الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: في الترتيبات الدستورية
قال الأستاذ البوطي: روى ابن هشام أن النبي عليه الصلاة والسلام لم تمض له سوى مدة قليلة في المدينة حتى اجتمع له إسلام عامة أهل المدينة من العرب، ولم يبق دار من دور الأنصار إلا أسلم أهلها، عدا أفراداً من قبيلة الأوس. فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً بين المهاجرين والأنصار وادع فيه اليهو وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم.
وقد ذكر ابن إسحاق هذا الكتاب بدون إسناد. وذكره ابن خيثمة فأسنده: حدثنا أحمد ابن جناب أبو الوليد، ثنا عيسى بن يونس، ثنا كثير بن عبد الله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده أن رسول الله عليه السلام كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار، فذكر نحو ما ذكره ابن إسحاق، وذكره الإمام أحمد في مسنده فرواه عن سريج قال حدثنا عباد عن حجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار
…
إلخ.
وقال الشيخ الغزالي في معرض كلامه عن أهم أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم بعد مقدمه المدينة: أما عن صلة الأمة بالأجانب عنها، الذين لا يدينون بدينها، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قد سن في ذلك قوانين السماح والتجاوز التي لم تُعهد في عالم مليء بالتعصب والتغالي، والذي يظن أن الإسلام دين لا يقبل جوار دين آخر، وأن المسلمين قوم لا يستريحون إلا إذا انفردوا في العالم بالبقاء والتسلط، هو رجل مخطئ بل متحامل جرئ.
أقول: هذه الوثيقة التي ذكرها الأستاذان الكريمان لم تكن تنظم الحياة بين المسلمين وغيرهم فحسب، بل كانت كذلك تنظم الحياة بين المسلمين أنفسهم، وهذه الحادثة بالذات تعتبر أهم معلم يجب أن تضعه الحركة الإسلامية نصب عينيها، بل هذه الوثيقة تعتبر من أعظم السوابق الدستورية في تاريخ البشرية، ففي مراحل متأخرة بدأت البشرية تفكر في كتابة الدساتير الناظمة لحياة الأمم في أطرها الكبرى، فأن نرى ذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الأولى لإقامة الدولة فتلك من معجزات الإسلام، ولقد هل ناس حاربوا
التقعيد الدستوري والقانوني لحياة شعوب الأمة الإسلامية، كما أفرط ناس في التصورات السياسية حتى دخلوا معارك ضد مصطلحات لا حرج في استعمالها، وكل ذلك أثر عن تشنجات سقيمة لم يعرف أصحابها الحدود بين ما يحرم أخذه وما يجوز وما يفترض، وبين مالا يسيغ إغفاله وما يجب إبطاله له.
ومع أن هذه الوثيقة قد أوردها ابن إسحاق بلا إسناد فإن لها قوة كبرى من حيث إن ابن خيثمة قد أوردها بإسناد كما ذكر ذلك ابن سيد الناس في عيون الأثر، ومن حث إن هناك نصوصاً ثابتة تشير إلى أن عقوداً ما قد تمت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين اليهود، وأن تعاقداً أبرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار ولذلك فإن ابن كثير في البداية والنهاية قد لخص هذه الوثيقة وعنون لمضمونها وقدم لها بذكر بعض الأحاديث الصحيحة التي تشير إلى بعض مضموناتها، وعلى كل الأحوال فعلى مذهبنا الذي ذكرناه في مقدمة هذا القسم والذي اعتمدنا فيه أن إماماً من الأئمة عندما يذكر شيئاً بلا نكير فذلك يدل على أن مذهبه اعتماد ما ذكره فإذا كان من أهل الاجتهاد في شأن فبإمكاننا اتباعه فيه، ولا أحد يشك أن ابن إسحاق إمام الأئمة في السيرة.
وها نحن نذكر بعض ما ذكره ابن كثير عن هذه الوثيقة: فقد قال بعد ذكره عقد الرسول عليه السلام الألفة بين المهاجرين والأنصار والمؤاخاة بينهم، وموادعته اليهود الذين كانوا بالمدينة:
وكان بها من أحياء اليهود بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، وكان نزولهم بالحجاز قبل الأنصار أيام بخت نصر حين دوخ بلاد المقدس فيما ذكره الطبري، ثم لما كان سيل العرم وتفرقت شذر مذر، نزل الأوسُ والخزرج المدينة عند اليهود فحالفوهم وصاروا يتشبهون بهم لما يرون لهم عليهم من الفضل في العلم المأثور عن الأنبياء، لكن من الله على هؤلاء الذين كانوا مشركين بالهدى والإسلام وخذل أوئلك لحسدهم وبغيهم واستكابرهم عن اتباع الحق.
250 -
* روى الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
250 - أحمد في مسنده (2/ 204).
كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار على أن يعقلوا معاقلهُم، ويفْدُوا عانيهم بالمعروف والإصلاح بين المسلمين.
