الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يسمى بالسياسة الشرعية أو ما يسميه بعضهم بـ (حكم الإمامة). وبيان ذلك أن مشروعية فرض الجهاد من حيث الأصل، حكم تبليغي لا يخضع لأي نسخ أو تبديل، كما أن أصل مشروعية الصلح والمعاهدات ثابت لا يجوز إبطاله أو اجتثاثه من أحكام الشريعة الإسلامية، غير أن جزئيات الصور التطبيقية المختلفة لذلك، تخضع لظروف الزمان والمكان وحالة المسلمين وحالة أعدائهم، والميزان لحكم في ذلك إنما هو بصيرة الإمام المتدين العادل وسياسة الحاكم المتبحر في أحكام الدين مع إخلاص في الدين وتجرد في القصد، إلى جانب اعتماد دائم على مشاورة المسلمين والاستفادة من خبراتهم وآرائهم المختلفة.
فإذا رأى الحاكم أن من الخير للمسلمين أن لا يجابهوا أعداءهم بالحرب والقوة، وتثبت من صلاحية رأيه بالتشاور والمذاكرة في ذلك، فله أن يجنح إلى سلم معهم لا يصادم نصاً من النصوص الشرعية الثابتة، ريثما يأتي الظرف المناسب والملائم للقتال والجهاد، وله أن يحمل رعيته على القتال والدفع إذا ما رأى المصلحة والسياسة الشرعية السليمة في ذلك الجانب.
وهذا ما اتفق عليه عامة الفقهاء ودلت عليه مشاهد كثيرة من سيرته صلى الله عليه وسلم اللهم إلا إذا داهم العدو المسلمين في عقر دورهم وبلادهم، فإن عليهم دفعه بالقوة مهما كانت الوسيلة والظروف، ويعم الواجب في ذلك المسلمين والمسلمات كافة بشرط توفر مقومات التكليف أهـ.
* * *
8 - في أعقاب بدر
356 -
* روى الحاكم عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب، وكنت قد أسلمت وأسلمت أم الفضل وأسلم العباس وكا يكتم إسلامه مخافة قومه، وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر وبعث مكانه العاص بن هشام وكان له عليه دين فقال له: اكفني هذا الغزو وأتركُ لك ما عليك، ففعل فلما جاء الخبرُ
356 - المستدرك (3/ 321)، كتاب معرفة اصحابة، وسكت عنه الذهبي، وفي أحد رواته خلاف فالرواية حسنة على رأي بعضهم.
اكفني: كفاء الشيء كفاية: استغني به عن غيره فهو كاف، وكفيء.
وكبت الله أبا لهب وكنتُ رجلاً ضعيفاً أنحتُ هذه الأقداح في حُجرة فوالله إني لجالس في الحجرة أنحتُ أقداحي وعندي أم الفضل إذ أقبل الفاسق أبو لهبٍ يجر رجليه أراه قال عند طُنب الحجرة وكان ظهرهُ إلى ظهري فقال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث فقال أبو لهب: هلم إلى يا ابن أخي فجاء أبو سفيان حتى جلس عندهُ فجاء الناس فقاموا عليهما فقال: يا ابن أخي كيف كان أمر الناس فقال لا شيء فوالله إن لقيناهم فمنناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا ويأسروننا كيف شاءوا وأيم الله ما لمت الناس قال: ولم؟ قال: رأيت رجالاً بيضاً على خيل بُلقٍ لا والله ما تليق شيئا ولا يقوم لها شيء قال فرفعت طُنب الحجرة فقلت: والله تلك الملائكة، فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي وثاورتُه فاحتملني فضرب بي الأرض حتى برك على صدري فقامت أم الفضل فاحتجزت ورفعت عموداً من عمدُ الحجرة فضربته به فلعت في رأسه شجة منكرة وقالت: يا عدو الله استضعفته إن رأيت سيدهُ غائباً عنه فقام ذليلاً فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى ضربه الله بالعدسة فقتلته فلقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثة ما يدفنانه حتى أنتن، فقال رجل من قريش لابنيه: ألا تستحيان أن أباكما قد أنتن في بيته فقالا: إنا نخشى هذه القرحة، وكانت قريش تتقي العدسة كما تتقي الطاعو فقال رجال: انطلقا فأنا معكما قال: فوالله ما غسلوهْ إلا قذفاً بالماء عليه من بعيد ثم احتملوه فقذفوه في أعلى مكة إلى جدار وقذفوا عليه الحجارة.
قال الشيخ الغزالي: شُدة العرب قاطبة للنصر الحاسم الذي ناله المسلمون في بدر، بل إن
= كبت: المكبوت: الممتلئ غماً.
كبته: يكبته: صرعه وأخزاه وضربه وكسره ورد العدو بقيظه.
الأقداح: القدح: السهم قبل أن يراش وينصل، ونحثها: يربها، وتأتي القدح بمعنى: السهم الذي كانوا يستقسمون به في الجاهلية.
