الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عنه من قلاقل وأحزان، ولو كان الأمر مغامرة فرد بنفسه لقيل: مغامر طياش، فكيف وهو ينطلق في طول البلاد وعرضها، يحمل أهله وولده؟ وكيف وهو بذلك رضي الضمير، وضاء الوجه؟!
إنه الإيمان الذي يزن الجبال ولا يطيش! وإيمان بمن؟ بالله الذي له ما في السماوات والأرض، وله الحمد في الأولى والآخرة، وهو الحكيم الخبير.
هذه الصعاب لا يطيقها إلا مؤمن، أما الهيِّاب الخوَّار القلق، فما يستطيع شيئاً من ذلك، إنه من أولئك الذين قال الله فيهم: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ
…
} (1).
أما الرجال الذين التقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم في مكة، وقبسوا منه أنوار الهدى، تواصوا بالحق والصبر. فإنهم نفروا - خفافاً - ساعة قيل لهم: هاجروا إلى حيث تعزون الإسلام وتؤمنون مستقبله.
* * *
الهجرة من دار الحرب إلى دار السلام:
وقال الأستاذ البوطي:
يستنبط من مشروعية هذه الهجرة حكمان شرعيان:
1 -
وجوب الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، روى القرطبي عن ابن العربي:(أن هذه الهجرة كانت فرضاً في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وهي باقية مفروضة إلى يوم القيامة. والتي انقطعت بالفتح، إنما هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإ بقي في دار الحرب عصى). ومثل دار الحرب في ذلك كل مكان لا يتسنى للمسلم فيه إقامة الشعائر الإسلامية من صلاة وصيام وجماعة وأذان، وغير ذلك من أحكامه الظاهرة.
(1) النساء: 66.
2 -
وجوب نصرة المسلمين لبعضهم، مهما اختلفت ديارهم وبلادهم ما دام ذلك ممكناً. فقد اتفق العلماء والأئمة على أن المسلمين إذا قدروا على استنقاذ المستضعفين أو المأسورين أو المظلومين من إخوانهم المسلمين، في أي جهة من جهات الأرض، ثم لم يفعلوا ذلك، فقد باءوا بإثم كبير.
يقول أبو بكر بن العربي: إذا كان في المسلمين أسراء أو مستضعفون فإن الولاية معهم قائمة، والنصرة لهم واجبة بالبدن، بأن لا تبقى منا عين تطرف، حتى نخرج إلى استنقاذهم إن كا عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم، حتى لا يبقى لأحد درهم من ذلك، أهـ.
أقول: ليست الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام واجبة في كل حال، وإن اشتهر من مذهب الحنفية ذلك كما اشتهر في مذهبهم وجوب الهجرة من دار البدعة إلى دار السنة فالأمر فيه تفصيل.
فإذا كنت في دار كفر لكنك حر آمن تستطيع أن تعبد الله وتدعو إليه ولا تخشى على نفسك وأهلك وذريتك الفتنة، ولم يطلب منك أمير المؤمنين الشرعي الهجرة إلى دار الإسلام، فمقامك حيث أنت أجود وأطيب وأكثر أجراً، بل اعتبر الشافعية أنه يندب لك البقاء لأنه ببقائك يصبح جزء من دار الكفر دار إسلام.
أما حيث يخاف المسلم الفتنة على نفسه وأهله أو ذريته فعندئذ تجب عليه الهجرة إن كان قادراً عليها ووجدت الجهة التي تستقبله ولا يخشى فيها الفتنة على نفسه وأهله وذريته، وفي عصرنا تجد الأمر في غاية التعقيد، فليس الخروج من بلد إلى بلد سهلاً، واحتمال الفتنة قائم
(1) النساء: 97، 98.
في كثير من البلدان، ولذلك فإنني أرى أن حكم الهجرة الآن منوط بالفتوى البصيرة من أهلها، ولا ينبغي أن يكون هناك تسرع فيه.
قال ابن حجر في الفتح بمناسبة تعليل عائشة رضي الله عنها للهجرة بقولها الذي ورد في صحيح البخاري:
(كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه .. إلخ) أشارت عائشة إلى بيان مشروعية الهجرة وأن سببها خوف الفتنة، والحكم يدور مع علته، فمقتضاه أن من قدر على عبادة الله في أي موضع اتفق لم تجب عليه الهجرة منه وإلا وجبت، ومن ثم قال الماوردي: إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلد به دار إسلام، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها لما يترجى من دخول غيره في الإسلام.
