الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وصفته بأصول مكارم الأخلاق، لأن الإحسان إما إلى الأقارب أو إلى الأجانب، وإما بالبدن أو بالمال، وإما على من يستقل بأمره أو من لا يستقل، وذلك كله مجموع فيما وصفناه به.
أقول: لعل أبلغ وصف توصف به حياته عليه الصلاة والسلام قبل النبوة ما وصفته به خديجة - وهي أعرف الخلق به - لقد اجتمع له عليه الصلاة والسلام أطهر قلبٍ وأكرمُ سلوكٍ، فكانت كرامة الله.
* * *
المراحل الأولى للوحي:
قال في الفتح:
(فائدة): وقع في تاريخ أحمد بن حنبل عن الشعبي أن مدة فترة الوحي كانت ثلاث سنين، وبه جزم ابن إسحاق، وحكى البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر، وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع من شهر مولده وهو ربيع الأول بعد إكماله أربعين سنة، وابتداء وحي اليقظة وقع في رمضان. وليس المراد بفترة الوحي المقدرة بثلاث سنين وهي ما بين نزول اقرأ ويا أيها المدثر عدم مجيء جبريل إليه، بل تأخر نزول القرآن فقط. ثم راجعت المنقول عن الشعبي من تاريخ الإمام أحمد، ولفظه من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي: أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل عليه القرآن على لسانه. فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل، فنزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة. أخرجه ابن أبي خيثمة من وجه آخر مختصراً عن داود بلفظ: "بعث لأربعين، ووكل به إسرافيل ثلاث سنين، ثم وكل به جبريل. فعلى هذا فيحسن - بهذا المرسل إن ثبت - الجمع بين القولين في قدر إقامته بمكة بعد البعثة، فقد قيل ثلاث عشرة، وقيل عشر، ولا يتعلق ذلك بقدر مدة الفترة، والله أعلم. وقد حكى ابن التين هذه القصة، لكن وقع عنده ميكائيل بدل إسرافيل، وأنكر
الواقدي هذه الرواية المرسلة وقال: لم يقرن به من الملائكة إلا جبريل، انتهى. ولا يخفى ما فيه، فإن المثبت مقدم على النافي إلا إن صحب النافي دليل نفيه فيقدم، والله أعلم. وأخذ السهيلي هذه الرواية فجمع بها المختلف في مكثه صلى الله عليه وسلم بمكة، فإنه قال: جاء في بعض الروايات المسندة أن مدة الفترة سنتان ونصف، وفي رواية أخرى أن مدة الرؤيا ستة أشهر. فمن قال مكث عشر سنين حذف مدة الرؤيا والفترة، ومن قال ثلاث عشرة أضافهما. وهذا الذي اعتمده السهيلي من الاحتجاج بمرسل الشعبي لا يثبت، وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس أن مدة الفترة المذكورة كانت أياماً.
أقول: على القول: إن فترة الوحي كانت ثلاث سنين فيكون نزول سورة المدثر والمزمل بعد بدء الوحي بثلاث سنين، وبسبب هذا القول ذهب من ذهب أن النبوة كانت على رأس الأربعين، وأن الرسالة كانت بعد ثلاث سنين، والراجح عندي أن الأمر بالدعوة لم يكن متأخراً كثيراً عن بدء الوحي، ولكن منذ بدء الوحي حتى انتهاء الفترة السرية كان ثلاث سنين، وعلى كل الأحوال فإن سورة {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} نزلت بعد فترة الوحي، وعلى هذا تحمل الرواية التي تذكر أن أول ما نزل سورة المدثر فهي أولية نسبية ذلك أنها أول ما نزل بعد فترة الوحي.
49 -
* روى الحاكم عن جابر رضي الله عنه قال: سعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُحدث عن فترة الوحي قال: "فقلت زملوني فدثروني فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} " قال هي الأوثان.
يؤكد هذا الحديث أن سورة المدثر نزلت بعد فترة الحي فليس هي أول سورة نزلت بإطلاق، بل هي أول ما نزل بعد فترة الوحي.
50 -
* روى البخاري عن جُندُب بن سفيان البجلي رضي الله عنه قال: اشتكى رسولُ
49 - المستدرك (2/ 251) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه اللفظة.
زملوني: أي لفوني بثيابي، والمزمل هو الملتف بثيابه، وكذلك دثروني. الأوثان: الأصنام، والوثن هو الصنم.
