الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تأملات في العهد المكي وتصويبات
أخذنا فيما مضى تصوراً إجمالياً عن المرحلة المكية، والتفصيل الكامل يحتاج إلى جهود كثيرة لا يطيقها فرد، واستكمال صورة العهد المكي يقتضي عرضاً للقرآن المكي ونقصد به القرآن الذي نزل قبل استقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة وهذا القسم من القرآن يكاد يكون نصف القرآن، والصحابة الذين عاصروا تنزل القرآن كان عندهم علم بأمكنة النزول وتسلسل النزول وأسباب النزول.
ولو أن هذا العلم وصلنا كاملاً لأمكن من خلاله أن نعرف المسيرة العلمية والتربوية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولأمكننا أن نعرف كيف كان التدرج في بناء النفس والأمة بشكل تفصيلي، وزيادة على ذلك فإنه كان بالإمكان أن نعرف تفاصيل دقيقة عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا العلم لم ينقل لنا بشكل تفصيلي كامل، وإذا نقل ففي حدود ضيقة، وذلك لأن الجيل الأول والأجيال اللاحقة لم يقدروا أن لذلك أهمية كبيرة ما دام ترتيب القرآن توقيفياً والله عز وجل هو الذي تولى ترتيبه، وقد رأينا في كتابنا (الأساس في التفسير) الحكمة بل المعجزة في هذا الترتيب.
ونتيجة لعدم وصول دقائق تاريخ النزول؛ فإن العلماء اجتهدوا في تحديد ترتيب نزول السور القرآنية، فكان عملهم اجتهادياً من ناحية وإجمالياً من ناحية أخرى، ولذلك فإذا ما تكلف متكلف أن يقدم عرضاً لأحداث السيرة من القرآن فالإجمال والاجتهاد هما عمله، نسجل هذا كأول ملاحظة على استحالة الفصل بين المرحلة المكية والمدنية من الناحية التشريعية البحتة، ومن ههنا ننطلق لنقول:
إن الذين يعتبرون المرحلة المكية إمامهم في العمل الإسلامي بمعنى أنهم مطالبون به وحدها ومكلفون بالاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في حدودها فقط، هؤلاء جاهلون بالإسلام.
فالتشريع الإسلامي اكتمل والأمة الإسلامية مطالبة به كله، فهي مطالبة بالكتاب كله وبالسنة كلها، وبما استقر عليه التشريع في المرحلتين المكية والمدنية.
إن الحج والصوم والحدود والقصاص والجهاد وغير ذلك، كل ذلك لم يكن مفروضاً في المرحلة المكية فمن اعتبر نفسه مكلفاً بالمرحلة المكية وحدها في بعض الشئون عليه أن يفطن لما يترتب على تفكيره من إلزامات توصله للكفر فإذا وضح هذا وهذا نقول:
إننا منطالبون أن نقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما لم ينسخ ومالا يعتبر خاصاً به، وعلى هذا الساس فكل ما لم ينسخ من المرحلة المكية أو ما لا يعتبر خاصاً به عليه الصلاة والسلام فهو محل الطلب منا، وهو محل التكليف فإذا ما اتضح هذا نقول:
لقد ركز القرآن المكي على معان بعينها وجاء القرآن المدني فأكمل وتمم، وقد يكون من المناسب أن نلحظ في التربية الأولى للإنسان هذه المعاني مع ملاحظة أن ذلك تحصيل حاصل لمن يأخذ الكتاب والسنة جملة وتفصيلاً، لقد ركز القرآن المكي على اليقين ونفي الريب وجاءت في ذلك سور كثيرة، كما ركز على الإيمان بالغيب والصلاة والإنفاق وعتق الرقاب والإحسان إلى الناس عامة والضعفاء والأيتام خاصة وجاءت في ذلك سور، وركز على أخلاق بعينها وعلى أعمال صالحة من مثل ما يدخل في تزكية النفوس، ومن مثل التواصي بالحق والصبر والتواضع وعدم الاختيال وعدم رد السيئة بمثلها وقيام الليل وعدم الإسراف، وإنصات القلب لآيات الله والحرص على صلاح الذرية وترك الزنا والسرقة وافقبال على الله بصلة الوالدين والأرحام، وركز على عبادة الله وحده والإخلاص فيها وعدم مشاركة الكافرين في عبادتهم.
وركز على إقامة الحجة على الكافرين وتبيان الكفر وأخلاقه وأسبابه وشبهه وأقوال أهله.
وركز على التذكير بالنعم لاستخراج الشكر.
وركز على أن القدوة الحسنة في الحياة البشرية هم الرسل.
وركز على تبيان أن الخلقين الرئيسيين الواجبي الاجتناب هما: الحسد والكبر، وهما خلقا الشيطان.
وركز على اتباع الوحي وترك اتباع الشيطان وأئمة الضلال.
هذه المعاني وغيرها تعرض لها القرآن المكي وركز عليها، ولكنها ليست خاصة به بل هي سمة القرآن كله.
ومن ههنا لا نجد مسوغاً للتمييز بين التكليف المكي والتكليف المدني، فنحن الآن مكلفون بالإسلام كله ومن جملته المرحلة المكية.
في العهد المكي وجدت مرحلة سرية، وللمسلمين إذا وجدت ظروف أن يلجأوا إلى الدعوة السرية، ولكن هل نحن مقيدون أن تكون هذه المرحلة السرية في حدود تلك المرحلة؟ ثم إذا خرجنا منها ألا نعود إليها، إن الذين يريدون أن يفهموا المرحلة المكية كذلك لا يدركون حقائق هذا الإسلام، فالفتوى تقدر زماناً ومكاناً وشخصاً، ونادراً ما تتكرر الظروف التي مرت في مرحلة بحيث تكن طبق الأصل، والشريعة الإسلامية جاءت لتلبي كل ظرف وكل وضع ولتعطيه الحكم المناسب المستخرج من الكتاب والسنة.
* * *
فإذا ما اتضح هذا الذي قدمناه وانتفى المحذور فإننا ننصح دارس القرآن الراغب في فهم المرحلة المكية أن يتأمل السور التي توصف بأنها مكية فإن ذلك يفتح عليه آفاقاً في الفهم والسلوك والدعوة، كما يعطيه كمالاً في فهم المرحلة من الناحية التاريخية والنفسية والعملية والتكليفية.
فمن خلال ذلك يدرك كيف تدرج التكليف، ويدرك الأوليات والأساسيات في هذا التكليف، ويدرك كيف تكامل البناء على الزمن، ويدرك لماذا استطاع هؤلاء العدد القليل أن يصهروا بعد ذلك أضعاف أضعافهم ثم استطاعوا هم ومن صهروهم أن يصهروا الشعوب والأمم، كما يستطيع أن يدرك مَن مِن الناس مؤهلون ومرشحون لبناء الدول والمحافظة عليها والتوسع من خلالها، إن هذا كله يتأتى لنا من خلال دراسة متأنية للقرآن المكي، وهذا شيء وأن تعتبر المرحلة المكية وحدها هي مناط التكليف شيء آخر، فنحن نحذر من هذا وندعو إلى ذاك.
* * *