وقال الخطابي: كانت الهجرة أي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام مطلوبة، ثم افترضت لما هاجر إلى المدينة إلى حضرته للقتال معه وتعلم شرائع الدين، وقد أكد الله ذلك في عدة آيات حتى قطع الموالاة بين من هاجر ومن لم يهاجر فقال تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} (1) فلما فتحت مكة ودخل الناس في الإسلام من جميع القبائل سقطت الهجرة الواجبة وبقي الاستحباب. وقال البغوي في (شرح السة): يحتمل الجمع بينهما بطريق أخرى بقوله: "لا هجرة بعد الفتح" أي من مكة إلى المدينة، وقوله (لا تنقطع) أي من دار الكفر في حق من أسلم إلى دار الإسلام، قال: ويحتمل وجهاً آخر وهو أن قوله لا هجرة أي: إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان بنية عدم الرجوع إلى الوطن المهاجر منه إلا بإذن، وقوله:(لا تنقطع) أي: هجرة من هاجر على غير هذا الوصف من الأعراب ونحوهم. قلت: الذي يظهر أن المراد بالشق الأول هو النفي ما ذكره في الاحتمال الأخير، وبالشق الآخر المثبت ما ذكره في الاحتمال الذي قبله، وقد أفصح ابن عمر بالمراد فيما أخرجه الإسماعيلي بلفظ (انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار) أي: ما دام في الدنيا دار كفر،
(1) الأنفال: 72.
فالهجرة واجبة منها على من أسلم وخشي أن يفتن عن دينه، ومفهومه: أنه لو قدر أن لا يبقى في الدنيا دار كفر أن الهجرة تنقطع لانقطاع موجبها والله أعلم أهـ.
لماذا اختيرت المدينة:
ولنُرصِّعْ جيد هذه المقدمة بذكر الحِكَم التي اختيرت من أجلها المدينة داراً لهجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنقلها عن الشيخ أبي الحسن الندوي في كتابه (السيرة النبوية):
وكان من حكمة الله تعالى في اختيار المدينة، داراً للهجرة، ومركزاً للدعوة، هذا عدا ما أراده الله من إكراه أهلها، أسرار لا يعلمها إلا الله، أنها امتازت بتحصن طبيعي حربي، لا تزاحمها في ذلك مدينة قريبة في الجزيرة، فكانت حرة الوبرة، مطبقة على المدينة من الناحية الغريبة، وحرة واقم، مطبقة على المدينة من الناحية الشرقية، وكانت المنطقة الشمالية من المدينة، هي الناحية الوحيدة المكشوفة (وهي التي حصنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق سنة خمس في غزوة الأحزاب) وكانت الجهات الأخرى من أطراف المدينة محاطة بأشجار النخيل والزروع الكثيفة، لا يمر منها الجيش إلا في طرق ضيقة لا يتفق فيها النظام العسكري، وترتيب الصفوف.
وكانت خفارات عسكرية صغيرة، كافية بإفساد النظام العسكري ومنعه من التقدم، يقول ابن إسحاق:(كان أحد جانبي المدينة عورة، وسائر جوانبها مشككة بالبنيان والنخيل، لا يتمكن العدو منها).
ولعل النبي صلى الله عليه وسلم قد أشار إلى هذه الحكمة الإلهية في اختيار المدينة بقوله لأصحابه قبل الهجرة: "إني رأيت دار هجرتكم، ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان" فهاجر من هاجر قبل المدينة.
وكان أهل المدينة من الأوس والخزرج أصحاب نخوة وإباء وفروسية وقوة وشكيمة، ألفوا الحرية، ولم يخضعوا لأحد، ولم يدفعوا إلى قبيلة أو حكومة إتاوة أو جباية، وقد جاء ذلك صريحاً في الكلمة التي قالها سعد بن معاذ - سيد الأوس - لرسول الله صلى الله عليه وسلم: قد كن نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا
يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرى أو بيعاً.
يقول ابن خلدون: ولم يزل هذان الحيان قد غلبوا اليهود على يثرب، وكان الاعتزاز والمنعة تعرف لهم في ذلك، ويدخل في ملتهم من جاورهم من قبائل مضر.
وجاء في (العقد الفريد): ومن الأزد الأنصار، وهم الأوس والخزرج وهما ابنا حارثة ابن عمرو بن عامر، وهم أعز الناس أنفساً وأشرفهم همماً، ولم يؤدوا إتاوة قط إلى أحد من الملوك.
