الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا هو المقطع الثاني من القسم الأول ويتألف من مجموعتين، كل مجموعة تخدم السياق العام، وتذكر معاني مرتبطة بالسياق الجزئي، وسنرى كل ذلك أثناء استعراض المجموعتين.
المجموعة الأولى
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي أم يقولون اختلقه قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ أي قل إن كان الأمر كما تزعمون فأتوا على وجه الافتراء بسورة مثله أي شبيهة به في البلاغة وحسن النظم فأنتم عرب مثلي وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي وادعوا من دون الله من استطعتم من خلقه للاستعانة به على الإتيان بمثله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في دعواكم أنه مفترى والمعنى: إن ادعيتم وافتريتم وشككتم في أن هذا من عند الله، وقلتم كذبا إن هذا من عند محمد، فمحمد بشر مثلكم وقد جاء- فيما زعمتم- بهذا
القرآن فأتوا أنتم بسورة من جنس هذا القرآن، واستعينوا على ذلك بكل من قدرتم عليه من إنس وجان، فإذ لم تفعلوا فقد قامت عليكم الحجة أن هذا القرآن من عند الله، ولم يبق إلا الإيمان والتسليم إن كنتم منصفين، ولكن هل تكذيبهم أثر عن تفكير وتدبر وعلم وعقل؟ لا.
قال تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ أي بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن في بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره، وقبل أن يتدبروه ويقفوا على تأويله ومعانيه، وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم، فتكذيبهم إذن تكذيب بما لم يعرفوا ولم يفهموا وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ أي ولم يأتيهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب، أي عاقبته حتى يتبين لهم أهو كذب أم صدق، يعني: أنه كتاب معجز من جهتين: من جهة إعجاز نظمه، ومن جهة ما فيه من الإخبار بالغيوب، فتسرعوا إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حد الإعجاز، وقبل أن يجربوا إخباره بالمغيبات وصدقه. والآية تفيد أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر، ومعرفة التأويل تقليدا للآباء، واستعمال كلمة لما في هذا المقام يفيد أنهم علموا من بعد علو شأنه وإعجازه، وبقوا مصرين على التكذيب بغيا وحسدا، وإذن فهؤلاء كذبوا بهذا القرآن، ولم يفهموا ولم يعرفوا ولم يستوعبوا ما فيه من الهدى ودين الحق سفها وجهلا كَذلِكَ أي مثل ذلك التكذيب الذي لا يقوم على دليل كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم السالفة أي كذلك كذبوا رسلهم قبل النظر في معجزاتهم، وقبل تدبرها عنادا أو تقليدا للآباء فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ أي فانظر كيف أهلكناهم بتكذيبهم رسلنا ظلما وما كذبوهم إلا وعلوا وكفرا وعنادا وجهلا، فاحذروا أيها المكذبون أن يصيبكم ما أصابهم.
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أي ومنهم من يصدق بالقرآن في نفسه، ويعلم أنه حق ولكنه يعاند بالتكذيب وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ أي ومنهم من لا يصدق به ويشك فيه وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ أي بالمعاندين المصرين الصادين عن سبيل الله، ويحتمل أن يكون المعنى: ومن هؤلاء الذين بعثت إليهم يا محمد من يؤمن بهذا القرآن ويتبعك بما أرسلت به، ومنهم من لا يؤمن به ويموت على ذلك ويبعث عليه، وربك أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه، ومن يستحق الضلالة- وهم المفسدون- فيضله، فهو العادل الذي لا يجور، بل يعطي كلا من هؤلاء ما يستحق تبارك وتعالى وتقدس وتنزه لا إله إلا هو، ويحتمل أن يكون المعنى: ومنهم من سيؤمن به، ومنهم من سيصر، وربك أعلم بالمفسدين الذين يستحقون الضلال بسبب من إفسادهم، وهكذا
عرفنا من خلال الآيتين اللتين مرتا أن سبب الريب والكفر بهذا القرآن الظلم والإفساد في الأرض، فمن كان ظالما ومن كان مفسدا فهذا وحده الذي يرتاب في هذا القرآن ويشك به ويكفر، أما القرآن فليس فيه ريب ولا شك، لأن الحجة قائمة فيه أنه من عند الله، جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا» فالرسل السابقون معجزاتهم شاهدة على صحة رسالتهم، وأما رسالة رسولنا صلى الله عليه وسلم فالقرآن شارحها، والمعجزة في القرآن نفسه، فكيف يكون فيه ريب
وَإِنْ كَذَّبُوكَ أي وإن استمروا على تكذيبك ويئست من إجابتهم بعد قيام الحجة عليهم فتبرأ منهم ومن عملهم فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أي لي جزاء عملي ولكم جزاء أعمالكم أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ فكل مؤاخذ بعمله
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أي ومنهم ناس يستمعون إليك إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع، فهم يسمعون كلامك الحسن، والقرآن العظيم، والأحاديث الصحيحة الفصيحة النافعة في القلوب والأديان والأبدان، وفي هذا كفاية عظيمة للإيمان، ولكنهم لا يعون ولا يقبلون، فهم كالصم أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ أي أتطمع أنك تقدر على إسماع الصم ولو انضم إلى صممهم انعدام عقولهم، لأن الأصم العاقل ربما تفرس واستدل إذا وقع في صماخه دوي الصوت، فإذا اجتمع سلب العقل والسمع فقد تم عدم الفهم، وإذن فالصمم وانعدام العقل عاملان آخران من عوامل الضلال والكفر بهذا القرآن وهذا الرسول
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أي ومنهم ناس ينظرون إليك ويعاينون أدلة الصدق وأعلام النبوة، ولكنهم لا يصدقون، أو كما قال ابن كثير:(أي ينظرون إليك وإلى ما أعطاك الله من التؤدة، والسمت الحسن، والخلق العظيم، والدلالة الظاهرة على نبوتك لأولي البصائر والنهى. وهؤلاء ينظرون كما ينظر غيرهم، ولا يحصل لهم من الهداية شئ كما يحصل لغيرهم، بل المؤمنون ينظرون إليك بعين الوقار، وهؤلاء الكفار ينظرون إليك بعين الاحتقار) فكيف يؤمنون بك، وكيف ينتفعون منك وهم لا يرون حقيقتك أصلا لعماهم أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ أي أتحسب أنك تقدر على هداية العمي ولو انضم إلى فقد البصر فقد البصيرة، لأن الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يحدس، وأما العمى مع الحمق فجهد البلاء، فتحصل من الآيتين أنهم في اليأس من أن يقبلوا ويصدقوا كالصمم والعمي الذين لا عقول لهم ولا بصائر. فحصل