الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: في هجرتي الحبشة
اشتد البلاء على المسلمين فوجد بعهم حماية وبعضهم لم يجد، ووجد هناك تطلع لحرية العبادة فكانت فكرة الهجرة إلى الحبشة حيث كان يحكمها ملك عادل.
كان عمر في تلك الأثناء مشركاً هو وحمزة، وقد دخلا في الإسلام في هذه المرحلة بعد ابتداء الهجرة إلى الحبشة وقبل حصار الشعب في السنة السابعة، وترتب على إسلامهما وضع جديد مما جعل قريشاً تفكر بوسائل جديدة، فاخترعت فكرة حصار الشعب، وهكذا تعددت أنواع الإيذاء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ماض يبلغ الناس في المواسم وحيثما لقيهم، أفراداً وجماعات.
والهجرة الأولى إلى الحبشة كانت في السنة الخامسة للبعثة وكان عدد الذين هاجروا فيها اثني عشر رجلاً وأربع نسوة، ورجع بعض هؤلاء على أثر سجود المشركين عند تلاوة سورة النجم، فوجدوا الأمر على أشده فكانت الهجرة الثانية إلى الحبشة، وتمت على دفعات، ومجموع من ذكرت أسماؤهم في الهجرة الثانية ثلاثة وثمانون رجلاً وثمان أو تسع عشرة امرأة.
102 -
* روى الطبراني عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أمه ليلى قالت: كان عمرُ ابن الخطاب من أشد الناس علينا في إسلامنا، فلما تهيأنا للخروج إلى أرض الحبشة، فأتى عمر بن الخطاب وأنا على بعيري وأنا أريد أن أتوجه، فقال: أين يا أم عبد الله؟ فقلت: آذيتمونا في ديننا فنذهب في أرض الله حيث لا نؤذي. فقال: صحبكم الله ثم ذهب، فجاء زوجي عامر بن ربيعة فأخبرته بما رأيت من رقة عمر، فقال: ترجين أن يُسلم، والله لا يسلم حتى يُسلم حمارُ الخطاب.
وهذا يد لعلى أن إسلام عمر تأخر إلى ما بعد البدء بالهجرة الأولى إلى الحبشة.
103 -
* روى الطبراني عن عروة في تسمية الذين خرجوا إلى الحبشة المرة الأولى قبل
102 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 22): رواه الطبراني وقد صرح ابن إسحاق بالسماع فهو صحيح.
103 -
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 22): رواه الطبراني في الكبير بلين وإرسال. قلت: وإنما ذكرناه ليتعرف القارئ على أسماء بعض من خرج في الهجرة الأولى.
خروج جعفر وأصحابه: الزبير بن العوام، سهل بن بيضاء، عامر بن ربيعة، عبد الله بن مسعود، عبد الرحمن بن عوف، عثمان بن عفان، مع امرأته رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم، عثمان ابن مظعون، مصعب بن عمير، أبو حذيفة بن عتبة، مع امرأته سهلة بنت سهيل، وولدت بالحبشة محمد بن أبي حذيفة، أبو سبرة بن أبي رهم، مع امرأته أم كلثوم بنت سهيل، أبو سلمة بن عبد الأسد، مع امرأته أم سلمة.
104 -
* روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجمِ، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس.
وراجت على أثر هذا السجود شائعة أن قرشاً ومن معها أسلم فرجع بعض الهاجرين فوجدوا الأمر على غير ما شاع فرجع بعضهم ودخل بعضهم مستخفياً أو بجوار.
105 -
* روى الطبراني والبزار عن عمير بن إسحاق قال: قال جعفر: يا رسول الله ائذنُ لي أن أتي أرضاً يعبدُ الله فيها لا أخاف أحداً، قال: فأذن له فيها، فأتى النجاشي.
