الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
أقام الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وجوده في المدينة نوعين من التعاقدات، تعاقد على الإخاء الخاص بين أًحابه، وتعاقد بين المسلمين وغيرهم من سكان المدينة.
وهذه نصوص تشير أو تتحدث عن التعاقدات من النوع الأول:
243 -
* روى مسلم عن جبير بن مطعم، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حِلْفَ في الإسلام، وأيما حلفٍ كان في الجاهلية لم يزدهُ الإسلام إلا شدة".
قال ابن الأثير: (لا حِلْفَ في الإسلام) أصل الحِلْفِ: المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق، فما كان منه في الجاهلية على الفِتَنِ والقتال بين القبائل والغارات، فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام بقوله صلى الله عليه وسلم:"لا حِلْفَ في الإسلام" وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الأرحام، كحِلْفِ المطيبين وما جرى مجراه، فذلك الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم:"وأيما حلفٍ كان في الجاهلية لم يزدهُ الإسلام إلا شدة" يريد: من المعاقدةِ على الخير، والنصر للحقن وبذلك يجتمع الحديثان، وقد حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام بين قريش والأنصار، يعني: آخى بينهم، وهذا هو الحلف الذي يقتضيه الإسلام، والممنوع منه: ما خالف حكم الإسلام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر من المطيبين، وكان عمر من الأحلاف، والأحلاف ستُّ قبائل: عبد الدار، وجُمَح، ومخزوم، وعَديُّ، وكعب، وسهم، سُموا بذلك لأنهم لما أرادت بنو عبد مناف أخذ ما في أيدي عبد الدار؛ من الحجابة والرفادة واللواء والسقاية، وأبتْ عبدُ الدار، قعد كل قوم على أمرهم حلفاً مؤكداً على أن لا يتخاذلوا، فأخرجت بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيباً، فوضعتها لأحلافهم في المسجد عند الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها وتعاقدوا، وتعاقدت بنو عبد الدار
243 - مسلم (4/ 1961) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 50 - باب: مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه رضي الله تعالى عنهم.
وأبو داود (3/ 129) كتاب الفرائض - باب في الحلف.
وقال أبو داود: يريد: حلف المطيبين.
وحُلفاؤها حلفاً آخر مؤكداً على أن لا يتخاذلوا، فسموها الأحلاف لذلك.
244 -
* روى البخاري عن عاصم بن سليمان الأحول قال: قُلتُ لأنس بن مالك رضي الله عنه:
أبلغك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا حلف في الإسلام؟ " فقال: قد حالف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داري.
وعند أبي داود (1) قال: سمعتُ أنس بن مالك يقول: حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا، فقيل له: أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا حلف في الإسلام؟ فقال: حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا، مرتين أو ثلاثاً.
أقول: يرى بعض الناس أنه لا تجوز التعاقدات السياسية بين المسلمين وغيرهم، ومن ثم بين الجماعة الإسلامية وغير المسلمين أو غير الإسلاميين، وذلك خطأ ووهم، فحيثما وجدت مصلحة حقيقية للإسلام ولجماعة المسلمين جاز التحالف على أن يكون ذلك بشورى المسلمين وبالفتوى الصحيحة من أهلها، ونحن سنرى في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أن التحالفات كانت جزءاً من سيرته عليه الصلاة والسلام.
245 -
* روى أبو يعلي عن زيد بن حارثة أنه قال: يا رسول الله آخيت بيني وبين حمزة بن عبد المطلب.
246 -
* روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: آخى رسول الله صلى الله عليه سلم بين
244 - البخاري (4/ 472 * 39 - كتاب الكفالة - 2 - باب: قول الله تعالى (والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم).
ومسلم (4/ 1960) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 50 - باب: مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه رضي الله تعالى عنهم.
(1)
أبو داود (2/ 129) كتاب الفرائض - باب: في الحلف.
245 -
أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 171) وقال: رواه أبو يعلي ورجاله رجال الصحيح غير عبد الرحمن بن صالح الأزدي وهو ثقة.
