المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل: في بداية دخول الإسلام المدينة المنورةوفي بيعتي العقبة - الأساس في السنة وفقهها - السيرة النبوية - جـ ١

[سعيد حوى]

فهرس الكتاب

- ‌مُقَدِّمَةُ النَّاشِر

- ‌مقدمةالأساس في السنة وفقهها

- ‌أولاً: تعريف بهذا الكتاب

- ‌تمهيد

- ‌ضخامة المكتبة الحديثية:

- ‌منهج تأليف هذا الكتاب

- ‌أقسام الكتاب

- ‌ثانياً: تعريف بأصول هذا الكتاب ومصنفيها

- ‌1 - الإمام البخاري وصحيحه

- ‌الجامع الصحيح

- ‌الحامل له على تأليف الصحيح:

- ‌منهج البخاري في جمع الصحيح:

- ‌براعة البخاري في النقد:

- ‌شروط البخاري في التصحيح في القمة:

- ‌2 - الإمام مسلم وصحيحه

- ‌صحيح الإمام مسلم

- ‌سماحة الإمام في البحث:

- ‌منهج مسلم في صحيحه:

- ‌خصائص صحيح مسلم:

- ‌3 - الإمام أبو داود وسننه

- ‌4 - الإمام الترمذي وسننه

- ‌5 - الإمام النسائي وسننه

- ‌6 - ابن ماجه وسننه

- ‌7 - الدارمي وسننه

- ‌شيوخه:

- ‌من روى عنه:

- ‌ثناء الأئمة عليه:

- ‌مرتبة هذه السنن عند المحدثين:

- ‌8 - الإمام مالك وموطؤه

- ‌9 - الإمام أحمد ومسنده

- ‌10 - 11 - 12 - معاجم الطبراني الثلاثة

- ‌13 - ابن حبان وصحيحه

- ‌14 - ابن خزيمة وصحيحه

- ‌15 - أبو يعلي ومسنده

- ‌16 - أبو بكر البزار ومسنده

- ‌17 - الحاكم ومستدركه

- ‌18 - رزين وابن الأثير وابن الديبع الشيبانيوالأصول الستة

- ‌19 - نور الدين الهيثمي ومجمع الزوائد

- ‌20 - محمد بن محمد بن سليمان المغربيوكتابه جمع الفوائد

- ‌المقدمة

- ‌تصحيح مفاهيم حول السيرة:

- ‌(1)حاجة البشرية إلى الدين

- ‌(2)محمد الرسول الأكمل صلى الله عليه وسلم

- ‌(3)شرط التاريخية

- ‌(4)شرط الكمال المطلق

- ‌(5)شرط الشمولية

- ‌(6)واقعية السيرة المحمدية

- ‌(7)عالمية السيرة المحمدية

- ‌(8)حقية الرسالة المحمدية وأياديها على البشرية

- ‌الباب الأولمنسيرته صلى الله عليه وسلموهومن البدء حتى النبوة الشريفة

- ‌هذه المرحلة في سطور

- ‌فَصْلٌ: في فضل النَّسَبِ وفي فضل الجيل

- ‌نسب الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌اصطفاء نبينا من خير بني آدم ومن خير الأجيال

- ‌تزكية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وللصحابة

- ‌فائدة:

- ‌[هاجر] جدة رسولنا - عليهما الصلاة والسلام

- ‌تعليق حول صدق إبراهيم عليه السلام

- ‌قصة إسماعيل الذبيح عليه السلام وبناء البيت

- ‌فائدة في التعريف بالقبائل العربية

- ‌فصل: في بعض البشارات بنبينا صلى الله عليه وسلم

- ‌بشارات في الكتب السابقة:

- ‌تعليق:

- ‌في قصة بحيرا شاهد على أنه عليه الصلاة والسلام مبشر به:

- ‌فائدة حول موضوع الكشف للأولياء:

- ‌فصل: في الميلاد

- ‌متى ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فائدة:

- ‌ولد يتيماً صلى الله عليه وسلم:

- ‌تعليق حول الحكمة من هذا اليتم وذاك الفقر:

- ‌فصل: في أسمائه صلى الله عليه وسلم

- ‌تعليق:

- ‌ما جاء عن رضاعه وتنشئته في البادية:

- ‌فائدة حول تنشئته صلى الله عليه وسلم في البادية:

- ‌فصل: في شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم وتكرار هذه الحادثة

- ‌فوائد حول حادثة شق الصدر:

- ‌فصل: في رعيه صلى الله عليه وسلم الغنم والحكمة من ذلك

- ‌فوائد:

- ‌فصل: في عصمته صلى الله عليه وسلم مما يشينه حتى قبل البعثة

- ‌بناء البيت وعصمته من كشف العورة:

- ‌عصمته من فعل الجاهلية:

- ‌تعليق:

- ‌فصل: في حضوره صلى الله عليه وسلم حلف الفضول

- ‌فوائد حول حادث حلف الفضول:

- ‌فصل: في الإجارة عند خديجة ثم زواجه صلى الله عليه وسلم منها

- ‌تعليق حول الروايات السابقة:

- ‌فصل: في رجاحة عقله صلى الله عليه سلم وتلقيبه بالأمين قبل البعثة

- ‌فائدة حول تحكيمه صلى الله عليه وسلم في وضع الحجر الأسود:

- ‌بركته ومحبة الناس له وثقتهم به:

- ‌فصل: في مقدمات بعثته صلى الله عليه وسلم

- ‌تطلعات إلى دين جديد صحيح:

- ‌نقل حول ما وصل إليه العرب من سوء الأحوال وحاجتهم إلى الدين الجديد:

- ‌الفترة التي بين عيسى ونبينا - عليهما الصلاة والسلام

- ‌إرهاصات بنبوته صلى الله عليه وسلم:

- ‌فائدة:

- ‌خاتمة الباب

- ‌الباب الثانيمنالبعثة حتى الاستقرار في المدينة

- ‌هذه المرحلة في سطور

- ‌من ملامح هذه المرحلة

- ‌فصل: في بدء الوحي وفترته واستئنافه

- ‌السر في الخلوة:

- ‌حياته قبل النبوة:

- ‌المراحل الأولى للوحي:

- ‌فصل: في ظاهرة الوحي

- ‌أقسام الوحي:

- ‌حفظ أمر السماء بعد النبوة:

- ‌القرآنمعجزة الرسول صلى الله عليه وسلم الخالدة

- ‌متى وكيف نزل القرآن:

- ‌فصل: في الدعوة السرية

- ‌بداية الدعوة في سريتها وفرديتها:

- ‌فصل: في الدعوة الجهرية

- ‌أصناف خصوم الدعوة الجهرية:

- ‌فصل ووصل

- ‌فصل: في هجرتي الحبشة

- ‌دروس من الهجرة إلى الحبشة:

- ‌فصل: في إسلام عمر وحمزة

- ‌دروس من إسلام عمر وحمزة:

- ‌فصل: في حصار الشِّعْب

- ‌درس من الحصار:

- ‌جزاء المقاطعة:

- ‌فصل: في انشقاق القمر

- ‌فصل: الإيذاء مستمر والدعوة مستمرة

- ‌فصل: عام الحزن والشدّة

- ‌فصل: في رحلة الطائف

- ‌فصل: في تبليغ الجن

- ‌الفرج بعد الشدة:

- ‌فصل: في تكسير بعض الأصنام

- ‌فصل: في الإسراء والمعراج

- ‌زمن الإسراء والمعراج:

- ‌الإيمان بالإسراء والمعراج:

- ‌الإسراء بالروح وبالجسد:

- ‌فصل: في بداية دخول الإسلام المدينة المنورةوفي بيعتي العقبة

- ‌فصل: في الهجرة إلى المدينة المنورة

- ‌مقدمة:

- ‌الهجرة من دار الحرب إلى دار السلام:

- ‌فوائد من فتح الباري:

- ‌تعليق:

- ‌فوائد من كتاب الهجرة للدكتور محمد أبو فارس:

- ‌تأملات في العهد المكي وتصويبات

- ‌الباب الثالثمِنالاستقرار في المدينة حتى الوفاة

- ‌هذه المرحلة في سطور

- ‌من ملامح هذه المرحلة

- ‌السنة الأولى للهجرة

- ‌أحادث السنة الأولى في سطور

- ‌فصل: المدينة عند الهجرة

- ‌ اليهود

- ‌الأوس والخزرج:

- ‌الوضع الطبيعي:

- ‌الحالة الدينية والمكانة الاجتماعية:

- ‌الحالة الاقتصادية والحضارية:

- ‌فصل: التأريخ بالهجرة

- ‌ للبداءة بالمحرم سببان:

- ‌فصل: في حسن الاستقبال وقوة الإقبال

- ‌فصل: المسجد أولاً

- ‌فصل: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار

- ‌أهداف المؤاخاة:

- ‌فصل: في الترتيبات الدستورية

- ‌دروس من الصحيفة:

- ‌فصل: في البيعة

- ‌فصل: في الإذن بالقتال وبدء الحركة القتالية

- ‌فصل: في أمور متفرقةحدثت في السنة الأولى

- ‌1 - إسلام عبد الله بن سلام:

- ‌2 - خروج وباء المدينة منها:

- ‌3 - دخوله عليه الصلاة والسلام بعائشة:

- ‌4 - تشريع الأذان وإكمال الصلاة:

- ‌5 - حراسة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

- ‌تقويم الموقف في نهاية السنة الأولى

- ‌السنة الثانية للهجرة

- ‌هذه السنة في سطور

- ‌1 - في تحالفات هذا العام:

- ‌2 - في الحركة العسكرية:

- ‌فصل: في سرية عبد الله بن جحش

- ‌دروس من هذه السرية:

- ‌الحكمة في السرايا:

- ‌فصل: في تحويل القبلة

- ‌دروس في تحويل القبلة:

- ‌عدد غزواته صلى الله عليه وسلم:

- ‌فصل: في غزوة بدر

- ‌تمهيد:

- ‌1 - مقدمات الغزوة

- ‌2 - صور ومشاهد

- ‌عوامل النصر

- ‌3 - الأنفال

- ‌فوائد:

- ‌4 - فضل أهل بدر

- ‌5 - الأسارى

- ‌6 - آيات بدرية

- ‌7 - من فقه غزوة بدر

- ‌8 - في أعقاب بدر

- ‌من نعم الله على المسلمين في غزوة بدر:

- ‌فصل: في إجراء يهود بني قينُقاعٍ

- ‌تقويم الموقف في نهاية السنة الثانية للهجرة

الفصل: ‌فصل: في بداية دخول الإسلام المدينة المنورةوفي بيعتي العقبة

‌فصل: في بداية دخول الإسلام المدينة المنورة

وفي بيعتي العقبة

دخل الإسلام إلى المدينة المنورة على مدار ثلاث سنين قبل الهجرة، وكان بداية ذلك مجيء وفد من الأوس إلى مكة باحثين عن تحالفات ضد أبناء عمهم الخزرج الذين كانوا في صراع معهم، فهؤلاء أول ناس طرق سمعهم الإسلام وقد أسلم واحد منهم، ثم جاء وفد من أهل المدينة معتمرين في رجب، فاجتمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض عليهم الدعوة فأسلموا ثم رجعوا إلى قومهم، فدعوهم فاستجاب لهم عدد، فقدم من استطاع منهم إلى الحج وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الأولى ثم عادوا، وأرسل معهم أو بعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب ابن عمير ففشا الإسلام في المدينة حتى سيطر، ووافى ممن أسلم حوالي سبعين في موسم الحج وكانت بيعة العقبة الثانية، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بايعه أن يختاروا له اثني عشر نقيباً، يكونون على أقوامهم كفلاء وبين أقوامهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطاء، وعلى إثر ذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة.

