الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتَابُ الْحَجِّ
لَا يَجِبُ الْحَجُّ بِأَصْلِ الشَّرْعِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. وَقَدْ يَجِبُ زِيَادَةً لِعَارِضٍ كَالنَّذْرِ أَوِ الْقَضَاءِ، أَوْ لِدُخُولِ مَكَّةَ عَلَى قَوْلٍ. وَمَنْ حَجَّ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ إِنَّمَا تُحْبِطُ الْعَمَلَ إِذَا اتَّصَلَ بِهَا الْمَوْتُ.
فَصْلٌ
يَنْقَسِمُ النَّاسُ فِي الْحَجِّ إِلَى مَنْ يَصِحُّ لَهُ الْحَجُّ، وَمَنْ يَصِحُّ مِنْهُ بِالْمُبَاشَرَةِ، وَمَنْ يَقَعُ لَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ. فَأَمَّا الصِّحَّةُ الْمُطْلَقَةُ فَشَرْطُهَا: الْإِسْلَامُ فَقَطْ. فَلَا يَصِحُّ حَجُّ كَافِرٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّكْلِيفُ. فَيَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُحْرِمَ عَنِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ وَعَنِ الْمَجْنُونِ. وَأَمَّا صِحَّةُ الْمُبَاشَرَةِ، فَشَرْطُهَا: الْإِسْلَامُ، وَالتَّمْيِيزُ. فَلَا تَصِحُّ مُبَاشَرَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ، وَتَصِحُّ مِنَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَالْعَبْدِ. وَسَيَأْتِي هَذَا كُلُّهُ فِي بَابِ حَجِّ الصَّبِيِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا وُقُوعُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَلَهُ شَرْطَانِ زَائِدَانِ: الْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ. وَلَوْ تَكَلَّفَ الْفَقِيرُ الْحَجَّ وَقَعَ عَنِ الْفَرْضِ. وَأَمَّا وُجُوبُ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَشُرُوطُهُ خَمْسَةٌ: الْإِسْلَامُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْعَقْلُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالِاسْتِطَاعَةُ.
فَرْعٌ
الِاسْتِطَاعَةُ نَوْعَانِ: اسْتِطَاعَةُ مُبَاشَرَةٍ بِنَفْسِهِ، وَاسْتِطَاعَةُ تَحْصِيلِهِ بِغَيْرِهِ. فَالْأُولَى تَتَعَلَّقُ بِخَمْسَةِ أُمُورٍ: الرَّاحِلَةُ، وَالزَّادُ، وَالطَّرِيقُ، وَالْبَدَنُ، وَإِمْكَانُ السَّيْرِ.
فَالْأَوَّلُ: الرَّاحِلَةُ. وَالنَّاسُ فِيهَا قِسْمَانِ. أَحَدُهُمَا: مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسَافَةُ الْقَصْرِ، فَلَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ إِلَّا إِذَا وَجَدَ رَاحِلَةً، سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى الْمَشْيِ أَمْ لَا، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لِلْقَادِرِ الْحَجُّ. وَهَلِ الْحَجُّ رَاكِبًا أَفْضَلُ أَمْ مَاشِيًا؟ فِيهِ قَوْلَانِ سَنُوَضِّحُهُمَا فِي كِتَابِ النَّذْرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قُلْتُ: الْمَذْهَبُ: أَنَّ الرُّكُوبَ أَفْضَلُ؛ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِأَنَّهُ أَعْوَنُ لَهُ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى مُهِمَّاتِ الْعِبَادَةِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
ثُمَّ إِنْ كَانَ يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ مِنْ غَيْرِ مَحْمِلٍ، وَلَا يَلْحَقُهُ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ، لَمْ يُعْتَبَرْ فِي حَقِّهِ إِلَّا وِجْدَانُ الرَّاحِلَةِ، وَإِلَّا فَيُعْتَبَرُ مَعَهَا وِجْدَانُ الْمَحْمِلِ. قَالَ فِي الشَّامِلِ: وَلَوْ لَحِقَهُ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ فِي رُكُوبِ الْمَحْمِلِ، اعْتُبِرَ فِي حَقِّهِ الْكَنِيسَةُ. وَذَكَرَ الْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ: أَنَّ الْمَرْأَةَ يُعْتَبَرُ فِي حَقِّهَا الْمَحْمِلُ وَأَطْلَقُوا؛ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا. ثُمَّ الْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِرُكُوبِ اثْنَيْنِ فِي الْمَحْمِلِ، فَإِذَا وَجَدَ مُؤْنَةَ مَحْمِلٍ، أَوْ شِقِّ مَحْمِلٍ، وَوَجَدَ شَرِيكًا يَرْكَبُ فِي الشِّقِّ الْآخَرِ، لَزِمَهُ الْحَجُّ. وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الشَّرِيكَ فَلَا يَلْزَمُهُ، سَوَاءٌ وَجَدَ مُؤْنَةَ الْمَحْمِلِ أَوِ الشِّقِّ، كَذَا قَالَهُ فِي الْوَسِيطِ وَكَانَ لَا يَبْعُدُ تَخْرِيجُهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي لُزُومِ أُجْرَةِ الْبَذْرَقَةِ. وَفِي كَلَامِ الْإِمَامِ إِشَارَةٌ إِلَيْهِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَنْ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسَافَةُ الْقَصْرِ. فَإِنْ كَانَ قَوِيًّا عَلَى الْمَشْيِ لَزِمَهُ الْحَجُّ، وَلَا تُعْتَبَرُ الرَّاحِلَةُ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَا يَقْوَى لِلْمَشْيِ، أَوْ يَنَالُهُ بِهِ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ، اشْتُرِطَتِ الرَّاحِلَةُ وَالْمَحْمِلُ أَيْضًا إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الرُّكُوبُ بِدُونِهِ. وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّ الْقَرِيبَ كَالْبَعِيدِ مِنْهُ مُطْلَقًا، وَهُوَ شَاذٌّ مُنْكَرٌ، وَلَا يُؤْمَرُ بِالزَّحْفِ بِحَالٍ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ.