قال عمير: حدثني عمرو بن العاص قال: لما رأيتُ جعفراً وأصحابه آمنين بأرض الحبشة حسدته قلت: لا تستقبلن لهذا وأصحابه فأتيتُ النجاشي فقلت: ائذن لعمرو بن العاص، فأذن لي، فدخلت فقلت: إن بأرضنا ابن عم لهذا يزعم أنه ليس للناس إلا إله واحد وإنا والله إن لم تُرحنا منه وأصحابه لاقطعتُ إليك هذه النطفة ولا حد من أصحابي أبداً، فقال: وأين هو؟ قلت: إنه يجيء مع رسولك إنه لا يجيء معي، فأرسل معي رسولا فوجدناه قاعداً بين أصحابه، فدعاه فجاء، فلما أتيتُ الباب ناديتُ ائذن لعمرو بن العاص، ونادى خلفي ائذن لحزب الله عز وجل فسمع صوته فأذن له قبلي، فدخل ودخلت، وإذا النجاشي على السرير قال: فذهبت حتى قعدت بين يديه وجعلته خلفي وجعلت بين كل رجلين من أصحابه رجلاً من أصحابي
104 - البخاري (8/ 614) 65 - كتاب التفسير (53) سورة النجم - 4 - باب (فاسجدوا لله واعبدوا).
105 -
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 29): رواه الطبراني والبزار وصدر الحديث في أوله له، وزاد في آخره قال: ثم كنت بعد من الذين أقبلوا في السفن مسلمين. وعمير بن إسحق وثقه ابن حبان وغيره وفيه كلام لا يضر، وبقية رجاله رجال الصحيح، وروى أبو يعلي بعضه ثم قال: فذكر الحديث بطوله، وانظر كشف الأستار: 2/ 297.
النطفة: الماء الصافي قل أو أكثر، والمراد به هنا ماء بحر جدة. القشرة: اللباس.
فقال النجاشيُّ: نجروا. قال عمرو: يعني تكلموا. قلت: إن بأرضك رجلاً ابن عمه بأرضنا ويزعم أنه ليس للناس إلا إله واحد، وإنك إنْ لم تقطعه وأصحابه لا أقطع إليك هذه النطفة أنا ولا أحد من أصحابي أبداً، قال جعفر: صدق ابن عمي وأنا على دينه، قال: فصاح صياحاً وقال: أوهِ، حتى قلت: ما لابن الحبشية لا يتكلم؟ وقال: أنامُوسٌ كناموس موسى؟.
قال: ما تقولون في عيسى بن مريم؟ قال: أقول هو روح الله وكلمته. قال: فتناول شيئا صمن الأرض، فقال: ما أخطأ في أمره مثل هذا، فوالله لولا مُلكي لاتبعتكم وقال لي: ما كنت أبالي أن لا تأتيني أنت ولا أحد من أصحابك أبداً، أنت آمن بأرضي، من ضربك قتلته، ومن سبك غرمتهُ، وقال لآذنه: متى استأذنك هذا فائذن له إلا أن أكون عند أهلي فإن أبي إلا أن تأذن له فأذن له.
قال: فتفرقنا ولم يكن أحد أحب إليّ أن ألقاهُ من جعفرٍ، قال: فاستقبلني من طريق مرة فنظرتُ خلفه فلم أر أحداً، فنظرتُ خلفي فلم أر أحداً فدنوت منه وقلت: أتعلم أني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، قال: فقد هداك الله فأثبت، فتركني وذهب، فأتيتُ أصحابي فكأنما شهدوه معي، فأخذوا قطيفة أو ثوباً فجعلوه علي حتى غموني بها قال، وجعلتُ أخرج رأسي من هذه الناحية مرة ومن هذه الناحية رمة حتى أفلتُ وما علي قشرة، فمررتُ على حبشية فأخذت قناعها فجعلته على عورتي، فأتيتُ جعفراً فدخلت عليه فقال: مالك؟ فقلتُ: أخذ كل شيءٍ لي ما ترك علي قشرة فأتيتُ حبشية فأخذت قناعها فجعلته على عورتي، فانطلق وانطلقت معه حتى أتى إلى باب الملك، فقال جعفر لآذنه: استأذن لي، قال: إنه عند أهله فأذن له فقلت: إن عمراً تابعني على ديني، قال: كلا، قلت: بلى، فقال لإنسان: اذهبْ معه فإن فعل فلا تقل شيئاً إلا كتبته، قال: فجاء فقال: نعم، فجعلتُ أقول وجعل يكتبُ حتى كتبتُ كل شيء حتى القدح، قال: ولو شئت آخذ شيئاً من أموالهم إلى مالي فعلتُ.