الطنب: حبل طويل يشد به سرادق البيت أو الوتد.
بلق: جمع أبلق، بلق الفرس ونحوه بلقا وبلقة كان فيه سواد وبياض فهو أبلق وهي بلقاء.
وثاورته: ثاوره مثاورة وثوارا: واثبه.
فلعت: شفت.
العدسة: بثرة تخرج بالبدن فتقتل، ربما الجدري.
أنتن: نتن نتناً: خبثت رائحته، فهو نتن.
أهل مكة استنكروا الحبر أول ما جاءهم، وحسبوه هذيان مجنون، فلما استبان صدقه صُعق نفر منهم فهلك لتوه، وماج بعضهم في بعض من هول المصاب لا يدري ما يفعل ..
وكما استبعد أهل مكة الهزيمة على أنفسهم حتى جوبهوا بعارها، استبعد مشركو المدينة ويهودها ما قرع آذانهم من بشريات الفوز، وذهب بعضهم إلى حد اتهام المسلمين بأن ما يذاع عن نصرهم محض اختلاق، وظلوا يكابرون حتى رأوا الأسرى مقرنين في الأصفاد، فسقط في أيديهم.
وقد اختلفت مسالك الأحزاب الكافرة بإزاء المسلمين بعد هذا الغلب الذي مكن للإسلام وأهله، وجعل سلطانهم مهيباً في المدينة وما حولها، ومد نفوذهم على طريق القوافل في شمال الجزيرة، فأصبح لا يمر بها أحد إلا بإذنهم.
فأما أهل مكة فقد انطووا على أنفسهم، يداوون جراحهم، ويستعيدون قواهم ويستعدون لنيل ثأرهم، ويعلنون أن يوم الانتقام قريب، ولم تزدهم الهزيمة إلا كرهاً للإسلام، ونقمة على محمد وصحبه، واضطهاداً لمن يدخل في دينه، فكان من ينشرح صدره للإسلام يختفي به أو يعيش ذليلاً مستضعفاً، ذلك في مكة، حيث كانت الدولة للكفر.
أما في المدينة حيث المسلمون كثرة مكينة ظاهرة، فقد اتخذت العداوة للإسلام طريق الدس والنفاق والمخاتلة، فأسلم فريق من المشركين واليهود ظاهراً وقلوبهم تغلي حقداً وكفراً، وعلى رأس هؤلاء عبد الله بن أبي.
روى أسامة بن زيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب - كما أمرهم الله تعالى - ويصبرون على الأذى:
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو الذي أمره الله به - حتى أذن فيهم فلما غزا بدراً، وقتل
(1) البقرة: 109.
الله فيها من قتل من صناديد قريش، وقفل رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه منصورين غانمين معهم أساراهم. قال "عبد الله بن أبي" ومن معه من المشركين عبدة الأوثان هذا أمر قد توجه (أي استقر فلا مطمع في إزالته) فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأسلموا ..
على أن هذا الخداع لاذ به فريق من الكفار في الوقت الذي عالن فيه فريق آخر من اليهود بسخطهم على محمد، وألمهم للهزيمة التي أصابت قريشاً في "بدر" بل إن كعب بن الأشرف - من رجالات اليهود - أرسل القصائد في رثاء قتلاهم والمطالبة بثأرهم.!
ولقد اتسعت شقة العداوة بين المسلمين واليهود إثر هذا الموقف النابي.
ثم حاول اليهود أن يحقروا من شأن النصر الذي حظي به الإسلام، مما مهد للأحداث العنيفة التي وقعت بعد، ودفع اليهود ثمنها من دمهم، أفراداً وجماعات.
وعلق الدكتور السباعي على غزوة بدر فقال رحمه الله: إن النصر في المعارك لا يكون فقط بكثرة العدد، ووفرة السلاح، وإنما يكون بقوة الروح المعنوية لدى الجيش. وقد كان الجيش الإسلامي في هذه المعارك يمثل العقيدة النقية والإيمان المتقد، والفرح بالاستشهاد، والرغبة في ثواب الله وجنته، كما يمثل الفرحة من الانعتاق من الضلال، والفرقة، والفساد، بينما كان جيش المشركين يمثل فساد العقيدة، وتفسخ الأخلاق، وتفكك الروابط الاجتماعية، والانغماس في الملذات، والعصبية العمياء للتقاليد البالية، والآباء الماضين، والآلهة المزيفة.
انظر إلى ما كان يفعله الجيشان قبل بدء القتال، فقد حرص المشركون قبل بدء معركة بدر على أن يقيموا ثلاثة أيام، يشربون فيها الخمور، وتغني لهم القيان، وتضرب لهم الدفوف، وتشعل عندهم النيران لتسمع العرب بما فعلوا فتهابهم، وكانوا يظنون ذلك سبيلاً إلى النصر، بينما كان المسلمون قبل بدء المعركة يتجهون إلى الله بقلوبهم، يسألنه النصر، ويرجونه الشهادة، ويشمون روائح الجنة، ويخر الرسول صلى الله عليه وسلم ساجداً مبتهلاً يسأل الله أن ينصر عباده المؤمنين، وكانت النتيجة أن انتصر الأتقياء الخاشعون، وانزم اللاهون العابثون.
