الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(4)
شرط الكمال المطلق
قد يوجد في تاريخ البشرية من سيرتُه تاريخية ولا يعتبر ذلك وحده كافياً للهداية والاقتداء، بل قد تكون سيرة هؤلاء شراً وخبثاً، فلابد أن يجتمع مع شرط التاريخية شرط آخر لتصلح السيرة للاقتداء والاهتداء، هذا الشرط هو أن يكون تصرف صاحب السيرة في الصغيرة والكبيرة هو الكمال المطلق، وهذا الذي نجده على الكمال والتمام في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا هو محور المحاضرة الرابعة، فلقد أخذ المؤلف يضرب على ذلك الأمثال في الصغيرة والكبيرة من تصرفاته صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وبعدها في حياته البيتية وغيرها مقيماً الأدلة على ذلك.
ومن كلامه في هذه المحاضرة:
إن أعظم الناس وأجلهم إذا انقلب إلى بيته كان فيه رجلاً من الرجال وواحداً كآحاد الناس، ولقد صدق فولتير في كلمته المشهورة:(إن الرجل لا يكون عظيماً في داخل بيته، ولا بطلاً في أسرته) يريد أن عظمة المرء لا يعترف بها من هو أقرب الناس إليه، لاطلاعه على دخيلته في مباذله.
وهذا الحكم يشذ عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول باستور سميث: (إن ما قيل عن العظماء في مباذلهم لا يصح - على الأقل - في محمد رسول الإسلام) واستشهد بقول كين: (لم يمتحن رسول من الرسل أصحابه كما امتحن محمد صلى أصحابه" إنه قبل أن يتقدم إلى الناس جميعاً، تقدم إلى الذين عرفوه إنساناً، المعرفة الكاملة، فطلب من زوجته وغلامه وأخيه وأقرب أصدقائه إليه وأحب خلانه أن يؤمنوا به نبياً مرسلاً، فكل منهم صدق دعواه وآمن بنبوته، وإن حليلة المرء أكثر الناس علماً بباطن أمره ودخيلة نفسه وألصقهم به، فلا يوجد من هو أعرف منها بنهاته ونقائصه، أليس أول من آمن بمحمد رسول الله زوجه الكريمة التي عاشرته خمسة عشر عاماً، واطلعت على دخائله في جميع أموره وأحاطت به علماً ومعرفة فلما ادعى النبوة كانت أول من صدقه في نبوته).
إن أعظم الناس لا يأذن لزوجه - وإن كانت له زوج واحدة - بأن تحدث الناس عن جميع ما تراه من تحليلها، وأن تعلن كل ما شاهدته من أحواله. لكن رسول الله كانت له في وقت واحد تسع زوجات، وكانت كل منهن في إذن من الرسول بأن تقول عنه للناس كل ما تراه منه في خلواته، وهُن في حِلٍّ من أن يخبرن الناس في وضح النهار كل ما رأين منه في ظلمة الليل، وأن يتحدثن في الساحات والمجامع بما يشاهدن منه في الحجرات، فهل عرفت الدنيا رجلاً كهذا الرجل يثق بنفسه كل هذه الثقة، ولا يخاف قالة السوء عنه من أحد لأنه أبعد الناس عن السوء.
إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه ولمن يحضر مجالسه أن يبلغوا عنه لمن غاب عنها، وهذا الإذن عام لما يكون عنه في بيته وبين أهله وعياله، أو ما يصدر عنه في حلقته مع أصحابه، أو ما يقفون عليه من أعماله وأقواله، عند تعبده في مسجده، أو قيامه على منبره خطيباً، أو جهاده في ساحة الحرب تجاه أعدائه، وهو يسوِّي صفوف المجاهدين في سبيل الله، أو إذا خلا إلى ربه في حجرة منعزلة في بيته يعبد الله ويتضرع إليه فكان أزواجه وأصحابه يتحدثون جميعاً بكل ما يصدر عنه من قول أو عمل.
ثم إنه كان تجاه مسجده صُفَّة يأوي إليها فقراء الصحابة الذين لم تكن لهم بيوت يأوون إليها، فكانوا يتناوبون الخروج إلى ما بعد بنيان المدينة يحتطبون من أشجار الصحراء والجبل، ويبيعون مايأتون به ليقتاتوا جميعاً بثمنه، ولم يكن لسائرهم عمل غير صحبة النبي صلى الله عليه وسلم ولزوم مجالسه ليحفظوا عنه ما يقول وما يعمل ثم يروونه للناس بعناية وأمانة، وقد بلغ عدد أهل الصَفَّة هؤلاء [في بعض الأحوال] سبعين رجلاً، كان منهم أبو هريرة الذي لم يكن صحابي أكثر منه حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهؤلاء السبعون يسرهم الله لحفظ كل ما يستطيعون حفظه مما يدخل في موضوع الحديث النبوي لا يفترون عن ذلك أناء الليل وأطراف النهار، وقد استمر الحال بهم على ذلك يومياً، وإذا ارتحل الرسول صلى الله عليه وسلم عن المدينة في غزوة أو حج كانوا معه، وكذلك غيرهم من الصحابة، حتى لم تخف عنهم خافية من أمره، ولم يغب عنهم معنى من معاني رسالته، ولما كان فتح مكة كان معه من أصحابه
حوالي عشرة آلاف، ولما سار إلى تبوك كان في معسكره حوالي ثلاثين ألفاً، ولما حج حجة الوداع حج معه تلك السنة حوالي مائة ألف مسلم، ينطبق عليهم عنوان الصحابة، وما منهم إلا من يحرص على الوقوف على شيء من هداية نبيه صلى الله عليه وسلم أو أي أمر من أموره فيتحدث عنه، بل هو الذي أمرهم أن يبلغوا عنه ما يسمعون منه أو يرون من تصرفاته، فما ظنكم به بعد ذلك هل يخفى عن التاريخ وجه من وجوه حياته أو ناحية من نواحيها.