وكان بنو عدي بن النجار أخواله، فأم عبد المطلب بن هاشم إحدى نسائهم، فقد تزوج هاشم بسلمى بنت عمرو أحد بني عدي بن النجار، وولدت لهاشم عبد المطلب، وتركه هاشم عندها، حتى صار غلاماً دون المراهقة، فذهب إليه عمه المطلب، فجاء به إلى مكة، وكانت الأرحام يحسب لها حساب كبير في حياة العرب الاجتماعية، ومنهم أبو أيوب الأنصاري الذي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره في المدينة.
وكان الأوس والخزرج من قحطان، والمهاجرون ومن سبق إلى الإسلام في مكة وما حولها من عدنان، ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقام الأنصار بنصره، اجتمعت بذلك عدنان وقحطان تحت لواء الإسلام، وكانوا كجسد واحد، وكانت بينهما مفاضلة ومسابقة في الجاهلية، وبذلك لم يجد الشيطان سبيلاً إلى قلوبهم، لإثارة الفتنة والتعزي بعزاء الجاهلية باسم الحمية القحطانية أو العدنانية.
فكانت لكل ذلك مدينة يثرب أصلح مكان لهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه واتخاذهم لها داراً وقراراً، حتى يقوى الإسلام، ويشق طريقه إلى الأمام، ويفتح الجزيرة ثم يفتح العالم المتمدن. أهـ.
183 -
* روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مكث النب صلى الله عليه وآله وسلم بمكة ثلاث عشرة سنين نبياً، فنزلت عليه:{أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} (1) بفتح الميم، فهاجر.
183 - المستدرك (2/ 243) وقال: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(1)
الإسراء: 80.
184 -
* روى الحاكم عن جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل أوحى إليَّ أي هؤلاء البلاد الثلاث نزلت فهي دارُ هجرتك المدينة أو البحرين أو قنسرين".
185 -
* روى الحاكم عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين: "قد أريتُ دار هجرتكم أريتُ سبخةً ذات نخلٍ بين لابتين" وهما الحرتان.
186 -
* روى البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة، أو هجرُ، فإذا هي المدينة يثربُ، ورأيت في رؤياي هذه: أني هززتُ سيفاً، فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب به المؤمنون يوم أحدٍ، ثم هززته أخرى، فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح، واجتماع المؤمنين، ورأيتُ فيها بقراً والله خيرٌ، فإذا هم المؤمنون يوم أحدٍ، وإذا ما جاء الله به من الخير وثواب الصدق الذي آتانا الله بعد يوم بدرٍ".
إلا أن عند البخاري عن أبي موسى: أراه عن النبي صلى الله عليه وسلم بالشك.
وعند مسلم: عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بغير شك
184 - المستدرك (3/ 2) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
البحرين: هي المنطقة الشرقية من السعودية اليوم بالإضافة إلى الكويت وقطر. قنسيرينك بلد بالشام قريب من حلب.
185 -
المستدرك: (3/ 2) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
سبخة: أرض ذات ملح، لا تكاد تنبت. اللابة: الحرة، والحرة: الأرض ذات الحجارة السود.
186 -
البخاري (6/ 627) 61 - كتاب المناقب - 25 - باب: علامات النبوة في الإسلام.
ومسلم (4/ 1779) 43 - كتاب الرؤيا - 4 - باب رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم.
أهاجر: الهجرة عند العرب: خروج البدوي من البادية إلى المدن، ليقيم بها، يقال: هاجرت إلى مدينة كذا، أي قصدتها للإقامة فيها، والهجرة في الباب الانتقال إلى المدينة. وهلي: يقال: وهل إلى الشيء بالفتح: يهلُ، يوهل: بالكسر، وهلا بالسكون: إذا ذهب وهمه إليه. والله خير: قال النووي 15/ 22: قال القاضي: قال أكثر شراح أ] صنع الله بالمقتولين خير لهم من بقائهم في الدنيا: ثم قال والأولى قول من قال: =
187 -
* روى الحاكم عن قتادة: قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} فأخرجه الله من مكة إلى المدينة مُخرج صدقٍ، وأدخله المدينة مُدخل صدقٍ، قال ونبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قد علم أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان فسأل سلطاناً نصيراً لكتاب الله وحدود الله ولفرائض الله ولإقامة كتاب الله وإن السلطان عزة من الله جعله بين أظهر عباده، ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعض وأكل شديدهم ضعيفهم.
