الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان بيِّنَ أهل هذه الصحيفة من حدثٍ أو اشتجارٍ يُخافُ فسادُهُ، فإن مردهُ إلى الله وإلى محمدٍ رسول الله، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرهُ، وإنه لا تُجارُ قريش ولا من نصرها وإن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دُعُوا إلى صُلح يُصالحونَهُ ويلبسونَهُ فإنهم يصالحونه ويلبسونه وإنهُم إذا دعُوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدين على كل أناسٍ حصتُهم من جانبهم الذي قِبَلهم، وإنه لا يحُول هذا الكتاب دون ظالم أو آثمٍ، وإنهُ من خرج آمنٌ، ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم أو أثم، إن الله جار لمن بر واتقى". كذا أورده ابن إسحاق بنحوه.
دروس من الصحيفة:
1 -
هذه الوثيقة ضبطت العلاقة بين أبناء المجتمع المدني جميعهم مؤمنهم ومشركهم ويهوديهم، ومن هنا نأخذ أن على الحركة الإسلامية حيثما وجدت أن تفكر في الصيغة الدستورية التي تحكم العلاقات بين المسلمين وبين غيرهم، والأمر في هذا الموضوع يختلف من وضع لوضع ومن قطر لقطر ومن ضعف لقوة، ومن كثرة لقلة، ومن استخلاف لسعي نحو الاستخلاف، والفتوى والشورى والمصلحة هي ضوابط هذا الأمر.
2 -
من تعبيرات هذه الوثيقة (وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم) هذا التعبير يفيد في المصطلحات الحالية أن كل المواطنين شعب واحد، وف هذا أبلغ رد على بعض المتشنجين الذين تتسع دائرة المحرمات عندهم حتى تصل إلى كل شيء.
3 -
إن على الحركة الإسلامية المعاصرة أن تأتي الناس من حيث يعرفون بما لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً ولا يناقض نصاً ولا فتوى ولا شورى، فتلك هي مصلحة الإسلام والمسلمين في عصرنا، وليس العكس كما يحلو لبعضهم أن يصور، فليس مطلوباً منا أن
لاتجار حرمة إلا بإذن أهلها: ليس لأحد أن يجير ذات حرمة لغيره إلا بإذن أهلها.
على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قِبلهُمْ: على كل قوم أن يدافعوا عن المدينة من جهتهم إذا دوهمت.
نصارع كل شيء ولا أن نغيّر كل شيء والقدر الذي يجب ان نغيره لسنا مطالبين بتغيره طفرة واحدة، فهناك قضايا للإسلام فيها أكثر من حكم على حسب الضعف والقوة، وهناك رخصة وعزيمة، وأحكام أصلية استثنائية، وأنت مطالب بالممكن والمستطاع، على حسب المرحلة والقدرة، والفتوى والشورى من أهلهما هما اللذان يضبطان السير.
4 -
إن فقه التحالفات وفقه الجهاد يشكلان الأساسين النظريين لاندفاعة الحركة الإسلامية فما لم تدرك الجماعة الإسلامية دقائق هذا الفقه فإن حركتها تكون تكون قاصرة أو عاجزة أو مبتورة.
5 -
علق الدكتور السباعي حول الوثيقة فقال: وفي الكتاب الذي عقد فيه الرسول الأخوة بين المهاجرين والأنصار، والتعاون بين المسلمين وغيرهم جملة من الأدلة التي لا ترد على أن أساس الدولة الإسلامية قائم على العدالة الاجتماعية، وأن أساس العلائق بين المسلمين وغيرهم - من مواطني الدولة الإسلامية - هو السلم ما سالموا، وأن مبدأ الحق والعدل والتعاون على البر والتقوى والعمل لخير الناس، ودفع أذى الأشرار عن المجتمع، هو أبرز الشعارات التي تنادي بها دولة الإسلام، وبذلك تكون الدولة الإسلامية أينما قامت، وفي أي عصر نشأت قائمة على أقوم المبادئ وأعدلها، وهي تنطبق اليوم على أكرم المبادئ التي تقوم عليها الدول، وتعيش في ظلاه الشعوب، وإن العمل في عصرنا هذا لإقامة دول في مجتمعنا الإسلامي ترتكز قواعدها على مبادئ لإسلام عمل يتفق مع تطور الفكر الإنساني في مفهوم الدولة، عدا أنه يحقق للمسلمين بناء منجتمع من أقوى المجتمعات وأكملها وأسعدها وأرقاها.