106 -
* (1) روى الطبراني عن ابن شهاب في تسمية من هاجر إلى أرض الحبشة فأقام بها
106 - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 31): رواه الطبراني ورجاله ثقات.
حتى قَدِم بعد بدرٍ: شرحبيل بن عبد الله بن حسنة وهي أمهُ.
107 -
* روى الطبراني عن أبي موسى، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى النجاشي، فبلغ ذلك قريشاً فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد وجمعا للنجاشي هدية، وقدِما على النجاشي فأتياه بالهدية فقبلها وسجدا له، ثم قال عمرو بن العاص: إن ناساً من أرضنا رغبوا عن ديننا وهم في أرضك، فقال لهم النجاشي: في أرضي؟ قالوا: نعم، فبعث إلينا، فقال لنا جعفر: ل يتكلم منكم أحد أنا خطيبكم اليوم، فانتهينا إلى النجاشي وهو جالس في مجلس وعمرو بن العاص عن يمينه وعُمارة عن يساره، والقسيسون والرهبان جلوس سماطين وقد قال له عمرو وعمارة إنهم لا يسجدون لك، فلما انتهينا بدرنا من عنده من القسيسين والرهبان: اسجدوا للملك.
فقال جعفر: إنا لا نسجد إلا لله، قال له النجاشي: وما ذاك؟ قال: إن الله بعث إلينا رسولاً وهوا لرسول الذي بشر به عيسى عليه السلام من بعده اسمه أحمد، فأمرنا أنْ نعبد الله ولا نشرك به شيئاً وأمرنا أن نقيم الصلاة وأن نؤتي الزكاة وأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر، فأعجب النجاشي قوله، فلما رأى ذلك عمرو قال: أصلح الله الملك إنهم يخالفونك في ابن مريم، فقال النجاشي: ما يقول صاحبكم في ابن مريم؟ قال: يقول فيه قول الله هو روح الله وكلمته أخرجه من العذراء البتول التي لم يقربها بشر ولم يفترضها ولد. فتناول النجاشي عوداً من الأرض فرفعه فقال: يا معشر القسيسين والرهبان ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذه، مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده أشهد أنه رسول الله وأنه الذي بشر به عيسى ولولا ما أنا فيه من المُلك لأتيته حتى أُقبل نعليه، امكثوا في أرضي ما شئتم، وأمر لنا بطعامٍ وكسوة، وقال: رُدوا على هذين هديتهما.
وكان عمرو بن العاص رجلاً قصيراً وكان عُمارة رجلاً جميلاً وكانا أقبلا إلى النجاشي فشربوا يعني خمراً ومع عمرو بن العاص امرأته، فلما شربوا من الخمر قال عمارة لعمرو:
107 - قال الهيثمي في مجمع الزوئد (6/ 30): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
سماطين: السماط: الصف يقال مشى بين سماطين: أ] بين صفين. لم يفترضها: لم يؤثر فيها ولم يجزها أي قبل المسح عليه السلام، طار مع الوحش: جُن وبار مع الوحوش.
مر امرأتك فلتقبلني. فقال له عمرو: ألا تستحي؟ فأخذ عمارة عمراً فرمى به في البحر فجعل عمرو يناشد عمارة حتى أدخله السفينة، فحقد عمرو على ذلك، فقال عمرو للنجاشي: إنك إذا خرجت خلفك عُمارة في أهلك. فدعا النجاشي عمارة. فنفخ في إحليله فطار مع الوحش.