والذي يقارن بين أرقام المسلمين المحاربين، وبين أرقام المشركين المحاربين في كل معركة. يجد أن المشركين أكثر من المسلمين أضعافاً مضاعفة. ومع ذلك فقد كان النصر للمسلمين، حتى في معركتي أُحد وحنين حيث انتصر فيهما المسلمون، ولولا ما وقع من أخطاء المسلمين في هاتين المعركتين ومخالفتهم لأمر رسول الله صلى الله لعيه وسلم، لما لقي المسلمون هزيمة قط.
- إن شدة عزائم الجيش واندفاعه في خوض المعركة، وفرحه بلقاء عدوه يزيد القائد إقداماً في تفنيذ خطته، وثقته بالنجاح والنصر، كما حدث في معركة بدر.
- إن على القائد ألا يكره جيشه على القتال، وخوض المعارك إذا كانوا غير راغبين ومتحمسين حتى يتأكد من رضاهم وتحمسهم، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم من استشارة أصحابه يوم بدر قبل خوض المعركة.
- إن احتياط الجنود لياة قائدهم أمر تحتمه الرغبة في نجاح المعركة والدعوة، وعلى القائد أن يقبل ذلك، لأن في حياته حياة الدعوةن وفي فواتها خسارة المعركة.
وقد رأينا في معركة بدر كيف رضي صلى الله عليه وسلم بناء العريش له، ورأينا في بقية المعارك:"أحد" و"حنينط، كيف كان المؤمنون الصادقون والمؤمنات الصادقات يلتفون جميعاً حول رسولهم، ويحمونه من سهام الأعداء، بتعريض أنفسهم لها، ولم يعرف عنه صلى الله عليه وسلم أنه أنكر ذلك مع شجاعته وتأييد الله له، بل أثنى على هؤلاء الملتفين حوله، كما رأينا في ثنائه على نسبية أم عمارة، ودعائه لها بأن تكون هي وزوجها وأولادها رفقاءه في الجنة.
إن الله تبارك وتعالى يحيط عباده المؤمنين الصادقين في معاركهم بجيش من عنده، كما أنزل الملائكة يوم بدر، وأرسل الريح يوم الأحزاب. وما دام هؤلاء المؤمنون يحاربون في سبيله، فكيف يتخلى عنهم وهو الذي قال:{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (1).
(1) الروم: 47.
وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (1).
إن من طبيعة الداعية الصادق أن يحرص على هداية أعدائه، وأن يفسح لهم المجال لعل الله يلقي في قلوبهم الهداية، ومن هنا نفهم سر ميل الرسول إلى فداء الأسرى يوم بدر، فقد كان يرجو أن يهديهم اللهم، وأن تكون لهم ذرية من بعدهم تعبد الله وتدعو إليه، وإذا كان القرآن الكريم قد عاتب الرسول على ذلك، فلأن ناك مصلحة أخرى للإسلام يومئذ، وهو إرهاب أعداء الله والقضاء على رؤوس الفتنة والضلالة، ولو قتل الأسرى يوم بدر لضعفت مقاومة قريش للقضاء على زعمائها ومؤججي نار الفتنة ضد المؤمنين.
ويلوح لي سر آخر في قبول الرسول أمر الفداء، وهو أن العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم كان من بين الأسرى، وللعباس مواقف في نصرة الرسول قبل إعلان إسلامه، فقد شهد معه بيعة العقبة الثانية سراً، وكان يخبر الرسول عن كل تحركات قريش، مما يؤكد عندي أنه كان مسلماً يكتم إسلامه، فكيف يقتله الرسول وهذا شأنه معه؟ ولو استثناه الرسول من بين الأسرى لخالف شرعه في تحريم قتل المسلم إن كان العباس مسلماً. وإن كان مشركاً، فشريعته لا تفرق بين قريب وبعيد في الوقوف موقف الحزم والعداء من كل من يحارب الله ورسوله، ولاغتنمها المشركون والمنافقون فرصة للتشهير به، ولإضعاف الثقة بعدالته وتجرده عن الهوى في كل ما يصدر عنه، وليس ذلك من مصلحة الدعوة في شيء.
فوائد م كتاب غزوة بدر للدكتور محمد أبو فارس
ومما قاله الدكتور أبو فارس حول دروس بدر الكبرى:
- أهمية الشورى في الإسلام وفي مجال الحرب خصوصاً، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم الموحي إليه من ربه يستشير أصحابه في القتال وغيره، أفلا تكون الشورى في حق غيره آكد وأوجب.
- ضرورة تعرف القائد على مدى رغبة الجنود في القتال وهذا ما فعله رسول الله صلى الله عيه وسلم في مشاورة أصحابه، إذ إن المكره على القتال لا يمكن أن يقدم نتيجة إيجابية.
(1) الحج: 38.