أقول: في كلام قتادة هذا إشارة إلى ضرورة وجود السلطان السياسي للإسلام، وأنه لابد من تلاحم السلطان مع القرآن ليقوم افسلام.
قدوم الهاجرين إلى المدينة:
188 -
* روى الطبراني عن البراء قال: كان أول من قدم علينا من المهاجرين مُصعب بن عمير أخو بني عبد الدار بن قُصي فقلتُ له: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو مكانه وأصحابه على أثري.
أقول: جاء مصعب إلى المدينة عقب العقبة الولى ثم عاد ليقدم تقريره مع أصحاب العقبة الثانية، والنص ههنا يشير إلى عودته إلى المدينة بعد ذلك.
189 -
* روى البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: أول من قدم علينا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مُصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، فجعلا يقرئاننا القرآن، ثم جاء عمار وبلال وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به، حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون: هذا رسول الله قد جاء، فما جاء حتى قرأ:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (1) في سور مثلها.
= والله خير من جملة الرؤيا وكلمة ألقيت إليه وسمعها في الرؤيا، أهـ.
187 -
الحاكم (3/ 3) وسكت عنه الذهبي.
188 -
أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 60) وقال: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح.
189 -
البخاري (8/ 699) - 65 - كتاب التفسير - 87 - سورة سبح اسم ربك الأعلى.
(1)
الأعلى: 1.
190 -
* روى البزار عن عمر بن الخطاب قال: لما اجتمعنا للهجرة اتعدت أنا وعياشُ ابن أبي ربيعة وهشام بن العاص الميضأة ميضأة بني غفار فوق شرفٍ وقلنا: أيكم لم يصبح عندها فقد احتبس فليمضِ صاحباه فحُبس عنا هشام بن العاص فلما قدمنا المدينة نزلا في بني عمرو بن عوف وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما حتى قدما علينا المدينة، فكلماهُ فقالا له: إن أمك نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك فرق لها، فقلت له: يا عياش والله إن يريدك القوم إلا عن دينك فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت (1) ولو قد اشتد عليها حر مكة أحسبه قال لامتشطتْ، قال: إن لي هناك مالاً فآخذه قال قلت: والله إنك لتعلم أني من أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي، ولا تذهب معهما. فأبى إلا يخرج معهما، فقلت له لما أبى علي؛ أما إذ فعلت ما فعلتْ فخذْ ناقة هذه فإنها ناقةٌ ذلولٌ، فألزم ظهرها فإن رابك من القوم ريب فانج عليها فخرج معهما عليها حتى إذا كانوا ببعض الطرق قال أبو جهل بن هشام والله لقد استبطأت بعيري هذا أفلا تحملني على ناقتك هذه؟ قال: بلى، فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عديا عليه، وأوثقاه، ثم أدخلاه مكة وفتناه فافتتنَ، قال: فكنا نقول والله لا يقبل الله ممنْ افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا يقبلُ توبة قومٍ عرفوا الله، ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابه قال وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أُنزل فيهم وفي قولنا لهم وقولهم لأنفسهم:{يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (2) إلى قوله: {وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (3) قال عمر فكتبتها في صحيفةٍ وبعثتُ بها إلى هشام بن العاص قال هشام: فلم أزل أقرؤها بذي طوى أُصعدُ بها فيه حتى فهمتها. قال: فألقي في نفس أنما نزلت فينا وفيما كُنا نقول في أنفسنا وُقال فينا فرجعت فجلستُ على بعيري فلحقتُ برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة.
(1) في الأصل (لامتشطت) ولا يتم المعنى.
190 -
البزار: في كشف الأستار (2/ 302) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 61) وقال رواه البزار ورجاله ثقات.
(2)
الزمر: 53.
(3)
الزمر: 55.
191 -
* روى البخاري عن أبي عثمان النهدي رحمه الله قال: سمعت ابن عمر رض يالله عنهما إذا قيل له هاجر قبل أبيه يغضب. قال: وقدمت أنا وعمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدناه قائلاً، فرجعنا إلى المنزل، فأرسلني عمر وقال: اذهب فانظر هل استيقظ؟ فأتيته فدخلت عليه فبايعته، ثم انطلقت إلى عمر فأخبرته أنه قد استيقظ، فانطلقنا إليه نهرول هرولة حتى دخل عليه فبايعه، ثم بايعته.