وأياً ما كان فإن من مصلحتنا أن تبني الدولة عندنا على أساس الإسلام، وفي ترك ذلك خرابنا ودمارنا، والإسلام لا يؤذي غير المسلمين في الوطن الإسلامي، ولا يضطهد عقائدهم، ولا ينتقص من حقوقهم، ففيم الخوف من إلزام الدول في البلاد الإسلامية بتنفيذ شرائع الإسلام وإقامة أحكامه وهي كلها عدل وحق وقوة وإخاء وتكافل اجتماعي شامل على أساس من الإخاء والحب والتعاون الكريم؟ إننا لن نخلص من الاستعمار، إلا بالمناداة
بالإسلام، وفي سبيل ذلك فليعمل العاملون {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (1){وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (2){وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (3){وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (4){وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} (5).
6 -
ومن تعليقات الدكتور سعيد رمضان البوطي على هذه الوثيقة ننقل ما يلي:
إن كلمة (الدستور) هي أقرب إطلاق مناسب في اصطلاح العصر الحديث، على هذه الوثيقة، وهي إذا كانت بمثابة إعلان دستور فإنه شمل جميع ما يمكن أن يعالجه أي دستور حديث يعني بوضع الخطوط الكلية الواضحة لنظام الدولة في الداخل والخارجك أي فيما يتعلق بعلاقة أفراد الدولة مع بعض، وفيما يتعلق بعلاقة الدولة مع الآخرين.
وحسبنا هذا الدستور الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بوحي من ربه واستكتبه أصحابه، ثمن جعله الأساس المتفق عليه فيما بين المسلمين وجيرانهم اليهود - حسبنا ذلك دليلاً على أن المجتمع الإسلامي قام منذ أول نشأته على أسس دستورية تامة، وأن الدولة الإسلامية قامت - منذ أول بزوغ فجرها - على أتم ما قد تحتاجه الدولة من المقومات الدستورية والإدارية.
ومن هنا تسقط دعاوى أولئك الذين يغمضون أبصارهم وبصائرهم عن هذه الحقيقة البديهية، ثم يزعمون أن الإسلام ليس إلا ديناً قوامه ما بين الإنسان وربه، وليس له من مقومات الدولة والتنظيم الدستوري شيء، وهي أحبولة عتيقة، كاني قصد منها محترفو الغزو الفكري وأرقاء الاستعمار، أن يقيدوا بها الإسلام كي لا ينطلق فيعمل عمله في المجتمعات
(1) الأعراف: 96.
(2)
الأنعام: 153.
(3)
الطلاق: 2.
(4)
الطلاق: 4.
(5)
الطلاق: 5.
الإسلامية، ولا يصبح له شأن قد يتغلب به على المجتمعات المنحرفة الأخرى، إذ الوسيلة إلى ذلك محصورة في أن يكون الإسلام ديناً لا دولة، وعبادات مجردة، لا تشريعاً وقوانين. وحتى لو كان الإسلام ديناً ودولة في الواقع، فينبغي أن يتقلب فيصبح غير صالح لذلك، ولو بأكاذيب القول.
إن هذه الوثيقة تدل على مدى العدالة التي اتسمت بها معاملة النبي صلى الله عيه وسلم لليهود، ولقد كان بالإمكان أن تؤتي هذه المسألة العادلة ثمارها فيما بين المسلمين واليهود، لو لم تتغلب على اليهود طبيعتهم من حب للمنكر والغدر والخديعة، فما هي إلا فترة وجيزة حتى ضاقوا ذرعاً بما تضمنته بنود هذه الوثيقة التي التزموا بها، فخرجوا على الرسول والمسلمين بألوان من الغدر والخيانة.
وقد دلت هذه الوثيقة على أحكام هامة في الشريعة الإسلامية نذكر منها ما يلي:
- يدلنا البند الأول منها على أن الإسلام هو وحده الذي يؤلف وحدة المسلمين وهو وحده الذي يجعل منهم أمة واحدة، وعلى أن جميع الفوارق والمميزات فيما بينهم تذوب وتضمحل ضمن نطاق هذه الوحدة الشاملة، تفهم هذا جلياً واضحاً من قوله عليه الصلاة والسلام "المسلمون من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أمة واحدة من دون الناس".
- إنها تدل على مدى الدقة في المساواة بين المسلمين لا من حيث إنها شعار براق للدعاية والعرض، بل من حيث إنها ركن من الأركان الشرعية الهامة للمجتمع الإسلامي، يجب تطبيقه بأدق وجه وأتم صورة.
- كما تدل أيضاً على أن الحكم العدل الذي لا ينبغي للمسلمين أن يهرعوا إلى غيره، في سائر خصوماتهم وخلافاتهم وشؤونهم إنما هو شريعة الله تعالى وحكمه، وهو ما تضمنه كتاب الله تعالى وسنة رسوله، ومهما بحثوا عن الحلول لمشاكلهم في غير هذا المصدر فهم آثمون، معرضون أنفسهم للشقاء في الدنيا وعذاب الله تعالى في الآخرة.
* * *