قُلْتُ: وَحَكَى الدَّارِمِيُّ وَجْهًا ضَعِيفًا عَنْ حِكَايَةِ ابْنِ الْقَطَّانِ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْحَبْوُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَحَيْثُ اعْتَبَرْنَا وُجُودَ الرَّاحِلَةِ وَالْمَحْمِلِ فَالْمُرَادُ أَنْ يَمْلِكَهُمَا أَوْ يَتَمَكَّنَ مِنْ تَمَلُّكِهِمَا أَوِ اسْتِئْجَارِهِمَا بِثَمَنِ الْمِثْلِ، أَوْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَا يَصْرِفُهُ فِيهِمَا مِنَ الْمَالِ فَاضِلًا عَمَّا يُشْتَرَطُ كَوْنُ الزَّادِ فَاضِلًا عَنْهُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْأَمْرُ الثَّانِي: الزَّادُ.
فَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ أَنْ يَجِدَ الزَّادَ وَأَوْعِيَتَهُ، وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي السَّفَرِ. فَإِنْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ، أَوْ عَشِيرَةٌ، اشْتُرِطَ ذَلِكَ لِذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا، فَكَذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ.
وَعَلَى الثَّانِي: لَا يُشْتَرَطُ لِلرُّجُوعِ.
وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي اشْتِرَاطِ الرَّاحِلَةِ لِلرُّجُوعِ، وَهَلْ يُخَصُّ الْوَجْهَانِ بِمَا إِذَا لَمْ يَمْلِكْ بِبَلَدِهِ مَسْكَنًا، أَمْ لَا؟
فِيهِ احْتِمَالَانِ لِلْإِمَامِ أَصَحُّهُمَا عِنْدَهُ: التَّخْصِيصُ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِلرُّجُوعِ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ عَشِيرَةٌ وَأَهْلٌ. وَهَذَا شَاذٌّ مُنْكَرٌ، وَلَيْسَ الْمَعَارِفُ وَالْأَصْدِقَاءُ كَالْعَشِيرَةِ، لِأَنَّ الِاسْتِبْدَالَ بِهِمْ مُتَيَسِّرٌ.
فَرْعٌ
يُشْتَرَطُ كَوْنُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَاضِلًا عَنْ نَفَقَةِ مَنْ لَزِمَهُ نَفَقَتُهُمْ، وَكُسْوَتُهُمْ مُدَّةَ ذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ. وَفِي اشْتِرَاطِ كَوْنِهِمَا فَاضِلَيْنِ عَنْ مَسْكَنٍ وَخَادِمٍ يَحْتَاجُ إِلَى خِدْمَتِهِ، لِزَمَانَتِهِ أَوْ مَنْصِبِهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: يُشْتَرَطُ كَمَا يُشْتَرَطُ فِي الْكَفَّارَةِ، وَكَدِسْتِ ثَوْبٍ يَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ مَعَهُ نَقْدٌ جَازَ صَرْفُهُ إِلَيْهِمَا. وَهَذَا فِيمَا إِذَا كَانَتِ الدَّارُ مُسْتَغْرِقَةً بِحَاجَتِهِ، وَكَانَتْ سُكْنَى مِثْلِهِ، وَالْعَبْدُ عَبْدٌ مِثْلُهُ. فَأَمَّا إِذَا أَمْكَنَ بَيْعُ بَعْضِ الدَّارِ وَوَفَّى ثَمَنُهُ بِمُؤْنَةِ الْحَجِّ، أَوْ كَانَا نَفِيسَيْنِ لَا يَلِيقَانِ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ أَبْدَلَهُمَا لَوَفَّى التَّفَاوُتُ بِمُؤْنَةِ الْحَجِّ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ. هَكَذَا أَطْلَقُوهُ هُنَا. لَكِنْ فِي بَيْعِ الدَّارِ وَالْعَبْدِ النَّفِيسَيْنِ الْمَأْلُوفَيْنِ فِي الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ. وَلَا بُدَّ مِنْ جَرَيَانِهِمَا هُنَا.
قُلْتُ: لَيْسَ جَرَيَانُهُمَا بِلَازِمٍ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ لِلْكَفَّارَةِ بَدَلًا؛ وَلِهَذَا اتَّفَقُوا عَلَى تَرْكِ الْخَادِمِ وَالْمَسْكَنِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِمَا هُنَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
فَرْعٌ
لَوْ كَانَ لَهُ رَأْسُ مَالٍ يَتَّجِرُ فِيهِ وَيُنْفِقُ مِنْ رِبْحِهِ وَلَوْ نَقَصَ بَطَلَتْ تِجَارَتُهُ، أَوْ كَانَتْ لَهُ مُسْتَغَلَّاتٌ يُحَصِّلُ مِنْهَا نَفَقَتَهُ، فَهَلْ يُكَلَّفُ بَيْعَهَا؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: يُكَلَّفُ، كَمَا يُكَلَّفُ بَيْعَهَا فِي الدَّيْنِ، وَيُخَالِفُ الْمَسْكَنُ وَالْخَادِمُ، فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِمَا فِي الْحَالِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ يَتَّخِذُهُ ذَخِيرَةً.