192 -
* روى البخار يعن أم العلاء الأنصارية رضي الله عنها قالت: إن عثمان بن مظعون طار له سهمه في السكنى حين أقرعت الأنصار سكن المهاجرين، قالت: فسكن عندنا عثمان بن مظعون، فاشتكى، فمرضناه، حتى إذا توفى وجعلناه في ثيابه - وذكرت لحديث - قالت: فنمت فأريت لعثمان عيناً تجري، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال:"ذلك عمله".
هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم:
193 -
* روى الحاكم عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لجبريل عليه الصلاة والسلام "منْ يهاجر معي؟ " قال: أبو بكرٍ الصديقُ.
194 -
* روى أحمد عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (1) الآية قال: تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق، يريدون النبي صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخرجوه. فأطلع الله نبيه على ذلك فبات عليٍّ على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق
191 - البخاري (7/ 355) - 62 - كتاب مناقب الأنصار - 45 - باب: هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة.
القائل: الذي أقام وقت شدة الحر، إما في مكان أو بيت، لينكسر الحر ويخرج أو يسير.
192 -
البخاري (5/ 293) 52 - كتاب الشهادات - 30 - باب: القرعة في المشكلات.
طار لنا: كذا: أي حصل لنا، وجرى سهمنا أي كان من حصتنا بالقرعة. اشتكى: مرض. فمرضناه: تمريض العليل: معالجته تدبيره في مرضه.
193 -
المستدرك (2/ 5) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد والمتن ولم يخرجاه وقال الذهبي: صحيح غريب.
194 -
أحمد في مسنده (1/ 348) قال الهيثمي (7/ 27): وفيه عثمان بن عمرو الجزري وثقه ابن حبان وضعفه غيره. وبقية رجاله رجال الصحيح. أهـ وقد حسن بعضهم الحديث.
(1)
الأنفال: 30.
بالغار، وبات المشركون يحرسون علياً يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ثاروا عليه فلما رأوا علياً رد الله مكرهم فقالوا: أين صاحبُك هذا؟ قال: لا أدري. فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل خلط عليهم، فصعدوا لجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا: لو دخل ههنا لم يكن نسجُ العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال".
195 -
* روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: شرى عليٍّ نفسهُ، ولبس ثوب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم نام مكانه وكان المشركون يرومون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألبسه بُردةً، وكانت قريش تريد أن تقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجعلوا يرقبون علياً ويرونه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد لبس بردة وجعل علي رضي الله عنه يتضور فإذا هو عليٌّ فقالوا إنك للئيم إنك لتتضور، وكان صاحبك لا يتضورُ ولقد استنكرناهُ منك.
196 -
* روى أحمد والطبراني عن أسماء بنت أبي بكر قالت ملا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج معه أبو بكر احتمل أبو بكر معه مالهُ كله خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف درهم وانطلق بها معه قالت فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره فقال: والله إني لأراهُ قد فجعكم بمله مع نفسه قالت: قلت كلا يا أبت قد ترك لنا خيراً كثيراً قالت فأخذت أحجاراً فتركتها فوضعتها في كوة لبيت كان أبي يضع فيها مالهُ ثم وضعت عليها ثوباً ثم أخذتُ بيده فقلت: يا أبت ضع يدك على هذا المال قالت فوضع يده عليه فقال لا بأس إن كان ترك لكم هذا لقد أحسن، وفي هذا لكم بلاغٌ قالت ولا والله ما ترك لنا شيئاً، ولكن قد أردتُ أن أسَكِّنَ الشيخ بذلك.
197 -
* روى البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: صنعتُ سُفرةً
195 - المستدرك (3/ 4) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
يتضور: أي يتلوى ويتقلب ظهراً لبطن.
196 -
أحمد في مسنده (6/ 350) والطبراني (24/ 88) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 59) وقال: رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع.
الكوة: ثقب في الحائط.
197 -
البخاري (6/ 129) 56 - كتاب الجهاد - 133 - باب: حمل الزاد في الغزو.
للنبي صلى الله عليه وسلم في بيت أبي بكر، حين أراد أن يُهاجر إلى المدينة، فلم نجد لسفرته ولا لسقائه ما نربطهما به، فقلت لأبي بكر: والله ما أجد شيئاً أربط به، إلا نطاقي، قال: فشقيه باثنين، فاربطيه بواحدٍ السقاء، وبالآخر السفرة، ففعلت، فلذلك سُميتُ: ذات النطاقين.
