الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والسياق لم يذكر غيرها يبدو أنه رأى رغبة الجميع به، وإجماع الجميع على أن عليه أن يرحم سيدته فيعطيها مرادها وهو منطق الناس إذا لم يكن إيمان وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أي أميل إليهن، والصبوة: الميل إلى الهوى، ومنه الصبا لأن النفوس تصبو إليها لطيب نسيمها وروحها وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ أي من الذين لا يعملون بما يعلمون لأن من لا جدوى لعلمه فهو ومن لم يعلم سواء أو من السفهاء، وهكذا فزع إلى الله في طلب العصمة، مبينا أنه إن وكل إلى نفسه فليس له في محنة الجمال طاقة إن استمر الامتحان. واختار السجن على سعير امتحان الشهوة، فما أصعب هذا الامتحان، وما أكمل يوسف عليه السلام، إذ أنه مع شبابه وجماله وكماله تدعوه سيدته وهي امرأة عزيز مصر، وهي مع هذا في غاية الجمال والمال والرئاسة، ويمتنع من ذلك ويختار السجن على ذلك خوفا من الله ورجاء توبته.
فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ أي أجاب دعاءه فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لدعوات الملتجئين إليه الْعَلِيمُ بكل حال
ثُمَّ بَدا لَهُمْ أي ثم ظهر لهم من المصلحة مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ وهي الشواهد على براءته، كقد القميص، وشهادة الشاهد، وجرح الأيدي، وغير ذلك. لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ أي إلى زمان، فكأنها اقترحت أن يسجن زمانا حتى تبصر ما يكون منه، وطاوعها زوجها لإبداء عذر الحال، وإرخاء الستر على القيل والقال، وللإيهام أنهم سجنوه لأنه راودها عن نفسها، وإنهم سجنوه لذلك، ولهذا نلاحظ أن يوسف عليه السلام امتنع فيما بعد من الخروج إلا بعد إثبات البراءة، وما كان سجنه- والله أعلم- إلا باستنزال المرأة زوجها المطواع على رأيها.
قال النسفي: وقد طمعت أن يذله السجن ويسخره لها، أو خافت عليه العيون، وظنت فيه الظنون، فألجأها الخجل من الناس والوجل من اليأس إلى أن رضيت بالحجاب مكان خوف الذهاب لتشتفي بخبره إذا منعت من نظره اه. أقول: ومن ثم لم تقترح في الأصل إلا السجن أو العذاب، ولم تذكر القتل وهذا يدل على تمكن الحب.
فوائد:
1 -
هذه الآيات من سورة يوسف يقابلها فيما يسمونه التوراة الحالية الإصحاح التاسع والثلاثون من سفر التكوين، وفيه أن فوطيفار خصي فرعون ورئيس الشرط هو الذي اشترى يوسف وسلمه شئون البيت، وفيه مراودة امرأته ليوسف ورفض يوسف وجوابه لها (هو ذا سيدي لا يعرف معي ما في البيت وكل ماله قد دفعه إلى يدي ليس هو
في هذا البيت أعظم مني ولم يمسك عني شيئا غيرك لأنك امرأته فكيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله) والملاحظ أن هذا المعنى سجله القرآن إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ فتأمل عظمة هذا القرآن، إذ يأتي بأعظم المعاني وأغزرها وأصدقها بأوجز تعبير وألطفه وأدقه وأصدقه، ثم إن الإصحاح لا يحدثنا عن كثير من التفصيلات، وإن كان يحدثنا بإجمال عن خلو البيت مرة، وإمساكها يوسف وهربه منها. وفي الإصحاح غلط وخطأ وكذب وعدم دقة ونقص. لا تخفى على المتأمل ومن أمثالها نعرف نعمة الله إذ أنزل هذا القرآن فيه بيان وتفصيل لكل شئ، ومن مثل هذا نعرف كيف أن هذه السورة جاءت لتحقق إقامة الحجة على إعجاز هذا القرآن من خلال هذا العرض الصادق والعجيب لقصة يوسف عليه السلام.
2 -
نلاحظ أن التوراة الحالية لم تذكر اسم زوجة سيد يوسف إلا أن المفسرين المسلمين يذكرون أن اسمها زليخا، وبعضهم يسميها راعيل. وذكر ابن إسحاق أن زليخا كانت أخت الملك الريان بن الوليد، وليس هناك من مصدر لمثل هذا إلا روايات أهل الكتاب المعاصرين للمفسرين وكثير منها لا يصح الاتكاء عليه أصلا.
3 -
عند قوله تعالى وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ يقف المفسرون وقفات طويلة فلتراجع، وقد اخترنا في شأنها ما حكاه الكسائي أنها لغة لأهل حوران وقعت لأهل الحجاز ومعناها تعال: وفي الكلمة قراءات أخرى ونحن في هذا الكتاب نمشي على قراءة حفص.
4 -
وعند قوله وَهَمَّ بِها كلام كثير للمفسرين وهم متفقون بأن همه غير همها، همها عزم، فما هو همه؟ سنرى الجواب وقد ذهب بعضهم إلى أن الهم لم يحدث أصلا واعتبروا أن قوله تعالى وَهَمَّ بِها متصل بما بعده وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ أي لولا أن رأى برهان ربه لهم بها هم طبع، ولكنه رأى برهان ربه فلم يهم، إلا أن بعضهم يرفض هذا الرأى لأن علماء العربية لا يرون أن مثل هذا الوجه يقبله استقراء لغة العرب، وبعضهم قال هم بها، أي هم بضربها، وأجود شئ أن يحمل همه على أنه خطرة نفس لم يقبلها قلبه، فهي من نوع الهم الموجود في الحديث المخرج في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«يقول الله تعالى: إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشرة أمثالها، وإن هم بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة فإنما تركها من جرائي، فإن عملها فاكتبوها بمثلها» .