فَرْعٌ
لَوْ مَلَكَ فَاضِلًا عَنِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ، وَاحْتَاجَ إِلَى النِّكَاحِ لِخَوْفِهِ الْعَنَتَ، فَصَرْفُ الْمَالِ إِلَى النِّكَاحِ أَهَمُّ مِنْ صَرْفِهِ إِلَى الْحَجِّ.
هَذِهِ عِبَارَةُ الْجُمْهُورِ. وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ حَاجَةَ النِّكَاحِ نَاجِزَةٌ، وَالْحَجُّ عَلَى التَّرَاخِي. وَالسَّابِقُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْهُ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَجُّ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، وَيَصْرِفُ مَا مَعَهُ فِي النِّكَاحِ. وَقَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ بِهَذَا، وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ قَالُوا: يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى مَنْ أَرَادَ التَّزَوُّجَ، لَكِنْ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ لِوُجُوبِهِ عَلَى التَّرَاخِي. ثُمَّ إِنْ لَمْ يَخَفِ الْعَنَتَ، فَتَقْدِيمُ الْحَجِّ أَفْضَلُ، وَإِلَّا فَالنِّكَاحُ أَفْضَلُ.
قُلْتُ: هَذَا الَّذِي نَقَلَهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ. وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ وَاضِحًا فِي شَرْحِ «الْمُهَذَّبِ» . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
فَرْعٌ
لَوْ لَمْ يَجِدْ مَا يَصْرِفُهُ إِلَى الزَّادِ، لَكِنَّهُ كَسُوبٌ يَكْسِبُ مَا يَكْفِيهِ، وَوَجَدَ نَفَقَةَ أَهْلِهِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ تَعْوِيلًا عَلَى الْكَسْبِ؟ حَكَى الْإِمَامُ عَنْ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ السَّفَرُ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا، وَلَا يَكْسِبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ إِلَّا كِفَايَةَ يَوْمِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّهُ يَنْقَطِعُ عَنِ الْكَسْبِ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ. وَإِنْ كَانَ السَّفَرُ قَصِيرًا، وَيَكْسِبُ فِي يَوْمٍ كِفَايَةَ أَيَّامٍ، لَزِمَهُ الْخُرُوجُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ، فَإِنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْكَسْبِ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ لَا تُجْعَلُ كَمِلْكِ الصَّاعِ.
فَرْعٌ
وَيُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ مَالُهُ مَعَ مَا ذَكَرْنَا فَاضِلًا عَنْ قَضَاءِ دَيْنٍ عَلَيْهِ، مُؤَجَّلًا كَانَ أَمْ حَالًّا.
وَفِيهِ وَجْهٌ:
أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْأَجَلُ بِحَيْثُ يَنْقَضِي بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنَ الْحَجِّ لَزِمَهُ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَلَوْ كَانَ مَالُهُ دَيْنًا يَتَيَسَّرُ تَحْصِيلُهُ فِي الْحَالِ، بِأَنْ كَانَ حَالًّا عَلَى مَلِئِ مُقِرٍّ، أَوْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَهُوَ كَالْحَاصِلِ فِي يَدِهِ. وَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ بِأَنْ كَانَ مُؤَجَّلًا أَوْ عَلَى مُعْسِرٍ، أَوْ جَاحِدٍ لَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ، فَكَالْمَعْدُومِ.
الْأَمْرُ الثَّالِثُ: الطَّرِيقُ.
فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْأَمْنُ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: النَّفْسُ، وَالْبِضْعُ، وَالْمَالُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَيْسَ الْأَمْنُ الْمَطْلُوبُ قَطْعِيًّا، وَلَا يُشْتَرَطُ الْأَمْنُ الْغَالِبُ فِي الْحَضَرِ بَلِ الْأَمْنُ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ. فَأَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ، النَّفْسُ. فَمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ سَبُعٍ، أَوْ عَدُوٍّ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ، إِنْ لَمْ يَجِدْ طَرِيقًا آخَرَ آمِنًا. فَإِنْ وَجَدَهُ لَزِمَهُ سَوَاءٌ كَانَ مِثْلَ مَسَافَةِ طَرِيقِهِ أَوْ أَبْعَدَ، إِذَا وَجَدَ مَا يَقْطَعُهُ بِهِ. وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ سُلُوكُ الْأَبْعَدِ.
وَلَوْ كَانَ فِي الطَّرِيقِ بَحْرٌ، فَإِنْ كَانَ فِي الْبَرِّ طَرِيقٌ أَيْضًا، لَزِمَهُ الْحَجُّ قَطْعًا، وَإِلَّا فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْغَالِبُ مِنْهُ الْهَلَاكَ إِمَّا لِخُصُوصِ ذَلِكَ الْبَحْرِ، وَإِمَّا لِهَيَجَانِ الْأَمْوَاجِ لَمْ يَجِبْ. وَإِنْ غَلَبَتِ السَّلَامَةُ وَجَبَ. وَإِنِ اسْتَوَيَا فَوَجْهَانِ.
قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: لَا يَجِبُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَقِيلَ: يَجِبُ مُطْلَقًا. وَقِيلَ: لَا يَجِبُ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَتْ عَادَتُهُ رُكُوبَهُ وَجَبَ، وَإِلَّا فَلَا. وَإِذَا قُلْنَا: لَا يَجِبُ اسْتُحِبَّ عَلَى الْأَصَحِّ
إِنْ غَلَبَتِ السَّلَامَةُ. وَإِنْ غَلَبَ الْهَلَاكُ حَرُمَ. وَإِنِ اسْتَوَيَا، فَفِي التَّحْرِيمِ وَجْهَانِ.
قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: التَّحْرِيمُ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَوْ تَوَسَّطَ الْبَحْرَ وَقُلْنَا: لَا يَجِبُ رُكُوبُهُ فَهَلْ يَلْزَمُهُ التَّمَادِي أَمْ يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ؟ نُظِرَ إِنْ كَانَ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ أَكْثَرَ، فَلَهُ الرُّجُوعُ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ لَزِمَهُ التَّمَادِي قَطْعًا. وَإِنِ اسْتَوَيَا، فَوَجْهَانِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَلْزَمُهُ التَّمَادِي. وَالْوَجْهَانِ فِيمَا إِذَا كَانَ لَهُ فِي الرُّجُوعِ طَرِيقٌ غَيْرُ الْبَحْرِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَهُ الرُّجُوعُ قَطْعًا؛ لِئَلَّا يَتَحَمَّلَ زِيَادَةَ الْأَخْطَارِ. هَذَا كُلُّهُ فِي الرَّجُلِ. فَأَمَّا الْمَرْأَةُ، فَفِيهَا خِلَافٌ مُرَتَّبٌ وَأَوْلَى بِعَدَمِ الْوُجُوبِ لِضَعْفِهَا عَنِ احْتِمَالِ الْأَهْوَالِ، وَلِكَوْنِهَا عَوْرَةً مُعَرَّضَةً لِلِانْكِشَافِ وَغَيْرِهِ لِضِيقِ الْمَكَانِ. فَإِنْ لَمْ نُوجِبْ عَلَيْهَا، لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهَا. وَقِيلَ بِطَرْدِ الْخِلَافِ. وَلَيْسَتِ الْأَنْهَارُ الْعَظِيمَةُ كَجَيْحُونَ فِي حُكْمِ الْبَحْرِ؛ لِأَنَّ الْمُقَامَ فِيهَا لَا يَطُولُ، وَالْخَطَرَ فِيهَا لَا يَعْظُمُ. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: أَنَّهَا كَالْبَحْرِ. وَأَمَّا الْبِضْعُ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْحَجُّ حَتَّى تَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهَا بِزَوْجٍ، أَوْ مَحْرَمٍ بِنَسَبٍ أَوْ بِغَيْرِ نَسَبٍ، أَوْ نِسْوَةٍ ثِقَاتٍ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَعَ إِحْدَاهُنَّ مَحْرَمٌ؟
وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا؛ لِأَنَّ الْأَطْمَاعَ تَنْقَطِعُ بِجَمَاعَتِهِنَّ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَلْزَمْهَا الْحَجُّ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَفِي قَوْلٍ: يَلْزَمُهَا إِذَا وَجَدَتِ امْرَأَةً وَاحِدَةً. وَفِي قَوْلٍ اخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ، وَنَقَلَهُ الْكَرَابِيسِيُّ: أَنَّهُ يَلْزَمُهَا أَنْ تَخْرُجَ وَحْدَهَا إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ مَسْلُوكًا، كَمَا يَلْزَمُهَا الْخُرُوجُ إِذَا أَسْلَمَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَحْدَهَا. وَجَوَابُ الْمَذْهَبِ عَنْ هَذَا أَنَّ الْخَوْفَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَكْثَرُ مِنَ الطَّرِيقِ.
هَذَا فِي حَجِّ الْفَرْضِ، وَهَلْ لَهَا الْخُرُوجُ إِلَى سَائِرِ الْأَسْفَارِ مَعَ النِّسَاءِ الْخُلَّصِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: لَا يَجُوزُ.
أَمَّا الْمَالُ، فَلَوْ خَافَ عَلَى مَالِهِ فِي الطَّرِيقِ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ رَصَدِيٍّ، لَمْ يَجِبِ الْحَجُّ وَإِنْ كَانَ الرَّصَدِيُّ يَرْضَى بِشَيْءٍ يَسِيرٍ، إِذَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ الطَّرِيقُ، وَسَوَاءٌ
كَانَ الَّذِي يَخَافُهُ مُسْلِمِينَ أَوْ كُفَّارًا. لَكِنْ إِذَا كَانُوا كُفَّارًا وَأَطَاقُوا مُقَاوَمَتَهُمْ، يُسْتَحَبُّ لَهُمُ الْخُرُوجُ لِلْحَجِّ، وَيُقَاتِلُونَهُمْ لِيَنَالُوا الْحَجَّ وَالْجِهَادَ جَمِيعًا، وَإِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ لَمْ يُسْتَحَبَّ الْخُرُوجُ وَالْقِتَالُ. وَيُكْرَهُ بَذْلُ الْمَالِ لِلرَّصْدِيِّينَ؛ لِأَنَّهُمْ يَحْرِصُونَ عَلَى التَّعَرُّضِ لِلنَّاسِ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَلَوْ بَعَثُوا بِأَمَانِ الْحَجِيجِ، وَكَانَ أَمَانُهُمْ مَوْثُوقًا، أَوْ ضُمِنَ لَهُمْ مَا يَطْلُبُونَهُ، وَأَمِنَ الْحَجِيجُ لَزِمَهُمُ الْحَجُّ. وَلَوْ وَجَدُوا مَنْ يَخْفُرُهُمْ بِأُجْرَةٍ وَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَمْنُهُمْ بِهِ فَفِي لُزُومِ اسْتِئْجَارِهِ وَجْهَانِ.