وبقبول أهل المدينة للإسلام من ناحية ولنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحقق هدفان بآن واحد: هدف النصرة من أهلها وأن هؤلاء مسلمون، وهذا يقتضي تفصيلاً:

لقد كان الهدف السياسي المرحلي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة - فيما نعلم - أن يجد من يحميه وينصره ليبلغ دعوة ربه دون أن يقيد هذه النصرة بإسلام هؤلاء، وباصطلاح عصرنا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبحث عن حرية الدعوة والعبادة في مجتمع قادر على أن يحمي هذه الحرية. قال ابن حجر في الفتح:

وقال موسى بن عقبة عن الزهري: فكان في تلك السنين - أي التي قبل الهجرة - يعرض نفسه على القبائل، ويكلم كل شريف قوم، لا يسألهم إلا أن يؤوه ويمنعوه، ويقول:"لا أكره أحداً منكم على شيء، بل أريد أن تمنعوا من يؤذيني حتى أبلغ رسالة ربي" فلا يقبله أحد بل يقولون: قوم الرجل أعلم به. أهـ.

ولو أنه استجاب له من يستطيع المنعة والنصرة من العرب لسارت الدعوة غير المسار

ص: 314

الذي سارت فيه باستجابة أهل المدينة للإسلام وللنصرة بآن واحد، إذ قد تسير الدعوة في الحالة الأولى على مسار تجميع للمستجيبين يعيشون به في ظل الحماة ثم تكون انطلاقة بعد ذلك نحو أرض أخرى، أما وقد قبل الأنصار الإسلام والنصرة بآن واحد فقد طويت مرحلتان في مرحلة واحدة، ومع ذلك فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعامل مع الأنصار ابتداء على أن البيعة كانت على الدفاع، ولذلك نلحظ أنه لم يشرك في التحركات العسكرية قبل بدر إلا المهاجرين، ويوم بدر طلب شورى الأنصار خشية أن يكونوا فهموا من النصرة الدفاع فقط، مع أن الأنصار دخلوا في الإسلام وقبلا أحكامه فهم والمهاجرون سواء في التكليف، ومع ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراعي تلك الظروف.

ومن ههنا نعرف أن أكبر نصر سياسي للإسلام كان في قبول أهل المدينة النصرة وما ترتب على ذلك من هجرة.

ومن ههنا نقول: إنه عندما يكون المسلمون في حالة ضعف ولست لهم دار إسلام يستطيعون الهجرة إليها، فلهم أن يضعوا هدفاً سياسياً مرحلياً من مثل الوصول إلى حريتهم في الدعوة والعبادة، وإذا وجدوا في مجتمع يعطيهم ذلك فعليهم أن يعمقوا جذور الإسلام ويطوروا امتداده ويعملوا لانتصاره.

وقد حلل الأستاذ الندوي الأسباب التي جعلت المدينة المنورة مؤهلة لقبول الإسلام فقال:

وكان من صنع الله تعالى لرسوله وللإسلام، أن هيأ الله الأوس والخزرج - وهما قبيلتان عربيتان عظيمتان في مدينة يثرب - لتقدرا هذه النعمة التي لا نعمة أعظم منها، وتسبقا أهل عصرهما، وأبناء الجزيرة، إلى الترحيب بالإسلام والدخول فيه، حين تنكرت له قبائل العرب وفي مقدمتاه وعلى رأسها قريش {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .

وقد ساعدت على ذلك عدة عوامل، هي من خلق الله تعالى وتيسيره وصنعه، كانت فارقة بين قريش وأهل مكة، وقبائل يثرب العربية، منها ما طبعها الله عليه من الرقة واللين وعدم المغالاة في الكبرياء وجحود الحق، وذلك يرجع إلى الخصائص الدموية

ص: 315

والسلالية التي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وفد وفْدُ من اليمن، بقوله:"أتاكم أهل اليمن أرق أفئدة وألين قلوباً" وهما ترجعان أصلهما إلى اليمن، نزح أجدادهم منها في الزمن القديم، يقول القرآن مادحاً لهم:

{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (1).

ومنها أنهما قد أنهكتهما الحروب الداخلية، وما يوم بعاث ببعيد، وقد اكتووا بنارها، وذاقوا مرارتها، وعافوها، ونشأت فيهم رغبة في اجتماع الكلمة، وانتظام الشمل، والتفادي من الحروب، وذلك ما عبروا عنه بقولهم:(إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فإن يجمعهم الله بك، فلا رجل أعز منك)، قالت عائشة رضي الله عنها: كان يوم بعاث يوماً قدمه الله تعالى لرسوله.

ومنها أن قريشاً، وسائر العرب قد طال عهدهم بالنبوات والأنبياء، وأصبحوا يجهلون معانيها بطول العهد، وبحكم الأمية والإمعان في الوثنية، والبعد عن الأمم التي تنتسب إلى الأنبياء وتحمل الكتب السماوية - على ما دخل فيه من التحريف والعبث - وذلك ما يشير إليه القرآن بقوله:{لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} (2).