198 -
* روى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أُخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم، ليهلكن فأنزل الله تعالى:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (1) فقال أبو بكر لقد علمت أنه سيكون قتالٌ.
وفي رواية النسائي (2) قال: لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، قال أبو بكرٍ: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون ليهلكن، فنزلت {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ ....} الآية. فعرفت أنه سيكون قتالٌ. قال ابن عباس: هي أول آية نزلت في القتال.
199 -
* روى أبو يعلي عن ابن عباس قال لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قال: "أما والله لأخرج منك، وإني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلي وأكرمه على الله ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت يا بني عبد مناف إن كنتم ولاة هذا الأمر من بعدي فلا تمنعوا طائفاً ببيت الله ساعة ما شاء من ليل ولا نهار ولولا أن تطغى قريش لأخبرتها ما لها عند الله اللهم إنك أذقت أولهُم وبالاً فأذق آخرهم نوالاً".
200 -
* روى البخاري ومسلم عن أبي بكر قال: نظرت إلى أقدام المشركين على رءوسنا ونحن في الغار فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه فقال: "يا أبا
نطاقي: النطاق: شيء تشد به المرأة وسطها، وترفع به ثوبها أن يسال الأرض عند قضاء الأشغال. سِقاء: السقاء: إناء للماء من الجلود كالقربة.
188 -
الترمذي (5/ 325)(48) - كتاب تفسير القرآ، (22) باب "من سورة الحج". قال: هذا حديث حسن.
(1)
الحج: 29.
(2)
النسائي: (6/ 2) كتاب الجهاد - باب وجوب الجهاد. وإسناده صحيح.
199 -
أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 283). وقال: رواه أبو يعلي ورجاله ثقات.
200 -
البخاري (8/ 325) 65 - كتاب التفسير - 9 - باب: ثاني اثنين إذ هما في الغار.
بكر ما ظنُّكَ باثنين الله ثالثهما".
201 -
* روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم أعقِلْ أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار، بُكرةً وعشيةً، فلما ابتُلي المسلمون، خرج أبو بكر مهاجراً نحو أرض الحبشة، حتى بلغ برك الغِماد، لقيه ابن الدُّغنة - وهو سيدُ القارة - فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، فقال ابن الدُّغُنِّة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يُخرج، إنك تكسبُ المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، ارجعْ فاعبدْ ربك ببلدك، فرجع. وارتحل معه ابن الدُّغنة، فطاف ابن الدغنة في أشراف قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا ُخرج، أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟ فلم تُكذب قريش بجوار ابن الدُّغنة.
وفي رواية: فانفذت قريش جوار ابن الدغنة - وآمنوا أبا بكر - وقالوا لابن الدغنة: مُرْ أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليُصَلِّ فيها، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يسْتَعْلِنْ به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في دره، ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لأبي بكر، فابتنى مسجداً بفناء داره، وكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن فيتقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلاً بكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن
= ومسلم (4/ 1854) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 1 - باب فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
201 -
البخاري (7/ 230) 63 - كتاب مناقب الأنصار - 45 - باب: هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
يدينان الدين: مسلمين على دين الإسلام. برك الغماد: بفتح الباء وكسر الغين وفتحها: هو بلد يمان. القارة: بتخفيف الراء قبيلة من كنانة. تكسب المعدوم: تعطي الفقير المعدم مالا وفعل (كسب) متعدٍ. الكل: ما يثقل حمله، من صلات الأرحام، والقيام بالعيال، وقرى الأضياف، ونحو ذلك. نوائب الحق: النوائب: ما ينوب الإنسان من المغارم، وقضاء الحقوق لمن يقصده ويؤمله، فأنا لك جار: أي: حام وناصر ومدافع.
تقصف: الناس عليه: أي: ازدحموا.
الدُّغنة، فقدِمَ عليهم، فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه ف يداره، فقد جاوز ذلك، فابتنى مسجداً بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قدخشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فانههُ، فإن أحب أن يقتصر على أنْ يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يُعلن بذلك، فسلهُ أن يرد ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان، قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر، فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إليِّ ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرتُ في رجل عقدتُ له، فقال له أبو بكر: فإني أردُّ إلأيك جوارك وأرضي بجوار الله - والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة - فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين: "إني أريتُ دار هجرتكم، ذات نخلٍ، بين لابتين" وهما الحرتان - فهاجر منْ هاجر قِبَلَ المدينة، ورجع عامةُ من كان بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهر أبو بكر قِبَلَ المدينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي" فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: نعم، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده من ورق السمُرِ - وهو الخبط - أربعة أشهرٍ.