قَالَ الْإِمَامُ: أَصَحُّهُمَا: لُزُومُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أُهَبِ الطَّرِيقِ كَالرَّاحِلَةِ. وَلَوِ امْتَنَعَ مَحْرَمُ الْمَرْأَةِ مِنَ الْخُرُوجِ مَعَهَا إِلَّا بِأُجْرَةٍ، قَالَ الْإِمَامُ: فَهُوَ مُرَتَّبٌ عَلَى أُجْرَةِ الْخَفِيرِ، وَاللُّزُومُ فِي الْمَحْرِمِ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى الْأُجْرَةِ مَعْنِيٌّ فِي الْمَرْأَةِ، فَأَشْبَهَ مُؤْنَةَ الْمَحْمِلِ فِي حَقِّ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ.
فَرْعٌ
يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ وُجُودُ الزَّادِ وَالْمَاءِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي جَرَتِ الْعَادَةُ بِحَمْلِ الزَّادِ وَالْمَاءِ مِنْهَا. فَإِنْ كَانَتْ سَنَةَ جَدْبٍ، وَخَلَا بَعْضُ تِلْكَ الْمَنَازِلِ مِنْ أَهْلِهَا، أَوِ انْقَطَعَتِ الْمِيَاهُ، لَمْ يَجِبِ الْحَجُّ. وَكَذَا لَوْ كَانَ يَجِدُ فِيهَا الزَّادَ وَالْمَاءَ، لَكِنْ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ، وَهُوَ الْقَدْرُ اللَّائِقُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. وَإِنْ وَجَدَهُمَا بِثَمَنِ الْمِثْلِ لَزِمَ التَّحْصِيلُ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْأَسْعَارُ رَخِيصَةً أَوْ غَالِيَةً إِذَا وَفَّى مَالُهُ بِهِ. وَيَجِبُ حَمْلُهَا بِقَدْرِ مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِهِ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ زَادَهَا اللَّهُ تَعَالَى شَرَفًا، كَحَمْلِ الزَّادِ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى مَكَّةَ، وَحَمْلِ الْمَاءِ مِنْ مَرْحَلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ إِذَا قُدِرَ عَلَيْهِ، وَوُجِدَ آلَاتُ الْحَمْلِ.
أَمَّا عَلَفُ الدَّابَّةِ، فَيُشْتَرَطُ وَجُودُهُ فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ تَعْظُمُ بِحَمْلِهِ لِكَثْرَتِهِ. ذَكَرَهُ صَاحِبَا «التَّهْذِيبِ» وَ «التَّتِمَّةِ» وَغَيْرُهُمَا.
قُلْتُ: إِذَا ظَنَّ كَوْنَ الطَّرِيقَ فِيهِ مَانِعٌ مِنْ عَدُوٍّ، أَوْ عَدَمِ مَاءٍ، أَوْ عَلَفٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَتَرَكَ الْحَجَّ، ثُمَّ بَانَ أَنْ لَا مَانِعَ، فَقَدْ لَزِمَهُ الْحَجُّ. صَرَّحَ بِهِ الدَّارِمِيُّ.
وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ وُجُودَ الْمَانِعِ وَلَا عَدَمَهُ، قَالَ الدَّارِمِيُّ: إِنْ كَانَ هُنَاكَ أَصْلٌ عَمِلَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا وَجَبَ الْحَجُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
فَرْعٌ
قَالَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرُهُ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَجِدَ رُفْقَةً يَخْرُجُ مَعَهُمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ بَلَدِهِ بِالْخُرُوجِ فِيهِ. فَإِنْ خَرَجُوا قَبْلَهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْخُرُوجُ مَعَهُمْ. وَإِنْ أَخَّرُوا الْخُرُوجَ بِحَيْثُ لَا يَبْلُغُونَ إِلَّا بِأَنْ يَقْطَعُوا فِي كُلِّ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ مَرْحَلَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ أَيْضًا. فَإِنْ كَانَتِ الطَّرِيقُ بِحَيْثُ لَا يَخَافُ الْوَاحِدُ فِيهَا، لَزِمَهُ وَلَا حَاجَةَ إِلَى الرُّفْقَةِ.
الْأَمْرُ الرَّابِعُ: الْبَدَنُ.
وَيُشْتَرَطُ فِيهِ لِاسْتِطَاعَةِ الْمُبَاشَرَةِ قُوَّةٌ يَسْتَمْسِكُ بِهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ. وَالْمُرَادُ: أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ بِلَا مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ، فَإِنْ وَجَدَ مَشَقَّةً شَدِيدَةً لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَلَيْسَ مُسْتَطِيعًا.
وَالْأَعْمَى إِذَا وَجَدَ مَعَ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ قَائِدًا لَزِمَهُ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ. وَالْقَائِدُ لَهُ كَالْمَحْرَمِ لِلْمَرْأَةِ. وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ كَغَيْرِهِ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ، لَكِنْ لَا يُدْفَعُ الْمَالُ إِلَيْهِ، بَلْ يَصْحَبُهُ الْوَلِيُّ لِيُنْفِقَ عَلَيْهِ فِي الطَّرِيقِ بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُنَصِّبَ قَيِّمًا يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ السَّفِيهِ.