50 -
البخاري (8/ 710) 65 - كتاب التفسير - 93 - سورة الضحى - 1 - باب: ما ودعك ربك وما قلى. ومسلم (3/ 1422) 32 - كتاب الجهاد والسير - 39 - باب: ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين. =
الله صلى الله عليه وسلم، فلميقُم ليلتين أو ثلاثاً، فجاءته امرأةٌ، فقالت: يا محمد، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثاً، فأنزل الله عز وجل:{وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (1).
وفي رواية قال: أبطأ جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال المشركون: قد ودع محمدٌ، فأنزل الله عز وجل:{وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} .
51 -
* روى الترمذي عن جُندب البجلي قال: كنتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم في غارٍ، فدميتْ إصبعه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
هل أنتِ إلا إصبع دميتِ
…
وفي سبيل الله ما لقيتِ؟
قال: فأبطأ عليه جبريل عليه السلام، فقال المشركون: قد ودع محمدٌ، فأنزل الله تبارك وتعالى:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} .
ذكرت هذه الرواية ههنا لأنه اختلط على بعض العلماء فترة الوحي هذه بفترة الوحي التي كانت بعد فجأة الوحي وليس ذلك صحيحاً. قال صاحب الفتح:
والحق أن الفترة المذكورة في سبب نزول والضحى غير الفترة المذكورة في ابتداء الحي. فإن تلك دامت أياماً وهذه لم تكن إلا ليلتين أو ثلاثاً. وههنا إشكال: أن بعض الروايات تذكر: أن خديجة قالت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أرى ربك إلا قد قلاك، وقد قال صاحب الفتح في هذا:
وقع في رواية أخرى عن الحاكم (فقالت خديجة) وأخرجه الطبري أيضاً من طريق عبد الله بن شداد (فقالت خديجة ولا أرى ربك) ومن طريق هشام بن عروة عن أبيه
= اشتكى: أي: مرض. والمرأة: هي أم جميل - بفتح الجيم - امرأة أبي لهب وأخت أبي سفيان، وقرب: بالضم لازم، يقال: قرب الشيء، أي: دنا، وبالكسر: متعد، يقال: قربته، أي: دنوت منه. شيطانك: أي أنها كانت تقول عن الوحي شيطان، قاتلها الله وتبت يداها ويدا زوجها. والليل إذا سجى: أي ثبت بظلامه وسكن بأهله. قلا: قلاه: إذا هجره، والاسم: القلي. ودع: أي فورق، ويقال ودع المسافر الناس أي فارقهم محيياً لهم.
(1)
الضحى: 1 - 3.
51 -
الترمذي (5/ 422) 48 - كتاب تفسير القرآن - 82 باب: ومن سورة الضحى، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
(فقالت خديجة لما ترى من جزعه)، وهذان طريقان مرسلان ورواتهما ثقات، فالذي يظهر أن كلاً من أم جميل وخديجة قالت ذلك، لكن أم جميل عبرت - لكونها كافرة - بلفظ شيطانك. وخديجة عبرت - لكونها مؤمنة - بلفظ ربك أو صاحبك، وقالت أم جميل شماتة وخديجة توجعاً.
وفي الجمع بين سببي النزول لقوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} ، أقول: إنه قد يتكرر نزول الآية مرة بعد مرة على إثر حوادث متعددة.
52 -
* روى البخاري ومسلم عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن قال: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} فقلت: يقولون: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} قال أبو سلمة سألت جابراً، فقلت له مثل ما قلت لي، فقال لي جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله لعيه وسلم، قال:"جاروتُ بحراءٍ شهراً، فلما قضيت جواري، هبطت، فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً، ونظرتُ عن شمالي، فلم أر شيئاً، ونظرتُ أمامي فلم أر شيئاً، ونظرتُ خلفي، فلم أر شيئاً، فرفعتُ رأسي، فرأيت شيئاً، فأتيتُ خديجة، فقلت: دثروني، فدثروني، وصبوا علي ماء بارداً، فنزلت {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (1) " وذلك قبل أن تفرض الصلاة.
وفي رواية (2) "فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي، فنوديتُ فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي، فلم أر أحداً، ثم نوديتُ، فنظرت فلم أر أحداً، ثم نوديتُ فرفعتُ رأسي، فإذا هو قاعدٌ على عرشٍ في
52 - والبخاري (8/ 676) 65 - كتاب التفسير - 74 - سورة المدثر.