قال ابن شهاب: قال عروةُ: قالت عائشة: فبينا نحنُ يوماً جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائلٌ لأبي بكرٍ: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن، فأذن لهُ، فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر:"أخرج من عندك" فقال أبو بكر: إنما هم أهلك - بأبي أنت يا رسول الله - قال "فإني قد أُذِنَ لي في الخروج" قال أبو بكر: الصحابة، بأبي أنت يا رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نعم". قال أبو بكر: فخذْ - بأبي أنت يا رسول الله - إحدى راحلتي هاتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بالثمنِ" قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سُفرةً في جرابٍ، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعةً من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاق قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فكمنا فيه
الذمة: العهد والأمان، اخفرت الرجل: إذا نقضت عهده. سبخة: السبخ مالأرض: الموضع الذي لا يكاد ينبت الوحتة. وقلما يوافق إلا النخيل. على رسلك: بكسر الراء: على هينتك. الراحلة: البعير القوي على الأحمال والسير. الظهيرة: أشد الحر. و (نحرها): أوائلها. النطاق: أن تشد المرأة وسطها بحبل أو نحوه، وترفع ثوبها من تحته، =
ثلاث ليالٍ يبيتُ عندهما عبدُ الله بن أبي بكر، وهو غلام شابٌ ثقِفٌ لقِنٌ، فيدلج من عندهما بسَحَر، فيُصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمعُ أمراً يكتادان به إلا وعاهُ، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر ابن فُهيرة - مولى أبي بكر - منحه من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل - وهو لبنُ منحتهما، ورضيفُهما -حتى ينعق بها عامر بن فُهيرة بغلسٍ، يفعلُ ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل - وهو من بني عبد بن عديِّ - هادياً خريتاً - والخريتُ: الماهر بالهداية - قد غمس حلفاً في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كُفار قريش، فأمناهُ، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليالٍ براحلتيهما، وانطلق معهما ابن فهيرة، والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل" وفي رواية "طريق الساحل".
قال ابن شهاب (1) وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي - وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم -أن أباه أخبره: أنه سمع سراقة بن جعشم يقول: جاءنا رُسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دية كل واحدٍ منهما من قتله أو أسره، فبينا أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مُدلج، إذ أقبل رجل منهم، حتى قام علينا ونحن جلوسٌ، فقال: يا سراقة، إني قد رأيت آنفاً أسوِدة بالساحل، أراها محمداً وأصحابه، قال سراقة: فعرفتُ أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلاناً وفلاناً انطلقوا بأعيننا، ثم لبثتُ في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلتُ، فأمرتُ جاريتي أنْ
= فتعطف طرفاً من أعلاه على أسفله، لئلا ينال الأرض.
ثقف: ثقف الرجل ثقافة، أي: صار حاذقاً خفيفاً، فهو ثقف، مقال ضخم، فهو ضخم. لقن: اللقنُ: سريع الفهم. أدلج: يدلج: إذا سار من أول الليل، وادلج يدلج - بتشديد الدال - إذا سار من آخره. كدتُ: الرجل أكيده: إذا طلبت له الغوائل ومكرت به، منحة: الأصل في المنحة: أن يجعل الرجل لين ناقته أو شاته لآخر وقتا ما، ثم يقع ذلك في ل ما يرزقه المرء ويعطاه. فيريحها: الرُواح: ذهاب العشي، وهو من زوال الشمس إلى الليل، في رسل: الرسل، بكسر الراء وسكون السين: اللبن. الرضيف: اللبن المرصوف، وهو الذي جعل فيه الرصفة، وهي الحجارة المحياة، تعق الراعي بالغنم: أصل النعيق للغنم، يقال: نعق الراعي بالغنم: إذا دعاها لترجع إليه، بغلس: الغلس: ظلام آخر الليل. غمس: فلان حلفا في آل فلان، أي: أخذ بنصيب من عقدهم وحلفهم، والحلف: التحالف.
(1)
في البخاري (7/ 238) 63 - كتاب مناقب الأنصار - 45 - باب: هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة.
أسودة: جمع سواد، وهو الشخص، الأكمة: الرابية المرتفعة عن الأرض من جميع جوانبها.