قَالَ فِي «التَّهْذِيبِ» : وَإِذَا شَرَعَ السَّفِيهُ فِي حَجِّ الْفَرْضِ، أَوْ حَجٍّ نَذَرَهُ قَبْلَ الْحَجْرِ بِغَيْرِ إِذَنِ الْوَلِيِّ، لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ تَحْلِيلُهُ، بَلْ يَلْزَمُهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ السَّفِيهِ إِلَى فَرَاغِهِ. وَلَوْ شَرَعَ فِي حَجِّ تَطَوُّعٍ، ثُمَّ حُجِرَ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ. وَلَوْ شَرَعَ فِيهِ بَعْدَ الْحَجْرِ، فَلِلْوَلِيِّ تَحْلِيلُهُ إِنْ كَانَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلْحَجِّ يَزِيدُ عَلَى نَفَقَتِهِ الْمَعْهُودَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبٌ. فَإِنْ لَمْ يَزِدْ، أَوْ كَانَ لَهُ كَسْبٌ يَفِي مَعَ قَدْرِ النَّفَقَةِ الْمَعْهُودَةِ وَجَبَ إِتْمَامُهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ تَحْلِيلُهُ.
الْأَمْرُ الْخَامِسُ: إِمْكَانُ السَّيْرِ
وَهُوَ أَنْ يَبْقَى مِنَ الزَّمَانِ عِنْدَ وُجُودِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، مَا يُمْكِنُ السَّيْرُ فِيهِ إِلَى الْحَجِّ السَّيْرَ الْمَعْهُودَ. فَإِنِ احْتَاجَ إِلَى أَنْ يَقْطَعَ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَوْ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ أَكْثَرَ مِنْ مَرْحَلَةٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ. وَهَذَا الْأَمْرُ شَرَطَهُ الْأَئِمَّةُ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ، وَقَدْ أَهْمَلَهُ الْغَزَالِيُّ.
قُلْتُ: أَنْكَرَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ عَلَى الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - اعْتِرَاضَهُ عَلَى الْغَزَالِيِّ، وَجَعْلَهُ إِمْكَانَ السَّيْرِ رُكْنًا لِوُجُوبِ الْحَجِّ، وَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ شَرْطُ اسْتِقْرَارِ الْحَجِّ فِي ذِمَّتِهِ، لِيَجِبَ قَضَاؤُهُ مِنْ تَرِكَتِهِ لَوْ مَاتَ قَبْلَ الْحَجِّ، وَلَيْسَ شَرْطًا لَأَصْلِ وُجُوبِ الْحَجِّ. بَلْ مَتَى وُجِدَتِ الِاسْتِطَاعَةُ مِنْ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ حُرٍّ، لَزِمَهُ الْحَجُّ فِي الْحَالِ، كَالصَّلَاةِ تَجِبُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ قَبْلَ مُضِيِّ زَمَنٍ يَسَعُهَا. ثُمَّ اسْتِقْرَارُهَا فِي الذِّمَّةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى مُضِيِّ الزَّمَانِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ فِعْلِهِمَا. وَالصَّوَابُ: مَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ كَمَا نُقِلَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)[آلِ عِمْرَانَ: 97] وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ، فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ. وَكَيْفَ يَكُونُ مُسْتَطِيعًا وَهُوَ عَاجِزٌ حِسًّا؟ ! وَأَمَّا الصَّلَاةُ، فَإِنَّمَا تَجِبُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ لِإِمْكَانِ تَتْمِيمِهَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
النَّوْعُ الثَّانِي: الِاسْتِطَاعَةُ بِغَيْرِهِ.
يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ عَنِ الشَّخْصِ غَيْرُهُ، إِذَا عَجَزَ عَنِ الْحَجِّ، بِمَوْتٍ، أَوْ كَسْرٍ، أَوْ زَمَانَةٍ، أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ، أَوْ كَانَ كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَصْلًا، أَوْ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ. فَمَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ، إِذَا أَمْكَنَهُ الثُّبُوتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ، لَا يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِنَابَةُ، وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا لِمَنْ لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِمَرَضٍ يُرْجَى زَوَالُهُ. وَكَذَا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ ثُمَّ جُنَّ، لَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَسْتَنِيبَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَفِيقُ فَيَحُجُّ
بِنَفْسِهِ. فَلَوِ اسْتَنَابَ عَنْهُ فَمَاتَ قَبْلَ الْإِفَاقَةِ، فَفِي إِجْزَائِهِ الْقَوْلَانِ فِي اسْتِنَابَةِ الْمَرِيضِ الَّذِي يُرْجَى بُرْؤُهُ إِذَا مَاتَ.
هَذَا كُلُّهُ فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَالْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ. أَمَّا حَجُّ التَّطَوُّعِ، فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِنَابَةُ فِيهِ عَنِ الْقَادِرِ قَطْعًا.
وَفِي اسْتِنَابَةِ الْمَعْضُوبِ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْوَارِثِ عَنِ الْمَيِّتِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْجَوَازُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ. وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْمَيِّتُ حَجَّ، وَلَا وَجَبَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ فَفِي جَوَازِ الْإِحْجَاجِ عَنْهُ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ. لِوُقُوعِهِ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَإِنِ اسْتَأْجَرَ لِلتَّطَوُّعِ وَجَوَّزْنَاهُ فَلِلْأَجِيرِ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَجِيرُ عَبْدًا، أَوْ صَبِيًّا، بِخِلَافِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُمَا فِيهَا؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِهَا. وَفِي الْمَنْذُورَةِ، الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ، فِي أَنَّهُ يَسْلُكُ بِالنَّذْرِ مَسْلَكَ الْوَاجِبَاتِ أَمْ لَا؟ وَإِنْ لَمْ نُجَوِّزْ الِاسْتِئْجَارَ لِلتَّطَوُّعِ وَقَعَ الْحَجُّ عَنِ الْأَجِيرِ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْمُسَمَّى. وَهَلْ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ؟ قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا: يَسْتَحِقُّ.