أما الأوس والخزرج فكانوا يسمعون اليهود يتحدثون عن النبوءة والأنبياء ويتلون صحف التوراة ويفرونها، بل كانوا يتوعدونهم به، ويقولون إنه سيبعث نبي في آخر الزمان، نقتلكم معه قتل عاد وإرم، وفي ذلك يقول الله تعالى:

{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (3).

وبذلك لم تكن بين أبناء الأوس والخزرج وسكان المدينة من العرب المشركين تلك

(1) الحشر: 9.

(2)

يس: 6.

(3)

البقرة: 89.

ص: 316

الفجوة العميقة الواسعة من الجهل والنفور من المفاهيم الدينية والسنن الإلهية التي كانت بينها وبين أهل مكة وجيرانهم من العرب، بل قد عرفوها وألفوها عن طريق اليهود، وأهل الكتاب الذي كانوا يختلطون بهم بحكم البلد والجوار والصلح والحرب والمحالفات، فلما تعرفوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حضروا الموسم، ودعاهم إلى الإسلام، ارتفعت الغشاوة عن عيونهم، وكأنهم كانوا من هذه الدعوة على ميعاد.

168 -

* روى أحمد والطبراني عن محمود بن لبيدٍ أخي بني عبد الأشهل قال لما قدم أبو الجليس أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياسُ بن معاذ يلتمسون الحِلْف من قريش على قومهم من الخزرج سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم فجلس إليهم فقال لهم: "هل لكم إلى خيرٍ مما جئتم له؟ " قالوا: وما ذاك؟ قال: "أنا رسول الله بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يُشركوا به شيئاً، وأنزل علي الكتاب" ثم ذكر الإسلام وتلا عليهم القرآن. فقال إياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً: أي قوم هذا والله خير مما جئتم له. قال: فأخذ أبو جليس أنسُ بن رافع حفنة من البطحاء فضرب بها في وجه إياس بن معاذٍ وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وانصرفوا إلى المدينة، فكانت وقعة بُعاثٍ بين الأوس والخزرج قال: ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك قال محمود بن لبيد فأخبرني من حضره من قومي عند موته أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكون أن قد مات مسلماً لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع.

المفروض أن تكون هذه الحادثة قبل خمس سنين من الهجرة لأن موقعة بعاث كانت كذلك على رأي ابن هشام.

169 -

* روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يوم بعاثٍ يوماً قدمه

168 - أحمد في مسنده (5/ 427).

وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 36) وقال: رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات.

بُعاث: بضم الباء وهو يوم كان بين الأوس والخزرج فيه قتال قبل الإسلام، وهو اسم حصن للأوس وبعضهم بقوله بالغين المعجمة وهو تصحيف.

169 -

البخاري (7/ 110) 62 - كتاب مناقب الأنصار - 1 - باب مناقب الأنصار.

الملأ: الأشراف والجماعة من الناس الذين يكونون رؤوس القوم، السروات: جمع سراة وسَراة: جمع سري، وهو =

ص: 317

الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فَقدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد افترق ملاهم، وقُتلت سرواتهم، وجُرحوا، فقدمه الله لرسوله في دخولهم في الإسلام.

170 -

* روى أحمد عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول: "هل من رجلٍ يحملني إلى قومه، فإن قُريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل"، فأتاه رجلٌ من همدانٍ فقال:"ممن أنت؟ " فقال الرجل من همدان. قال: "فهل عند قومك من منعةٍ؟ "، قال: نعم، ثم إن الرجل خشي أن يحقره قومه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: آتيهم فأخبرهم ثم آتيك من عام قابل، قال:"نعم" فانطلق وجاء وفدُ الأنصار في رجبٍ.

قال ابن حجر في الفتح:

وقد أخرج الحاكم وأبو نعيم والبيهقي في (الدلائل) بإسناد حسن عن ابن عباس: حدثني علي بن أبي طالب قال: لما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه وأبو بكر إلى منى، حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، وتقدم أب بكر وكان نسابة فقال: من القوم؟ فاقلوا: من ربيعة. فقال: من أي ربيعة أنتم؟ قالوا: من ذهل - فذكروا حديثاً طويلاً في مراجعتهم وتوقفهم أخيراً عن الإجابة - قال: ثم دفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج، وهم الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار لكونهم أجابوه إلى إيوائه ونصره، قال: فما نهضوا حتى بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى. وذكر ابن إسحاق أن أهل العقبة الأولى كانوا ستة نفر وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة النجاري، ورافع بن مالك بن العجلان العجلاني، وقطبة بن عامر بن حديدة، وجابر بن عبد الله ابن رئاب، وعقبة بن عامر - وهؤلاء الثلاثة من بني سلمة - وعوف بن الحارث بن رفاعة من بني مالك بن النجار. وقال موسى بن عقبة عن الزهري وأبو الأسود عن عروة: هم أسعد بن زرارة ورافع بن مالك ومعاذ بن عفراء ويزيد بن ثعلبة وأبو الهيثم بن التيهان وعويم بن ساعدة، ويقال: كان فيهم عبادة بن الصامت وذكوان. قال ابن اسحاق:

= الشريف الكبير من الناس، وسراة جمع عزيز، قال الجوهري: لا يعرف غيره، وهو أن يجمع فعيل على فعلة.

170 -

أحمد في مسنده (3/ 390) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 35) وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات.