مسلم (1/ 144) 1 - كتاب الإيمان - 73 - باب: بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما قضيت جواري: أي محاورتي واعتكافي في الغار. فاستبطنت الوادي: أي: صرت في باطنه، فأخذتني رجفة شديدة: الرجفة: الاضطراب.
(1)
المدثر: 1 - 5.
(2)
مسلم (1/ 144) 1 - كتاب الإيمان - 73 - باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الهواء - يعني جبريل - فأخذتني رجفةً شديدةً، فأتيت خديجة فقلت: دثرُوني، فدثِّروني، وصبوا عليَّ ماءً بارداً، فأنزل الله عز وجل {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} ".
وفي رواية (1)"فإذا هو جالسٌ على العرش بين السماء والأرضِ".
وفي رواية (2) عن أبي سلمة عن جابرٍ قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يُحدثُ عن فترة الوحي، فقال لي في حديثه "فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعتُ رأسي، فإذا الملكُ الذي جاءني بحراءٍ جالسٌ على كُرسيٌّ بين السماء والأرض فجُثِثْتُ منه رعباً، فرجعت، فقلتُ: زملوني زملوني، فدثروني، فأنزل الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} " قبل أن تُفرض الصلاة، والرُّجزُ هي الأوثان.
وفي أخرى "فجُثِثْتُ منهُ حتى هويت إلى الأرضِ" وفيه: قال أبو سلمة (والرُّجزُ: الأوثان) قال: "ثم حمِيَ الوحيُ، وتتابع".
وأول هذه الرواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثُمَّ فترَ الوحيُ عنِّي فترةً، فبينا أنا أمشي
…
" ثم ذكر نحوه.
أقول: أولية نزول {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} أولية نسبية فهي أول ما نزل بعد فترة الوحي. فالصحيح أن أول ما نزل من القرآن هو قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وأما {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} فكانت بعد ذلك. ويصدق في ذلك ما وقع في بعض روايات هذا الحديث "فإذا الملك الذي جاءني بحراء" وقوله "ثم تتابع الوحي" أي بعد فترته.
(1) البخاري (8/ 678) 65 - كتاب التفسير - 74 - سورة المدثر - باب: (وثيابك فطهر).
(2)
مسلم (1/ 145) 1 - كتاب الإيمان - 73 - باب: بدء الوحي.
فإذا هو على العرش: المراد بالعرش الكرسي. قال أهل اللغة: العرش هو السرير، وقيل سرير الملك. قال تعالى:(ولها عرش عظيم). فجُثثتُ منه: يقال: "جُثِثْتُ" بهمزة قبل ثاء، وبثاءين، وبياءٍ وتاءٍ: كلمة بمعنى فَزِعْتُ، والذي في الرواية: الأول: هويت: هوى إلى الأرض وأهوى إليها. أي: سقط. ثم حمى الوحي وتتابع: أي كثر نزوله وازداد من قولهم حميت الشمس والنار أي قويت حرارتها.
وقبل كل ذلك الحديث الطويل الذي رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها في قصة أول بعثته صلى الله عليه وسلم ونزول جبريل عليه بحراء.
بدأ الوحي بقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وبعد فترة نزل {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ} .... {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} فلنقف وقفة عند ذلك:
عند قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} قال السهيلي:
أي لا تقرؤه بقوتك ولا بمعرفتك، لكن بحول ربك وإعانته، فهو يعلمك، كما خلقكم وكما نزعه عنك علق الدم وغمز الشيطان في الصغر، وعلم أمتك حتى صارت تكتب بالقلم بعد أن كانت أمية.
أقول: أخذ بعض أهل السلوك إلى الله عز وجل من هذا أن السالك إلى الله يبدأ بقراءة هذا الكون مستعيناً باسم الله، حتى إذا احترق بالذكر وأذن له شيوخه بالدعوة إلى الله قام بالدعوة، وعليه في هذا الحال أن يجتمع له دعوة وعبادة {قُمْ فَأَنْذِرْ} {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} ولا ينجح بالدعوة إلا من اجتمع له تعظيم الله {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} وطهارة الظاهر والباطن {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} والتباعد عن عبادات الجاهلية {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} والعمل مع رؤية التقصير {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} والصبر على مقتضيات الدعوة {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} .
* * *