قُلْتُ: قَالَ الْمُتَوَلِّي: هَذَا الْخِلَافُ إِذَا جَهِلَ الْأَجِيرُ فَسَادَ الْإِجَارَةِ. فَإِنْ عَلِمَ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا بِلَا خِلَافٍ. قَالَ: وَالْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ فِي الْمَعْضُوبِ، فَإِنْ أَوْصَى الْمَيِّتُ بِحَجَّةِ تَطَوُّعٍ، وَقُلْنَا: لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، فَحَجَّ الْأَجِيرُ وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ بِلَا خِلَافٍ، لَا عَلَى الْوَصِيِّ وَلَا عَلَى الْوَارِثِ، وَلَا فِي التَّرِكَةِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
فَرْعٌ
مَنْ بِهِ عِلَّةٌ يُرْجَى زَوَالُهَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ. فَإِنِ اسْتَنَابَ فَحَجَّ النَّائِبُ فَشُفِيَ لَمْ يُجْزِئْهُ قَطْعًا. وَإِنْ مَاتَ، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا يُجْزِئُهُ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مَرْجُوِّ الزَّوَالِ، فَأُحِجَّ عَنْهُ ثُمَّ شُفِيَ، فَطَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: طَرْدُ
الْقَوْلَيْنِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِعَدَمِ الْإِجْزَاءِ. فَإِنْ قُلْنَا فِي الصُّورَتَيْنِ: يُجْزِئُهُ، اسْتَحَقَّ الْأَجِيرُ الْأُجْرَةَ الْمُسَمَّاةَ، وَإِلَّا فَهَلْ يَقَعُ عَنْ تَطَوُّعِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَيَكُونُ هَذَا عُذْرًا فِي جَوَازِ وُقُوعِ التَّطَوُّعِ قَبْلَ الْفَرْضِ، كَالرِّقِّ، وَالصِّبَا، أَمْ لَا يَقَعُ عَنْهُ أَصْلًا؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: الثَّانِي، وَصَحَّحَ الْغَزَالِيُّ الْأَوَّلَ.
فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَقَعُ عَنْهُ أَصْلًا، فَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْأَجِيرُ أُجْرَةً؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا. وَالثَّانِي: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ لَهُ فِي اعْتِقَادِهِ فَعَلَى هَذَا، هَلْ يَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى، أَمْ أُجْرَةَ الْمِثْلِ؟ وَجْهَانِ. وَإِذَا قُلْنَا: يَقَعُ عَنْ تَطَوُّعِهِ اسْتَحَقَّ الْأَجِيرُ الْأُجْرَةَ. وَهَلْ هِيَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ أَمِ الْمُسَمَّاةُ؟ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَا يَبْعُدُ تَخْرِيجُهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ.
قُلْتُ: الْأَصَحُّ هُنَا: الْمُسَمَّى. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
فَرْعٌ
لَا يُجْزِئُ الْحَجُّ عَنِ الْمَعْضُوبِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، بِخِلَافِ قَضَاءِ الدَّيْنِ عَنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ، وَهُوَ أَهْلٌ لِلْإِذْنِ. وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ يَجُوزُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَيَجُوزُ الْحَجُّ عَنِ الْمَيِّتِ، وَيَجِبُ عِنْدَ اسْتِقْرَارِهِ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِهِ، أَمْ لَا. وَيَسْتَوِي فِيهِ الْوَارِثُ وَالْأَجْنَبِيُّ كَالدَّيْنِ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا الْمَعْضُوبُ، فَتَلْزَمُهُ الِاسْتِنَابَةُ فِي الْجُمْلَةِ، سَوَاءٌ طَرَأَ الْعَضَبُ بَعْدَ الْوُجُوبِ أَوْ بَلَغَ مَعْضُوبًا وَاجِدًا لِلْمَالِ. ثُمَّ لِوُجُوبِ الِاسْتِنَابَةِ عَلَيْهِ طَرِيقَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجِدَ مَالًا يَسْتَأْجِرُ بِهِ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ. وَشَرْطُهُ: أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا عَنِ الْحَاجَاتِ
الْمَذْكُورَةِ فِيمَنْ يَحُجُّ بِنَفْسِهِ، إِلَّا أَنَّا اعْتَبَرْنَا هُنَاكَ، أَنْ يَكُونَ الْمَصْرُوفُ إِلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَاضِلًا عَنْ نَفَقَةِ عِيَالِهِ إِلَى الرُّجُوعِ. وَهُنَا يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ فَاضِلًا عَنْ نَفَقَتِهِمْ وَكُسْوَتِهِمْ يَوْمَ الِاسْتِئْجَارِ، وَلَا يُعْتَبَرُ بَعْدَ فَرَاغِ الْأَجِيرِ مِنَ الْحَجِّ. وَهَلْ تُعْتَبَرُ مُدَّةُ الذَّهَابَ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا، كَمَا فِي الْفِطْرَةِ وَالْكَفَّارَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَجَّ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يُفَارِقْ أَهْلَهُ، أَمْكَنَهُ تَحْصِيلُ نَفَقَتِهِمْ. ثُمَّ إِنْ وَفَّى مَا يَجِدُهُ بِأُجْرَةِ رَاكِبٍ، فَذَاكَ. وَإِنْ لَمْ يَفِ إِلَّا بِأُجْرَةِ مَاشٍ، فَفِي وُجُوبِ الِاسْتِئْجَارِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَجِبُ، إِذْ لَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِ فِي مَشْيِ الْأَجِيرِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا حَجَّ بِنَفْسِهِ. وَلَوْ طَلَبَ الْأَجِيرُ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، لَمْ يَجِبِ الِاسْتِئْجَارُ، وَلَوْ رَضِيَ بِأَقَلَّ مِنْهَا وَجَبَ. وَلَوِ امْتَنَعَ مِنَ الِاسْتِئْجَارِ، فَهَلْ يَسْتَأْجِرُ عَنْهُ الْحَاكِمُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا.
الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَجِدَ الْمَالَ، لَكِنْ يَجِدُ مَنْ يُحَصِّلُ لَهُ الْحَجَّ، وَفِيهِ صُوَرٌ.
إِحْدَاهَا: أَنْ يَبْذُلَ لَهُ أَجْنَبِيٌّ مَالًا لِيَسْتَأْجِرَ لَهُ، فَفِي لُزُومِ قَبُولِهِ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: لَا يَلْزَمُ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَبْذُلَ وَاحِدٌ مِنْ بَنِيهِ أَوْ بَنَاتِهِ أَوْ أَوْلَادِهِمُ الطَّاعَةَ فِي الْحَجِّ، فَيَلْزَمُهُ الْقَبُولُ وَالْحَجُّ قَطْعًا، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُطِيعُ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، وَمَوْثُوقًا بِهِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مَعْضُوبًا.
قُلْتُ: وَحَكَى السَّرَخْسِيُّ فِي «الْأَمَالِي» وَجْهًا وَاهِيًا: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
وَلَوْ تَوَسَّمَ أَثَرَ الطَّاعَةِ [فِيهِ]، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْأَمْرُ؟ وَجْهَانِ. الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: يَلْزَمُهُ، لِحُصُولِ الِاسْتِطَاعَةِ. وَلَوْ بَذَلَ الْمُطِيعُ الطَّاعَةَ، فَلَمْ يَأْذَنِ الْمُطَاعُ، فَهَلْ يَنُوبُ الْحَاكِمُ عَنْهُ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا، لِأَنَّ مَبْنَى الْحَجِّ عَلَى التَّرَاخِي
، وَإِذَا اجْتَمَعَتِ الشَّرَائِطُ، فَمَاتَ الْمُطِيعُ قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ، فَإِنْ مَضَى وَقْتُ إِمْكَانِ الْحَجِّ، اسْتَقَرَّ الْوُجُوبُ فِي ذِمَّتِهِ، وَإِلَّا فَلَا. وَلَوْ كَانَ لَهُ مَنْ يُطِيعُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِطَاعَتِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ مَوْرُوثٌ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ. وَشَبَّهَهُ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» بِمَنْ نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ وَتَيَمَّمَ، لَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ عَلَى الْمَذْهَبِ.
وَشَبَّهَهُ صَاحِبُ «الْمُعْتَمَدِ» بِالْمَالِ الضَّالِّ فِي الزَّكَاةِ. وَالْمَذْهَبُ: وَجُوبُهَا فِيهِ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: لَا يَجِبُ الْحَجُّ بِحَالٍ، فَإِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالِاسْتِطَاعَةِ، وَلَا اسْتِطَاعَةَ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْمَالِ وَالطَّاعَةِ. وَلَوْ بَذَلَ الْوَلَدُ الطَّاعَةَ، ثُمَّ أَرَادَ الرُّجُوعَ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ إِحْرَامِهِ، لَمْ يَجُزْ، وَإِلَّا جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ.
قُلْتُ: وَإِذَا كَانَ رُجُوعُهُ الْجَائِزُ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ أَهْلُ بَلَدِهِ، تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْأَبِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ «الرَّهْنِ» هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي مَسَائِلِ بَيْعِ الْعَدْلِ الرَّهْنَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبْذُلَ الْأَجْنَبِيُّ الطَّاعَةَ، فَيَلْزَمُ قَبُولُهَا عَلَى الْأَصَحِّ. وَالْأَخُ كَالْأَجْنَبِيِّ قَطْعًا؛ لِأَنَّ اسْتِخْدَامَهُ يَثْقُلُ. وَكَذَا الْأَبُ عَلَى الْمَذْهَبِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَحُكِيَ فِي بَعْضِ التَّعَالِيقِ وَجْهٌ: أَنَّهُ كَالِابْنِ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي النَّفَقَةِ.
الرَّابِعَةُ: أَنْ يَبْذُلَ الْوَلَدُ الْمَالَ، فَلَا يَلْزَمُ قَبُولُهُ عَلَى الْأَصَحِّ لِعِظَمِ الْمِنَّةِ فِيهِ. وَبَذْلُ الْأَبِ الْمَالَ كَبَذْلِ الِابْنِ، أَوْ كَبَذْلِ الْأَجْنَبِيِّ، فِيهِ احْتِمَالَانِ ذَكَرَهُمَا الْإِمَامُ، أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ.
فَرْعٌ
جَمِيعُ الْمَذْكُورِ فِي بَذْلِ الطَّاعَةِ، هُوَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْبَاذِلُ رَاكِبًا. فَلَوْ بَذَلَ الِابْنُ الطَّاعَةَ لِيَحُجَّ مَاشِيًا، فَفِي لُزُومِ الْقَبُولِ وَجْهَانِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: هُمَا مُرَتَّبَانِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي لُزُومِ اسْتِئْجَارِ الْمَاشِي، وَهُنَا أَوْلَى بِالْمَنْعِ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