246 -
مسلم (4/ 1960) 44 - كتاب فضائل الصحابة - 50 - باب: مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه رضي الله تعالى عنهم.
أبي عبيدة بن الجراح وبين أبي طلحة.
247 -
* روى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين الزبير وابن مسعود.
248 -
* روى أبو يعلي عن أنس رضي الله عنه قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، آخى بين سلمان وأبي الدرداء وبين عوف بن مالك وبين صعب بن جثامة.
149 -
* روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال في قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} (1) ورثة. {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} : كان المهاجرن لما قدموا المدينة يرث المهاجر الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نسخت ثم قال:{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويوصى له.
وبعقد الإخاء بين المهاجرين والأنصار حل رسول الله صلى الله عليه وسلم مشكلات الهجرة عن أقرب طريق وأسهله، وقد تحدث الشيخ الغزالي في كتابه فقه السيرة عن هذا الموضوع فقال:
أما أمر صلة الأمة بعضها بالبعض الآخر، فقد أقامه الرسول صلى الله عليه وسلم على الإخاء الكامل. الإخاء الذي تمحى فيه كلمة "أنا" ويتحرك الفرد فيه بروح الجماعة ومصلحتها وآمالها، فلا يرى لنفسه كياناً دونها، ولا امتداداً إلا فيها.
ومعنى هذا الإخاء، أن تذوب عصبيات الاجهلية، فلا حمية إلا للإسلام. وأن تسقط فوارق النسب واللون والوطن. فلا يتأخر أحد أو يتقدم إلا بمروءته وتقواه.
وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأخوة عقداً نافذاً، لا لفظاً فارغاً، وعملاً يرتبط بالدماء والأموال لا تحية تثرثر بها الألسنة ولا يقوم لها أثر.
247 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 171) وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير، ورجال الأوسط ثقات.
248 -
أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 171) وقال: رواه أبو يعلي ورجاله رجال الصحيح.
249 -
البخاري (8/ 247) 65 - كتاب التفسير - 7 - باب (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون ..).
(1)
النساء: 33.
وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة، وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال.
والإخاء الحق لا ينبت في البيئات الخسيسة، فحيث يشيع الجهل والنقص والجبن والبخل والجشع، لا يمكن انْ يصح إخاء، أو تترعرع محبة، ولولا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جُبلوا على شمائل نقية، واجتمعوا على مبادئ رضية، ما سجلت لهم الدنيا هذا التآخي الوثيق في ذات الله.
فسُمُوُّ الغاية التي التقوا عليها وجلال الأسوة التي قادتهم إليها، نميا فيهم خِلال الفضل والشرف، ولم يدعا مكاناً لنجوم خِلَّة رديئة.
ذلك، ثم إن محمداً عليه الصلاة والسلام كان إنساناً، تجمع فيه ماتفرق في عالم الإنسان كله من أمجاد ومواهب وخيرات، فكان صورة لأعلى قمة من الكمال يمكن أن يبلغها بشر، فلا غرو إذا كان الذين قبسُوا منه، وداروا في فلكه، رجالاً يحيون بالنجدة والوفاء والسخاء.
إن الحب كالنبع الدافق يسيل وحده، ولا يُتكلف استخراجه بالآلات والأثقال، والأخوة لا تُفرض بقوانين ومراسيم، وإنما هي أثر تخلص الناس من نوازع الأثرة والشُّح والضعة.
وقد تُبودلت الأخوة بين المسلمين الأولين، لأنهم ارتقوا - بالإسلام - في نواحي حياتهم كلها، فكانوا عباد الله إخوانا، ولو كانوا عبيد أنفسهم ما أبقى بعضهم على بعض.
وقد ظلت عقود الإخاء مقدمة على حقوق القرابة في توارث التركات إلى موقعة (بدر) حتى نزل قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) فألغى التوارث بعقد الأخوة، ورجع إلى ذوي الرحم.
* * *
(1) الأنفال: 75.