تخرج بفرسي وهي من وراء أكمةٍ، فتحبسها عليَّ، وأخذت رُمحي، فخرجت به من ظهر البيت، فخططت بزّجَّه الأرض، وخفضت عاليهُ، حتى أتيت فرسي فركبتها، فرفعتها تُقرب بي، حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي، فخررتُ عنها، فقمت فأهويت بيدي إلى كنانتي فاستخرجتُ منها الأزلام، فاستقسمت بها: أضرهم، أم لا؟ فخرج الذي أكره، فركبت فرسي - وعصيتُ الأزلام - تُقرِّبُ بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفتُ، وأبو بكر يُكثر الالتفات: ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عْثَان ساطعٌ في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي - حين لقيتما لقيت من الحبس عنهم - أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية - وأخبرتهم أخبار ماي ريد الناس بهم - وعرضتُ عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني إلا أن قال:"أخفِ عنا"، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة، فكتب لي في رقعة من أدم، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن شهابٍ: "فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين تُجاراً قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياضٍ، وسمع المسلمون بالمدينة مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه، حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوماً بعدما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطُمٍ من آطامهم لأمرٍ ينظر إليه، فبصُر برسول الله
= الرُبَ: الفرس يقرب تقريباً، إذا غدا عدواً دون الإسراع، وله تقريبان أدنى وأعلى. الكنانة: كيس من جلد تجعل فيها السهام، وهي الجعبة. الأزلام: القداح، واحدها: زُلم، وزَلم - بفتح الزاي وصمها، وفتح اللام فيهما - و (القِدْحُ): السهم الذي لا تصل له ولا ريش، وكان لهم في الجاهلية هذه الأزلام، مكتوب عليها الأمر والنهي، وكان الرجل منهم يضعها في كنانته أو في وعائه، ثمي خرج منها عند عزيمته على أمر ما اتفق له من غير قصد، فإن خرج الآمر مضى على عزمه، وإن خرج الناهي انصرف. الاستقسام: أصل الاستقسام: طلب ما قسم الله له من الأقسام. و (القسم): النصيب المغيب عنه عند طلبه، وذلك محمود إذا طلب من جهته سبحانه، وكان أهل الجاهلية يطلبون ما غيب عنهم من ذلك من جهة الأزلام، فما دلتهم عليه فعلوه. ساخت: قوائم الدابة في الأرض: غاصت فيها. عثان: العُثان: الغبار، وأصله الدخان، وجمعه عواثن، على غير قياس. الساطع: المرتفع في الجو منتشراً، ما رزأت فلاناً شيئاً: أي: ما أصبت منه شيئاً، والمراد: أنهما لم يأخذا منه شيئاً. قافلين: القافل: الراجع من سفره.
صلى الله عليه وسلم وأصحابه مُبيضين، يزولُ بهم السرابُ، فلم يملك اليهوديُّ أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون، قال: فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين، حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوفٍ، وذلك يوم الإثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتاً، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناسُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك، فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوفٍ بضع عشرة ليلةً، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى، وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ركب راحلتهُ، فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يُصلي فيه يومئذٍ رجال من المسلمين، وكان مريداً للتمر، لسهل وسُهيل - غلامين يتيمين ف يحجر أسعد بن زُرارة - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت راحلته "هذا إن شاء الله المنزلُ" ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين، فساومهما بالمربد ليتخذه مسجداً، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبلهُ منهما هبة حتى ابتاعه منهما ثم بناه مسجداً، وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللَّبِنَ في بُنيانه، ويوقل وهو ينقل اللبن:
هذا الحِمَالُ لا حِمالُ خيبر
…
هذا أبرُّ ربنا وأطهر
ويقول:
اللهم إن الأجر أجرُ الآخره
…
فارجمِ الأنصارَ والمهاجره
فتمثل بشعرِ رجلٍ من المهاجرين، لم يُسم لي.
قال ابن شهابٍ: ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيتِ شعرٍ تام غير هذه الأبيات
مبيضين: بكسر الياء، أي: هم ذوو ثياب بيض، ومنه السود بكسر الواو للابس السواد، ولذلك قيل لأصحاب الدعوة العباسية: المسودة. يزول بهم: زال بهم السراب، أي: ظهرت حركتهم فيه للعين، جدكم: حظكم. المربد: المكان الذي يوضع فيه التمر. الحِمال: بكسر الحاء: من الحمل، والذي يحمل من خيبر هو التمر، ولعله عني: أن هذا في الآخرة أفضل من ذلك ثواباً وأحسن عاقبة.