251 -
* روى مسلم عن جابر. كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على كل بطنٍ عقوله".
وقال محمد بن إسحاق (1): كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً بين المهاجرين والأنصار وادع فيه اليهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم واشترط عليهم وشرط لهم: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي الأمي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أنهم أمةٌ واحدةٌ من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط، وبنو عوفٍ على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفةٍ تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين" ثم ذكر كل بطنٍ من بطونِ الأنصار، وأهل كل دارٍ: بني ساعدة، وبني جُشم، وبني النجار، وبني عمرو وبن عوفٍ، وبني النبيت، إلى أن قال: "وإن المؤمنين لا يتركون مُفرحاً بينهُم أنْ يُعطوهُ بالمعروف في فداءٍ أو عقل، ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونهُ، وإن المؤمنين المتقين على منْ بَفَى منهُم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عُدوانٍ أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعهم ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتُلُ مؤمن مؤمناً في كافرٍ، ولا يُنْصَرُ كافرٌعلى مؤمنٍ، وإن ذمة الله واحدةٌ يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس وإنه من تبعنا من يهُود، فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا مُتناصرٍ عليهم، وإن سلم المؤمنين واحدة لا يُسالم مؤمن دون
251 - مسلم (2/ 1146) 30 - كتاب العتق - 4 - باب: تحريم تولي العتيق غير مواليه.
(1)
السيرة النبوية لابن هشام (2/ 119).
يتعاقدون معاقلهم: يكونون على ما كانوا عليه من أخذ الديات عند قتل أحد وإعطائها. والمعاقل جمع معقلةٍ وهي الدة والعقول جمع عقلٍ وهي الدية أيضاً.
عانيهم: أسيرهم.
ربعتهم: الحال التي جاء الإسلام وهم عليها.
المفرح: المثقل بالدين، الكثير العيال.
دسيعة: عظيمة.
مؤمن في قتالٍ في سبيل الله إلا على سواء وعدلٍ بينهم، وإن كل غازيةٍ غزتْ معن يعقبُ بعضها بعضاً، وإن المؤمنين يبئ بعضهم بعضاً بما نال دماءهم في سبيل الله، وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومِهِ، وإنه لا يُجيرُ مشرك مالاً لقريش ولا نفساً ولا يحول دونهُ على مؤمنٍ، وإنه من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينةٍ فإنه قودٌ به إلا أن يرضى ولي المقتول، وإن المؤمنين عليه كافةً ولا يحل لهم إلا قيام عليه، وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أنْ ينصر مُحدثاً ولا يؤويه، وإنه من نصره أو آواهُ فإن عليه لعنةُ الله وغضبهُ يوم القيامة ولا يؤخذُ منه صرف ولا عدل، وإنكم مهما اختلفتُم فيه من شيء فإن مردهُ إلى الله عز وجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين، ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوفٍ أمةٌ مع المؤمنين، لليهود دينهُم وللمسلمين دينُهُم مواليهم وأنفسهُم إلا من ظلم وأثِم فإنه لا يُوتغُ إل نفسهُ وأهلَ بيته، وإن ليهودِ بني النجار وبني الحارث وبني ساعدة وبني جُشم وبني الأوس وبني ثعلبة وجفنة وبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوفٍ، وإن بطانة يهود كأنفسهم، وإنه لا يُخرجُ منهم أحدٌ إلا بإذن محمد، ولا ينحجز على نارٍ جُرحٌ، وإنه من فتك فبنفسه إلا من ظُلِمْ، وإن الله على أبر هذا، وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهمُ النصر على من حارب أهل هذهِ الصحيفةِ، وإن بينهُم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفهِ. وإن النصر للمظلوم وإن يثرب حرام جوفُها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مضارٍ ولا آثمٍ، وإنه لا تُجارُ حرمة إلا بإذن أهلها، وإنه ما
يبيء: بيء من السواء أي المساواة، يقال: با وأباء بمعنى ساوى.
اعتبط: قتل بلا جناية.
الود: القصاص.
محدثاً: جانياً.
صرف ولا عدل: نافلة ولا فرض أو توبة ولا فدية.
لا يوقع: أي لا يوبق ويهلك.
ولا ينحجز على ثأرٍ جرحُ: لا يمنع صاحب حق من حقه في القصاص.
وإن لله على أبر هذا: أي أن الله راض أو شاهد على أبر هذا العقد.
أقول: قال أبو عبيد: إنما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب قبل أن تفرض الجزية وإذ كان الإسلام ضعيفاً، وكان لليهود إذ ذاك نصيب في المغنم إذا قاتلوا مع المسلمين، كما شرط عليهم في هذا الكتاب النفقة معهم في الحروب.
والبر دون الإثم: أي أن البر والوفاء ينبغي أن يكون حاجزاً عن الإثم.
لم يأثم امرؤ بحليفه: لا يحاسب الحليف على جُرْم حليفه. =