الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قالت: فوالله ما علمنا حُزناً قط كان أشد من حزن حزناه عند ذلك تخوفاً أن يظهر ذلك على النجاشي فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرفه منه. وقالت: وسار النجاشي وبينهما عرضُ النيل. قالت: فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجلٌ يخرج حتى يحضر القوم ثم يأتينا بالخبر. قالت: فقال الزبير بن العوام: أنا. قلت: وكان من أحدث القوم سناً، قالت: فنفخوا له قرية فجعلوها في صدره ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم ثم انطلق حتى حضرهم، قالت: ودعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده، واستوسق عليه أمر الحبشة فكنا عنده في خير منزلٍ حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة.
* * *
دروس من الهجرة إلى الحبشة:
1 -
هناك ناس يعتبرون مجرد التفكير في أمن الدعوة ورجالها ونسائها علامة ضعف، ويعتبرون البحث عن الأمن والأمان جريمة، وهذا تفكير ناس قطع الله قلوبهم عن أن تستشعر حاجات الإنسان، نعم لا يصح أن يكون البحث عن الأمن والأمان على حساب الدعوة إلا في الحدود التي رخص فيها الإسلام، والرخصة في محلها طيبة، فهذا عمار بن ياسر قال كلمة الكفر تحت التعذيب، وهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجروا إلى الحبشة بحثاً عن الأمن والأمان، والعبرة في النهاية لإذن القيادة الراشدة ولحسن تقديرها.
2 -
لقد هاجر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قطرٍ كافر فيه عدالة وحرية يستطيعون من خلالها أن يأمنوا وأن يقيموا شعائر الإسلام، وهذا يفتح أمامنا آفاقاً واسعة في العمل والحركة، فهناك بلدان في العالم تسمح للمسلم بأن يقيم شعائره الدينية وتعامله كما تعامل أبناءها في الحقوق والواجبات، مثل هذه البلدان تصلح للتفكير فيها إذا ما اضطهد المسلم في بلده بل تصلح للإقامة فيها، ولا حرج إذا ما ضمن المسلم إمكانية تربية أسرته بل قال فقهاء الشافعية: لو أن مسلماً استطاع أن يظهر شعائر الإسلام في دار كفر، فالأولى له البقاء لأنه بذلك تصبح داره دار إسلام في أرض كفرن والمسألة تخضع في النهاية للموازنات بين المصالح
والأضرار كما تخضع للفتوى البصيرة من أهلها.
3 -
يلاحظ أن مهاجري الحبشة لم يكلفوا بأية مهام دعوية على أرض الحبشة، وهذا يفتح أمامنا باباً واسعاً في آداب المسلم إذا ما اضطرته ظروفه إلى هجرة، فإنه في هذه الحالة يسعه أن يلاحظ قوانين البلد الآخر وألا يتدخل في شؤونه الداخلية إلا بالقدر الذي يسمح به البلد الآخر، والأمر واسع فهو يدور بين رخصة وعزيمة وللقيادة الراشدة دور في تحديد العمل المطلوب من المهاجرين على أن لا يقع غدر أو نكث أو خيانة من قِبَلِنا، ولئن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكلف جعفراً وأصحابه بالدعوة فإن هناك روايات تفيد أن جعفراً قد دعا واستجيب له.
4 -
من قصة النجاشي ابتداء وانتهاء نصل إلى قضية على غاية من الأهمية في العمل الحركي، فالنجاشي أسلم في النهاية، وبقي على رأس نظام له قوانين غير إسلامية، وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك منه وصلى عليه لما مات، وهذا يفيد أن الحكم على نظام بالكفر لا يعني الحكم على كل فرد فيه بذلك، بل قد يوجد نظام كافر ويحكم للرأس المدبر لهذا النظام بالإسلام ظاهراً وباطناً، كما هو حال النجاشي.
5 -
نذكر بمناسبة الكلام عن الهجرية الأولى للحبشة الأولى للحبشة حادثة سجود المشركين عندما سمعوا سورة "النجم" ويذكر في سياق ذلك حادثة الغرانيق من أن الشيطان أسمع المشركين تمجيداً من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصنامهم أثناء تلاوته عليه الصلاة والسلام، وتلك قصة باطلة لا أصل لها.
6 -
وفي حكم الهجرة قال الدكتور البوطي: أما الهجرة من دار الإسلام فحكمها بين الوجوب والجواز والحرمة: أما الوجوب فيكون عند عدم تمكن المسلم من القيام بالشعائر الإسلامية فيها كالصلاة والصيام والأذان والحج .. ، وأما الجواز فيكون عندما يصبه فيها بلاء يضيق به، فيجوز له أن يخرج منها إلى دار إسلامية أخرى، وأما الحرمة فتكون عندما تستلزم هجرته إهمال واجب من الواجبات الإسلامية لا يقوم به غيره.
7 -
وقال الدكتور البوطي تلعيقاً على حادثة الهجرة إلى الحبشة:
يجوز للمسلمين أن يدخلوا في حماية غير المسلمين إذا دعت الحاجة إلى ذلك سواء كان المجير من أهل الكتاب كالنجاشي - إذ كان نصرانياً عندئذ ولكنه أسلم بعد ذلك -، أو كان مشركاً كأولئك الذين عاد المسلمون إلى مكة في حمايتهم عندما رجعوا من الحبشة، وكأبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم وكالمطعم بن عدي الذي دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة في حمايته عندما رجع من الطائف.
8 -
قال الدكتور السباعي رحمه الله: إن على الداعية إذ وجد جماعته في خطر على حياتهم أو معتقداتهم من الفتنة، أن يهيئ لهم مكاناً يأمنون فيه من عدوان المبطلين، ولا ينافي ذلك ما يجب على دعاة الحق من تضحية، فإنهم إذا كانوا قلة استطاع المبطلون أن يقضوا عليهم قضاءاً مبرماً، فيتخلصوا من دعوتهم، وفي وجودهم في مكان آمن ضمان لاستمرار الدعوة وانتشارها.
9 -
وقال: إن في أمر الرسول أصحابه أولاً وثانياً بالهجرة إلى الحبشة، ما يدل على أن رابطة الدين بين المتدينين - ولو اختلفت دياناتهم - هي أقوى وأوثق من رابطتهم مع الوثنيين والملحدين.
10 -
وقال: إن المبطلين لا يستسلمون أمام أهل الحق بسهولة ويسر، فهم كلما أخفقت لهم وسيلة من وسائل المقاومة والقضاء على دعوة الحق، ابتكروا وسائل أخرى، وهكذا حتى ينتصر الحق انتصاره النهائي ويلفظ الباطل أنفاسه الأخيرة.
* * *