ص: 318

حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه قال: لما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أنتم؟ قالوا: من الخزرج. قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: نعم. فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. وكان مما صنع الله لهم أن اليهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب، وكان الأوس والخزرج أكثر منهم، فكانا إذا كان بينهم شيء قالوا: إن نبياً سيبعث الآن قد أظل زمانه نتبعه، فنقتلكم معه، فلما كلمهم النبي صلى الله عليه وسلم عرفوا النعت، فقال بعضهم لبعض: لا تسبقنا إليه اليهود. فآمنوا وصدقوا، وانصرفوا إلى بلادهم ليدعوا قومهم، فلما أخبروهم لم يبق دور من قومهم إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان الموسم وافاه منهم اثنا عشر رجلاً.

171 -

* روى الطبراني عن ابن إسحق قال: فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم وإنجاز وعده خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار وهم فيما يزعمون ستةٌ فيهم جابر بن عبد الله بن رئابٍ ..

172 -

* روى الطبراني عن عروة قال: لما حضر الموسم حج نفرٌ من الأنصار من بني مازن بن النجار منهم معاذٌ بن عفراء وأسعد بن زرارة، ومن بني زريق رافعُ بن مالك وذكوان بن عبد القيس، ومن بني عبد الأشهل أبو الهيثم بن التيهان، ومن بني عمرو بن عوف عويمُ بن ساعدة، وأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرهم خبرهم الذي اصطفاه الله به من نبوته وكرامته، وقرأ عليهم القرآن، فلما سمعوا قوله أنصتوا واطمأنت أنفسهم إلى دعوته وعرفوا ما كانوا يسمعون من أهل الكتاب من ذكرهم إياه بصفته وما يدعوهم إليه، فصدقوه، وآمنوا به، وكانوا من أسباب الخير، ثم قالوا له قد علمت الذي بين الأوس والخزرج من الدماء ونحن نحب ما أرشد الله به أمرك، ونحن لله ولك مجتهدون، وإنا نُشير عليك بما ترى فامكث على اسم الله حتى نرجع إلى قومنا فنخبرهم بشأنك وندعوهم إلى الله ورسوله، فلقل الله يُصلح بيننا ويجمعُ أمرنا فإنا اليوم متباعدون متباغضون، فإنْ تقدم علينا اليوم ولم نصطلح لم يكن لنا جماعة عليك، ونحن نواعدك الموسم من العام

171 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 42). رواه الطبراني ورجاله ثقات.

172 -

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 42): رواه الطبراني مرسلاً: وفيه ابن لهيعة وفيه ضعف وهو حسنُ الحديث، وبقية رجاله ثقات. أقول: وإنما يحسن حديث ابن لهيعة إذا وافق المشهور، وهو ههنا كذلك.

ص: 319

القَابِل فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قالوا، فرجعُوا إلى قومهم يدعونهم سراً وأخبروهم برسول الله صلى الله عليه وسلم والذي بعثه الله به ودعا عليه بالقرآن حتى قل دارٌ من دور الأنصار إلا أسلم فيها ناسٌ لا محالة، ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا رجلاً من قبلك يدعو الناس بكتاب الله، فإنه أدنى أن يُتبع فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير أخا بني عبد الدار، فنزل في بني غنمٍ على أسعد بن زُرارة فجعل يدعُو الناس ويفشو الإسلامُ ويكثر أهله وهم في ذلك مستخفون بدعائهم، ثم إن أسعد بن زرارة أقبل هو ومصعب بن عمير حتى أتيا بئر مرقٍ أو قريباً منها، فجلسوا هنالك، وبعثوا إلى رهطٍ من أهلِ الأرض فأتوهم مستخفين، فبينما مصعب بن عمير يحدثهم ويقص عليهم القرآن أُخبرَ بهم سعد بن معاذ فأتاهم ومعه الرمح حتى وقف عليه، فقال علام يأتينا في دورنا بهذا الوحيد الفريد الطريح الغريب، يسفه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم لا أراكما بعد هذا بشيءٍ من جوارنا فرجعُوا ثم إنهم عادُوا الثانية ببئر مرقٍ أو قريباً منها، فأخبر بهم سعد بن معاذ الثانية، فواعدهم بوعيدٍ دون الوعيد الأول فلما رأى أسعد منه لينا قال: يا ابن خالةٍ اسمع من قوله فإن سمعت منه منكراً فاردده يا هذا منه، وإن سمعت خيراً فأجب الله فقال: ماذا يقول فقرأ عليهم مصعب بن عمير {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (1) فقال سعد وما أسمعُ إل ما أعرفُ فرجع وقد هداهُ الله تعالى ولم يظهر أمرُ الإسلام حتى رجع إلى قومه، فدعا بني عبد الأشهل إلى الإسلام وأظهر إسلامه وقال فيه: من شك من صغير أو كبير أو ذكرٍ أو أنثى فليأتنا بأهدى منه نأخذ به فوالله لقد جاء أمرٌ لتحزن فيه الرقاب فأسلمت بنو عبد الأشهل عند إسلام سعد، ودعائه إلا من لا يُذكرُ فكانت أول دور من دور الأنصار أسلمت بأسرها، ثم إن بني النجار أخرجوا مصعب بن عمير، واشتدوا على أسعد بن زرارة فانتقل مصعب بن عمير إلى سعد بن معاذ فلم يزل يدعو ويهدي على يديه حتى قل دار من دور الأنصار إلا أسلم فيها ناس لا محالة وأسلم أشرافهم وأسلم عمرو بن الجموح، وكُسرت أصنامهم؛ فكان المسلمون أعز أهلها وصلح أمرهم ورجع مصعب بن عمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يُدعى المقرئ.