هذا من جهة أصحابه، وأما أعداؤه فإنهم أفرغوا جهدهم، واستنفدوا سعيهم ليقفوا على دخيلة من دخائله وليؤاخذوه بحقيقة يعلمونها عنه فلم يستطع أحد منهم أن يجد له ناحية ضعف ولا ما يندد به وأقصى ما استطاع أعداؤه في كل زمان ومكان أن يقولوه عنه إنه سلَّ سيفه للقتال وأنه كان كثير الزوجات.
وقد تبين لكم أن حياته الطاهرة هي حياة العصمة من كل نقص، البريئة من كل عيب.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقض حياته كلها بين أحبائه وأصحابه، بل قضى أربعين سنة من عمره في مكة قبل أن يبعث، فكان بين أهلها مشركي قريش، وكان يتعاطى فيهم التجارة، ويعاملهم في أمور الحياة ليل نهار، وهي الحياة اليومية وما تنطوي عليه من أخذ وعطاء، ومن شأنها أن تكشف عن أخلاق للمرء فيتبين للناس فسادها وصلاحها، وهي عيشة طويل طريقها، كثيرة منعطفاتها، وعرة مسالكها، تعترضها وهدات مما قد يصدر عن المرء من خيانة وإخفار عهد وأكل مال بالباطل، وعقبات من الخديعة والخيانة وتطفيف الكيل وبخس الحقوق وإخلاف الوعد.
وإن الرسول صلى الله لعيه وسلم اجتاز هذه السبيل الشائكة الوعرة وخلص منها سالماً نقياً لم يصبه شيء مما يصيب عامة الناس، حتى لقد دعوه (الأمين) وإن قريشاً بعد بعثته وادعائه النبوة كانوا يودعون عنده ودائعهم وأموالهم لعظيم ثقتهم به، وقد علمتم أنه صلى الله عليه وسلم لمَّا هاجر من مكة خلفَ عليها علياً ليردِّ ما كان لديه من الودائع إلى أهلها. فقريش خالفوه أشد الخلاف في دعوته ولم يتركوا سبيلاً إلى ذلك إلا سلكوه، فقاطعوه وعاندوه وصدوا عن
سبيله، وألقوا عليه سلى جزور وهو يصلي، ورموه بالحجارة، وأرادوا قتله، وكادوا له كيدهم، وسموه ساحراً ودعوه شاعراً، وفندوا آراءه وسخفوا حلمه، ولكن لم يجرؤ أحد منهم على أن يقول شيئاً في أخلاقه، ولا أن يرميه بالخيانة، أو ينسب إليه الكذب في القول، أو إخلاف الوعد أو إخفار الذمة أو نقض العهد.
وإن من ادعى النبوة وقال إن الله يوحي إليه فكأنه ادعى العصمة البراءة من جميع المفاسد ومساوئ الأعمال. ألم يكن يكفي قريشاً في ردهم على الرسول أن يذكروا أموراً عمل فيها الرسول بغير الحق، وأن يشهدوا عليه بأنه أخلفهم وعداً أو خانهم في أموالهم أو كذبهم في شيء مما قاله لهم؟ إن قريشاً أنفقوا أموالهم، وبذلوا نفوسهم في عداوة الرسول، وضحوا بفلذات أكبادهم في قتاله حتى قتل منهم وجرح كثيرون، لكنهم لم يستطيعوا أن يُدنسوا ذيله الطاهر ولا أن يصموه بشيء في عظيم أخلاقه. وكانت أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وشئونه وهديه ظاهرة لجميع الناس معلومة لهم، استوى في ذلك أحبابه وأعداؤه ولم يخف عليهم شيء من أمره.
ثم أفاض المؤلف في ذكر الأعجوبة الهائلة أن يقدم شخص للعالم كل ما يحتاجه هذا العالم، بحيث يزيد سعة وشمولاً ويفوق كمالاً - مع السلامة من النقص - على ما تبنيه الأمم خلال عصور، مما لا نجده في ما وصلنا عن أحد غيره، ألا أنها الرسالة والنبوة.
ويختتم محاضرته بقوله:
نحن لا نزال نقدم للناس تلك السيرة الكاملة، التي هي لنا سراج وهاج في جميع شئون الحياة البشرية، فكأن السيرة المحمدية مرآة صافية للدنيا كلها، يرى فيها كل إنسان صورته وروحه، ظاهره وباطنه، قوله وعمله، خلقه وأدبه، هديه وسنته، وفي استطاعته أن يصلح أخلاقه ويثقف عوجه بحسب ما يراه في تلك المرآة الصافية.
لأجل ذلك لا ترى أمة مسلمة تبحث - في خارج دينها وبمنأى عن سيرة نبيها - عن أصول وضوابط تقوم بها اعوجاجها وتثقف منآدها وتصلح زيفها. لأنها في غنى عما هو أجنبي عنها، وعندها في هدي سيرة نبيه صلى الله عليه وسلم الميزان القويم والقسطاس المستقيم، الذي تبين