5 -
وفي تفسير (البرهان) في قوله تعالى: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كلام كثير للمفسرين كذلك، وليس في هذا الكلام الكثير من شئ يمكن أن يكون قاطعا في هذا الموضوع، والتوراة الحالية ساكتة عن مثل هذا وأكثر المفسرين على أنه رأى صورة أبيه يعقوب عاضا على إصبعه بفمه. ذكر ذلك ابن كثير عن ابن عباس، وسعيد، ومجاهد، وسعيد بن جبير، ومحمد بن سيرين، والحسن، وقتادة، وأبي صالح، والضحاك، ومحمد بن إسحاق وغيرهم. إلا أن الذي يرجحه النسفي أن البرهان هو النظر في دلائل التحريم. ذكر ذلك بعد أن ذكر القول الذي يورده بعضهم في معرض:
أنه هم بها فأراه الله صورة يعقوب
…
قال: (ويدل على بطلانه قوله: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ولو كان ذلك منه أيضا لما برأ نفسه من ذلك، وقوله كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ ولو كان كذلك لم يكن السوء مصروفا عنه. وقوله ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ولو كان كذلك لخانه بالغيب. وقوله ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ولأنه لو وجد منه ذلك لذكرت توبته واستغفاره كما كان لآدم ونوح وذي النون وداود عليهم السلام. وقد سماه الله مخلصا، فعلم بالقطع أنه ثبت في ذلك المقام وجاهد نفسه مجاهدة أولي العزم ناظرا في دلائل التحريم حتى استحق من الله الثناء. قال ابن جرير:
والصواب أن يقال إنه رأى آية من آيات الله تزجره عما كان هم به. وجائز أن يكون صورة يعقوب وجائز أن يكون صورة الملك، وجائز أن يكون ما رآه مكتوبا من الزجر عن ذلك، ولا حجة قاطعة على تعيين شئ من ذلك، قال ابن كثير: فالصواب أن نطلقه كما قال الله تعالى).
6 -
يختار ابن جرير أن الشاهد الذي شهد ليوسف كان صبيا في المهد. ويختار غيره أنه كان رجلا. قال ابن كثير بعد أن نقل كلام ابن جرير وقد ورد منه حديث مرفوع، فقال ابن جرير
…
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«تكلم أربعة وهم صغار» فذكر فيهم شاهد يوسف، ورواه غيره عن حماد بن سلمة عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال:«تكلم أربعة صغار: ابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى ابن مريم» للآلوسي تحقيق عند قوله تعالى وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها ننقله كله لما فيه من فوائد، قال: (ذهب جمع إلى أنه كان ابن خالها، وكان طفلا في المهد أنطقه الله تعالى ببراءته عليه السلام، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم «تكلم أربعة في المهد وهم صغار: ابن ماشطة، ابنة فرعون،
وشاهد يوسف عليه السلام. وصاحب جريج. وعيسى ابن مريم عليهما السلام» وتعقب ذلك الطيبي بقوله: يرده دلالة الحصر في حديث الصحيحين عن أبي هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب جريج، وصبي كان يرضع من أمه فمر راكب حسن الهيئة فقالت: أمه اللهم أجعل ابني مثل هذا فترك الصبي الثدي، وقال اللهم لا تجعلني مثله» ا. هـ، ورده الجلال السيوطي فقال. هذا منه جار على عادته من عدم الاطلاع على طرق الأحاديث، والحديث المتقدم صحيح أخرجه أحمد في مسنده. وابن حبان في صحيحه. والحاكم في مستدركه وصححه من حديث ابن عباس، ورواه الحاكم أيضا من حديث أبي هريرة، وقال صحيح على شرط الشيخين، وفي حديث الصحيحين المشار إليه آنفا زيادة على الأربعة «الصبي الذي كان يرضع من أمه فمر راكب» الخ فصاروا خمسة وهم أكثر من ذلك، ففي صحيح مسلم تكلم الطفل في قصة الأخدود، وقد جمعت من تكلم في المهد فبلغوا أحد عشر، ونظمتها فقلت:
تكلم في المهد النبي محمد
…
ويحيى وعيسى والخليل ومريم
ومبرى جريج ثم شاهد يوسف
…
وطفل لذي الأخدود يرويه مسلم
وطفل عليه مر بالأمة التي
…
يقال لها تزني ولا تتكلم
وماشطة في عهد فرعون طفلها
…
وفي زمن الهادي المبرك يختم
اهـ، وفيه أنه لم يرد الطيبي الطعن على الحديث الذي ذكر كما توهم، وإنما أراد أن يبين أن الحديث الدال على الحصر وغيره تعارضا وذلك يحتاج إلى التوفيق.
7 -
ورد أكثر من حديث يتكلم عن حسن يوسف، ومن ذلك ما ورد في الحديث الصحيح في حديث الإسراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بيوسف عليه السلام في السماء الثالثة. قال:«فإذا هو قد أعطي شطر الحسن» وروى حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطي يوسف وأمه شطر الحسن» قال السهيلي:
معناه أن يوسف عليه السلام كان على النصف من حسن آدم عليه السلام، فإن الله خلق آدم بيده على أكمل صورة وأحسنها، ولم يكن في ذريته من يوازيه في جماله، وكان يوسف قد أعطى شطر حسنه. أقول: قال بعضهم لقد أعطي محمد صلى الله عليه وسلم الحسن كله.
فليوسف شطره، ولمحمد صلى الله عليه وسلم كله:
وأجمل منك لم تر قط عيني
…
وأجمل منك لم تلد النساء
خلقت مبرأ من كل عيب
…
كأنك قد خلقت كما تشاء