(1) الزخرف: 1 - 3.

ص: 320

قال ابن حجر في الفتح:

وذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مع الإثنى عشر رجلاً مصعب بن عمير العبدري، وقيل بعثه إليهم بعد ذلك بطلبهم ليفقههم ويقرئهم، فنزل على أسعد بن زرارة، فروى أبو داود من طريق عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال: كان أبي إذا سمع الأذان للجمعة استغفر لأسعد بن زرارة، فسألته، فقال: كان أول من جمع بنا بالمدينة. وللدارقطني من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى مصعب بن عمير أن أجمع بهم. أهـ، فأسلم خلق كثير من الأنصار على يد مصعب بن عمير بمعاونة أسعد بن زرارة حتى فشا الإسلام بالمدينة، فكان ذلك سبب رحلتهم في السنة المقبلة، حتى وافى منهم العقبة سبعون مسلماً وزيادة، فبايعوا كما تقدم.

173 -

* روى الإمام أحمد عن جابر قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكة عشر سنين يتبعُ الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة وفي الموسم بمنى يقول: "من يؤويني، من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؟ " حتى إن الرجل ليخرج من اليمن - أو من مضر كذا قال - قال: فيأتيه قومه فيقولون احذر غلام قريش لا يفتنك. ويمشي بين رجالهم، وهم يشيرون إليه بالأصابع حتى بعثنا الله إليه من يثرب، فآويناهُ، وصدقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلبُ إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يُظهرون الإسلام، ثم ائتمروا جميعاً فقلنا حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطردُ في جبال مكة ويخاف، فرحل إليه سبعون رجلاً حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدنا شعب العقبة، فاجتمعنا عليه من رجل ورجلين حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله نبايعك: قال: "تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل والنفقة في العُسر واليُسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائمٍ وعلى أنْ تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكمُ

173 - أحمد في مسنده (3/ 322، 339)، البزار: في كشف الأستار (2/ 307)، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 46) وقال: رواه أحمد والبزار ورجال أحمد رجال الصحيح.

ص: 321

الجنة" قال: فقمنا إليه فبايعناه وأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو أصغرهم فقال: رُويداً يا أهل يثرب فإنا لم نضرب أكباد الإبل إلا ونحنُ نعلم أنه رسول الله وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم وأن تعضكم السيوف فإما أنتم قومٌ تصبرون على ذلك وأجركم على الله وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خبيئة فتبينوا ذلك فهو عُذررٌ لكم عند الله قالوا أمط عنا يا أسعد فوالله لا ندع هذه البيعة أبداً ولا نسلبها أبدا، فبايعناه فأخذ علينا وشرط ويعطينا على ذلك الجنة.

174 -

* روى أحمد والطبراني عن كعب بن مالك وكان ممن شهد العقبة وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خرجنا في حُجاج قومنا من المشركين وقد صلينا وفقهنا ومعنا البراء ابن معرور كبيرنا وسيدنا، فلما توجهنا لسفرنا وخرجنا من المدينة، قال البراء لنا يا هؤلاء إني قد رأيت والله رأياً وإني والله ما أدري توافقوني عليه أم لا؟ قلنا له: وما ذاك قال: قد رأيتُ أن لا أدع هذه البنية مني بظهر يعني الكعبة، وأن أصلي إليها قال: فقلنا والله ما بلغنا أن نبينا صلى الله عليه وسلم يصلي إلا إلى الشام، وما نُريد أن نخالفه فقال: إني أصلي إليها: فقلنا له: لكنا لا نفعل، فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام وصلى إلى الكعبة حتى قدمنا مكة قال: وقد عبنا عليه ما صنع، وأبى إلا الإقامة عليه، فلما قدمنا مكة قال: يا ابن أخي: انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأله عما صنعتُ في سفري هذا، فإنه والله قد وقع في نفسي منه شيء لما رأيتُ من خلافكم إياي. قال: فخرجنا نسألُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا لا نعرفه لم نره قبل ذلك، فلقينا رجلٌ من أهل مكة فسألناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هل تعرفانه قلنا: لا فقال: هل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه: قلنا: نعم، قال: كنا نعرف العباس كان لا يزال يقدم علينا تاجراً، قال فإذا دخلتما المسجد، فهو الرجل الجالس مع العباس قال: فدخلنا المسجد فإذا العباس جلس ورسول الله صلى الله عليه وسلم معه جالسٌ فسلمان ثم جلسنا إليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس "هل تعرفُ هذين الرجلين يا أبا الفضل؟ " قال: نعم هذا البراء بن معرور سيد قومه، وهذا كعب بن مالك قال: فوالله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "الشاعر". قال: نعم. قال: فقال

174 - أحمد في مسنده (3/ 460، 461) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 45): رواه أحمد والطبراني بنحوه ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق، وقد صرح بالسماع.

