز وجل أن نذكر مشيئته حتى في القضايا القطعية.
ولي في الاستثناء فهم لم أره لأحد أذكره وأستغفر الله أن أقول على كتابه ما ليس لي به علم، هذا الفهم هو: أن الاستثناء ورد ليخرج التغير الذي يطرأ على السموات والأرض عند قيام الساعة. ليبين أن الدوام في النار والجنة ليس فيه أي طارئ فيكون المعنى فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ من أمر القيامة فإنه لا يطرأ عليهم مثل هذا الطارئ بل هو الخلود الأبدي الذي لا يتخلف ولا ينقطع إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ من تعذيب أهل نقمته وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ من أمر القيامة فإنه لا يكون مثله لأهل الجنة عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ أي عطاء غير منقطع، ولتوضيح هذا المقام أقول:
إن هذا الكون حادث لكنه أبدي، يطرأ عليه طارئ القيامة فيتغير يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ فإذا ما دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فإنهما يكونان خالدين فيها خلودا يشبه خلود السموات والأرض. وحتى لا يفهم فاهم أن هناك احتمال قيامة ما، بين الله عز وجل أن ما شاءه من انقطاع لديمومة السموات والأرض يوم القيامة مستثنى من هذا الدوام.