108 -
* روى أحمد عن أم سلمة ابنة أمية بن المغيرة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جارٍ النجاشي أمنا على ديننا وعبدنا الله، لا نؤذي ولا نسمع شيئاً نكرهه، فلما بلغ ذلك قرشاً ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين، وأن يُهُدوا للنجاشي هدايا مما يُستطرف من متاع مكة، وكان أعجب ما يأتيه منها الأدم فجمعوا له أدماً كثيراً، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن ربيعة المخزومي وعمرو بن العاص بن وائل السهمي وأمروهما أمرهم، وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ثم قدموا للنجاشي هداياه، ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم.
قالت: فخرجا فقدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دارٍ، وعند خير جارٍ، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، ثم قالا لكل بطريق منهم: إنه قد صبا إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم لتردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فتشيروا عليه بأن يُسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم، فقالوا لهما: نعم. ثم قربا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك قد صبا إلى بلدك منا غِلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدعٍ لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعماهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً وأعلمُ بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن
108 - أحمد في مسنده (1/ 201) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 27)؛ رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع.
البطريق: الحاذق بالحرب وأمورها بلغة الروم وهو ذو منصب عندهم.
العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم، فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك، قومهم على بهم عيناً وأعلمُ بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما فيرداهم إلى بلادهم وقومهم.
فغضب النجاشي ثم قال: لا ها الله أيم الله، إذاً لا أسلمهم إليهما، ولا أكاد قوماً جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على منْ سواي، حتى أدعوهم فأسألهم ما يقول هذا في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني.
قال: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض، ما تقولون للرجل إذا جئتموه، قالوا: تقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائن في ذلك ما هو كائن، فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم فقال: ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أحدٍ من هذه الأمة؟
قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال: أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية: نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحُسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وشهادة الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. قال: فعدد عليه أمور الإسلام، فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله عز وجل، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نُظلم عندك أيها الملك.
قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيءٍ؟ قالت: فقال لهُ
جعفر: نعَمْ، فقال له النجاشي: فاقرأه. فقرأ عليه صدراً من {كهيعص} قالت: فبكى والله النجاشي حتى اخضل لحيتهُ وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والله والذي جاء به موسى ليخرجْ منْ مشكاةٍ واحدةٍ انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكما بداً ولا أكادُ.
قالت أم سلمة: فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لأنبئنهم غداً أيبهم عندهم ثم استأصل به خضراءهم، فقال له عبد الله بن أبي ربيعة وكان أتقى الرجلين فينا: لا تفعل فإن لهم أرحاماً وإن كانوا قد خالفونا قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عليه السلام عبدٌ.
قالت: ثم غدا عليه الغد فقال له: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فسألهم عما يقولون فيه. قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه. قلت: ولم ينزل بنا مثلها واجتمع القوم فقال بعضهم لبعض ما تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: تقول والله فيه ما قال الله سبحانه وتعالى وما جاء به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن، فلما دخلوا عليه قال لهم ما تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، قال: فضرب النجاشي يده إلى الأرض فأخذ منها عوداً ثم قال: ما غدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال.
فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم سُيومٌ بأرضي - والسيوم الآمنون - من سبكم غَرِمَ، فما أحبُّ أن لي دبراً ذهباً وأني آذيت رجلاً منكم (والدبر بلسان الحبشة: الجعل)، ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي مُلكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهُم فيه. قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاء به وأقمنا عنده بخير دارٍ مع خير جارٍ فوالله إنا على ذلك إذ تنزل به من يُنازعه في مُلكه
خضراءهم: أصلهم الذي منه تفرعوا. الناخرت: نخر ينخر نخيراً: مد الصوت في خياشيمه، استوسق: اتسق وانتظم.