ص: 322

البراء بن معرورٍ يا نبي الله إني خرجت في سفري هذا وهداني الله للإسلام، فرأيتُ أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر؛ فصليتُ إليها وقد خالفني أصحابي في لك حتى وقع في نفسي من ذلك شيء فماذا ترى يا رسول الله؟ قال:"لقد كنت على قبلة لو صبرت عليها"، قال: فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى معنا إلى الشام قال، وأهلهُ يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات وليس ذلك كما قالوا نحن أعلمُ به منهم. قال: وخرجنا إلى الحج فواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي وعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعن عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر سيد من ساداتنا وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا فكلمناه وقلنا له يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك أن تكون حطباً للنار غداً، ثم دعوته إلى الإسلام، وأخبرته بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وشهد معنا العقبة وكان نقيباً، قال: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل مستخفين تسلل القطا، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن سبعون رجلاً ومعنا امرأتان من نسائهم نسيبةُ بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بني مازن بن النجار وأسماء بنت عمرو بن عدي بن ثابت إحدى نساء بني سلمة وهي أم منيع فاجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه يومئذ عمه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق، فلما جلسنا كان العباس بن عبد المطلب أول من تكلم فقال يا معشر الخزرج - وكانت العرب مما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج أوسها وخزرجها - إن محمداً منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه وهو في عز من قومه ومنعةٍ في بلده. قال: فقلنا قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببتَ فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا ودعا إلى الله عز وجل ورغب في الإسلام. قال: "أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم"ن قال: فأخذ البراءُ بن معرورٍ بيده، ثم قال نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أُزرنا فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابراً عن كابر، قال: فاعترض القول والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو الهيثم بن التيهان حليفُ بني عبد الأشهل فقال يا رسول

ص: 323

الله: إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها يعني العهود فهل عسيت إنْ نحنُ فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أنْ ترجع إلى قومك وتدعنا، قال فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"بل الدمُ الدمُ والهدمُ الهدمُ، أنا منكم وأنتم مني، أحاربُ من حاربتم وأسالم من سالمتم" وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم" فأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً منهم تسعةٌ من الخزرج وثلاثةٌ من الأوس.

وأما معبد بن كعب فحدثني في حديثه عن أخيه عن أبيه كعب بن مالك قال: كان أول من ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور، ثم تتابع القوم فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأبعد صوت سمعته قط يا أهل الجباجب - والجباجبُ المنازلُ - هل لكم في مُذَمَّمٍ والصبأة معه قد أجمعوا على حربكم قال علي - يعني ابن إسحاق -: ما يقول يا محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا أزبُّ العقبة هذا ابن أذيب، اسمع أي عدو الله أما والله لأفرغن لك"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ارفعوا إلى رحالكم"، قال فقال له العباس بن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحق لئن شئت لنملين على أهل مني غداً بأسيافنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم أؤمر بذلك"، قال: فرجعنا، فنمنا حتى أصبحنا فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاءونا في منازلنا فقالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، والله إنه ما من العرب أحدٌ أبغض إلينا أن تنشُبَ الحربُ بيننا وبينهم منكم، قال: فانبعث من هنالك من مشركي قومنا يحلفون لهم بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه وقد صدقوا لم يعلموا ما كان منا قال: فبعضنا ينظر إلى بعض قال: وقام القوم وفيهم الحرث بن هشام بن المغيرة، وعليه نعلان جديدان قال: فقلت كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا: ما تستطيع يا أبا جابر، وأنت سيدٌ من ساداتنا أن تتخذ نعلين مثل نعلي هذا الفتى من قريش، فسمعها الحرث فخلعهما، ثم رمى بهما إليَّ فقال: والله لتنتعلنهُما، قال يقول أبو جابر: أحفظت والله الفتى فارْدد عليه نعليه قال: فقلتُ والله لا أردهما فألٌ: والله صالح لئن صدق الفأل لأسلبنهُ. فهذا

أزب العقبة: الأرب. القصير الضخم البطن والآلية - واللئيم الداهية، والمراد به اسم شيطان العقبة. أحفظت: احفظه: أغضبه. الفأل: قول أو فعل يستبشر به.

ص: 324

حديث ابن مالك عن العقبة ما حضر منها.

وقال الطبراني (1) في حديثه فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقينا رجلٌ بالأبطح فقلنا له تدلنا على محمد بن عبد الله بن عبد المطلب؟ قال: فهل تعرفانه إذا رأيتماه؟، وقال أيضاً وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلا القرآن ورغب في الإسلام فأجبناه بالإيمان به والتصديق به، وقال أيضاً: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخرجُوا منكم اثني عشر نقيباً" فأخرجهم فكان نقيب بني النجار أسعد بن زرارة، وكان نقيب بني سلمة البراء بن معرور وعبد الله بن عمرو بن حرام وكان نقيب بني ساعدة سعد بن عبادة والمنذر ابن عمرو، وكان نقيب بني زريقٍ رافع بن مالك بن العجلان، وكان نقيب بني الحارث بن الخزرج عبد الله بن رواحة، وسعد بن الربيع، وكان نقيب بني عوف ابن الخزرج عبادة بن الصامت ونقيب بني عبد الأشهل أسيدُ بن حُضير وأبو الهيثم بن التيهان وكان نقيب بني عمرو بن عوف سعد بن خيثمة.

175 -

* روى أحمد عن الشعبي قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم ومعه العباسُ عمه إلى السبعين من الأنصار عند العقبة تحت الشجرة فقال ليتكلم متكلمكُم ولا يطيل الخطبة فإن عليكم من المشركين عيناً وإن يعلموا بكم يفضحوكم، فقال قائلهم وهو أبو أمامة: سل يا محمدُ لربك ما شئت ثم سل لنفسك ولأصحابك ما شئت، ثم أخبرنا مالنا من الثواب على الله عز وجل وعليكم إذا فعلنا ذلك فقال:"أسألكم لربي عز وجل أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأسألكم لنفس ولأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما منعتم منه أنفسكم" قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟، قال:"لكم الجنة" قالوا: فلك ذلك.

176 -

* روى أبو يعلي عن أنس بن ثابت بن قيس أنه خطب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنما نمنعُك مما نمنعُ منه أنفسنا وأولادنا، فما لنا يا رسول الله؟ قال:"لكم الجنةُ" قالوا رضينا.

(1) الطبراني (19/ 88).

175 -

أحمد في مسنده (4/ 119، 120) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 48)، وقال: رواه أحمد مرسلاً ورجاله رجال الصحيح.

176 -

أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 48) وقال: رواه أبو يعلي ورجاله رجال الصحيح.

ص: 325

177 -

* روى أبو يعلي والبزار عن جابر بن عبد الله، قال: لما لقي النبي صلى الله عليه وسلم النقباء من الأنصار قال لهم: "تؤووني وتمنعوني"، قالوا فما لنا؟ قال:"لكم الجنة".

ونلاحظ أن الخطاب الذي وجه للنقباء هو نفسه الذي خوطب به الجميع، مما يشير إلى ضرورة التأكيد على الخاصة بما تطالب به العامة.

178 -

* روى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: شهد بي خالاي العقبة قال ابن عيينة: أحدهما: البراء بن معرورٍ.

وفي رواية قال: أنا وأبي وخالاي من أصحاب العقبة.

179 -

* روى الطبراني عن جابر بن عبد الله قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة قال جابر: وأخرجني خالاي وأنا لا أستطيع أن أرمي بحجرٍ.

أقول: في هذا الحديث إشارة إلى جواز إشراك الصبيان في العمل الإسلامي بل حتى فيما يعتبر من الأسرار، ولكن هذا منوط بتربية الطفل، وضمانة أقاربه، وحياطتهم له.

180 -

* روى الطبراني عن جابر بن عبد الله قال: حملني خالي جدُ بن قيس في السبعين راكبا الذين وفدُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من قِبَلِ الأنصار ليلة العقبة، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمهُ العباس بن عبد المطلب فقال:"يا عم خُذ على أخوالك" فقال له السبعون يا محمد سل لربك ولنفسك ما شئت فقال: "أما الذي أسألكم لربي فتعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأما الذي أسألكم لنفسي منه فتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم" قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك قال: "الجنةُ"

177 - أورده الهيثمي في مجمع الزائد (6/ 48)، وقال: رواه أبو يعلي والبزار بنحوه ورجال أبي يعلي رجال الصحيح.

178 -

البخاري (7/ 219) 63 - كتاب مناقب الأنصار - 42 - باب وفود الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبيعة العقبة.

البراء بن معرور: من أقارب أم جابر، وأقارب الأم يسمون أخوالاً مجازاً.

179 -

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 49): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

180 -

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 49): رواه الطبراني في الثلاثة ورجاله ثقات.

181 -

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 50): رواها كلها الطبراني، وإسنادها إلى ابن شهاب واحد، ورجاله ثقات.

ص: 326

181 -

* روى الطبراني عن ابن شهاب ف يتسمية من حضر العقبة من الأنصار ثم من بني النجار: أوس بنُ ثابت وأوسُ بن يزيد بن أصرم وأبو أمامة أسعد بن زرارة، ومن الأنصار ثم من بني سلمة البراء بن معرور وهو أولُ من أوصى بثلث ماله واستقبل الكعبة وهو ببلاده وكان نقيباً، ومن الأنصار ثم من بني الحارث بن الخزرج بشير بن سعد بن النعمان، ومن الأنصار جابر بن عبد الله بن عمرو وجبارُ بن صخرٍ، ومن الأنصار ثم من بني زريقٍ الحارث بن قيس بن مالك وقد شهد بدراً وذكوان بن عبد القيس بن خلدة، ورافع بن مالك وقد شهد بدراً، ومن الأنصار ثم من بني الجبلي رفاعةُ بن عمرو، ومن الأنصار ثم من بني ساعدة بن كعب سعد بن عبادة وهو نقيب، ومن الأنصار ثم من بني عمرو بن عوف سعد بن خيثمة وهو نقيبٌ، ومن الأنصار ثم من بني عبد الأشهل سلمة بن سلامة بن وقشٍ، ومن الأنصار ثم من بني حارثة بن الحرث ظهير بن رافع، ومن الأنصار ثم من بني حارثة أبو برُدة بن نيارٍ ..

182 -

* روى الحاكم عن سلمة بن سلامة بن وقش، قال: كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل قال: فخرج علينا يوماً من بيته حتى وقف على بني عبد الأشهل قال سلمة وأنا يومئذٍ حدث على بردة لي، مضطجع فيها بفناء أهلي، فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار قال: فقال ذلك في أهل يثرب، والقوم أصحابُ أوثانٍ لا يرون بعثاً كائناً عند الموت، فقالوا له: ويحك أترى هذا كائناً يا فلان أن الناس يُبعثون بعد موتهم إلى جنةٍ ونارٍ ويُجزون فيها بأعمالهم قال: نعم والذي يحلف به، قالوا يا فلان ويحك وما آية ذلك؟ قال نبي مبعوث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده إلى كة. قالوا: ومتى نراه؟ قال: فنظر إليَّ وأنا أصغرهم سناً فقال: إنْ يستنفد هذا الغلام عمره يدركه قال سلمة، فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله تبارك وتعالى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو حي بين أظهرنا، فآمنا به وكفر بغياً وحسداً، فقلنا له ويحك يا فلان ألست الذ قلت لنا فيه ما قلت؟ قال: بلى ولكنه ليس به.

* * *

182 - الحاكم (3/ 417) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

ص: 327