الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّهُ يَصُومُ عَنِ الْمَيِّتِ وَلَيُّهُ؟ الظَّاهِرُ: جَوَازُهُ؛ لِتَعَذُّرِ الْقَضَاءِ مِنْهُ. وَفِيهِ احْتِمَالٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدْ يَطْرَأُ عُذْرٌ يَجُوزُ تَرْكُ الصَّوْمِ لَهُ، وَيُتَصَوَّرُ تَكَلُّفُ الْقَضَاءِ مِنْهُ، وَقَدْ يُسْتَفَادُ مِمَّا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ: أَنَّهُ إِذَا سَافَرَ، قَضَى مَا أَفْطَرَ فِيهِ مُتَعَدِّيًا، وَيَنْسَاقُ النَّظَرُ إِلَى أَنَّهُ هَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يُسَافِرَ لِيَقْضِيَ؟
فَصْلٌ
لَوْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ الْعِيدِ، لَمْ يَنْعَقِدْ، كَمَا لَوْ نَذَرَتْ صَوْمَ يَوْمِ الْحَيْضِ. وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَإِذَا جَوَّزْنَا عَلَى وَجْهِ صَوْمِهَا لِغَيْرِ الْمُتَمَتِّعِ، فَفِي انْعِقَادِهَا وَجْهَانِ، كَنَذْرِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِ الْكَرَاهَةِ. وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ نَذْرُ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ، وَلَا الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ.
النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْمُلْتَزَمَاتِ: الْحَجُّ، وَالْعُمْرَةُ.
الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ، يَلْزَمَانِ بِالنَّذْرِ، فَإِذَا نَذَرَهُمَا مَاشِيًا، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ، أَمْ لَهُ الرُّكُوبُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ.
أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ، وَهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ مَاشِيًا أَفْضَلُ، أَمْ رَاكِبًا؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ.
أَظْهَرُهَا: الْمَشْيُ أَفْضَلُ. وَالثَّانِي: الرُّكُوبُ أَفْضَلُ. وَالثَّالِثُ: هُمَا سَوَاءٌ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: هُمَا سَوَاءٌ مَا لَمْ يُحْرِمْ. فَإِذَا أَحْرَمَ، فَالْمَشْيُ أَفْضَلُ. قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ: مَنْ سَهُلَ عَلَيْهِ الْمَشْيُ، فَهُوَ أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ، وَمَنْ ضَعُفَ وَسَاءَ خُلُقُهُ لَوْ مَشَى، فَالرُّكُوبُ أَفْضَلُ.
قُلْتُ: الصَّوَابُ: أَنَّ الرُّكُوبَ أَفْضَلُ وَإِنْ كَانَ الْأَظْهَرُ لُزُومَ الْمَشْيِ بِالنَّذْرِ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ قُلْنَا الْمَشْيُ أَفْضَلُ لَزِمَهُ النَّذْرُ وَإِنْ قُلْنَا الرُّكُوبُ، أَوْ سَوَّيْنَا، لَمْ يَلْزَمْهُ الْمَشْيُ بِالنَّذْرِ.
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى لُزُومِ الْمَشْيِ مَسَائِلُ:
إِحْدَاهَا: لَوْ صَرَّحَ بِابْتِدَاءِ الْمَشْيِ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ إِلَى الْفَرَاغِ، هَلْ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، فَلَوْ أَطْلَقَ الْحَجَّ مَاشِيًا، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ مَعَ التَّصْرِيحِ بِهِ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَلْزَمُهُ مِنْ وَقْتِ الْإِحْرَامِ، سَوَاءٌ أَحْرَمَ مِنَ الْمِيقَاتِ أَوْ قَبْلَهُ، وَبِهَذَا قَطَعَ جَمَاعَةٌ. وَبَنَى صَاحِبُ التَّتِمَّةِ الْوَجْهَيْنِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَيْنَ يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ؟ فَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ. وَعَنْ غَيْرِهِ: مِنَ الْمِيقَاتِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ: يَمْشِي مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ. وَعَلَى الثَّانِي: مِنَ الْمِيقَاتِ. وَلَوْ قَالَ: أَمْشِي حَاجًّا، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَقَوْلِهِ: أَحُجُّ مَاشِيًا. وَمُقْتَضَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، اقْتِرَانُ الْحَجِّ وَالْمَشْيِ. وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّ قَوْلَهُ: أَمْشِي حَاجًّا، يَقْتَضِي أَنْ يَمْشِيَ مِنْ مَخْرَجِهِ إِلَى الْحَجِّ.
الثَّانِيَةُ: فِي نِهَايَةِ الْمَشْيِ طَرِيقَانِ. الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ حَتَّى يَتَحَلَّلَ التَّحَلُّلَيْنِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، وَلَهُ الرُّكُوبُ بَعْدَ التَّحَلُّلَيْنِ وَإِنْ بَقِيَ عَلَيْهِ الرَّمْيُ أَيَّامَ مِنَى. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْإِمَامُ.
أَحَدُهُمَا: هَذَا. وَالثَّانِي: لَهُ الرُّكُوبُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا الْعُمْرَةُ، فَلَيْسَ لَهَا إِلَّا تَحَلُّلٌ وَاحِدٌ، فَيَمْشِي حَتَّى يَفْرَغَ مِنْهَا. وَالْقِيَاسُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ يَتَرَدَّدُ فِي خِلَالِ أَعْمَالِ النُّسُكِ لِغَرَضِ تِجَارَةٍ وَغَيْرِهَا، فَلَهُ أَنْ يَرْكَبَ، وَلَمْ يَذْكُرُوهُ.
الثَّالِثَةُ: لَوْ فَاتَهُ الْحَجُّ، لَزِمَهُ الْقَضَاءُ مَاشِيًا. وَإِذَا تَحَلَّلَ فِي سَنَةِ الْفَوَاتِ بِأَعْمَالِ عُمْرَةٍ، هَلْ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ فِي تِلْكَ الْأَعْمَالِ؟ قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ بِالْفَوَاتِ عَنْ أَنْ يُجْزِئَهُ عَنْ نَذْرِهِ. وَلَوْ فَسَدَ الْحَجُّ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ، فَهَلْ يَجِبُ الْمَشْيُ فِي الْمُضِيِّ فِي فَاسِدِهِ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ.
الرَّابِعَةُ: لَوْ تَرَكَ الْمَشْيَ بِعُذْرٍ، بِأَنْ عَجَزَ، فَحَجَّ رَاكِبًا، وَقَعَ حَجُّهُ عَنِ النَّذْرِ. وَهَلْ عَلَيْهِ جَبْرُ الْمَشْيِ الْفَائِتِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ؟ قَوْلَانِ.
أَحَدُهُمَا: لَا،
كَمَا لَوْ نَذَرَ الصَّلَاةَ قَائِمًا، فَعَجَزَ، صَلَّى قَاعِدًا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَأَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ. فَعَلَى هَذَا، يَلْزَمُهُ شَاةٌ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَفِي قَوْلٍ: بَدَنَةٌ، وَإِنْ تَرَكَ الْمَشْيَ مَعَ الْقُدْرَةِ، فَحَجَّ رَاكِبًا، فَقَدْ أَسَاءَ. وَفِيهِ قَوْلَانِ. الْقَدِيمُ: لَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنْ حَجِّهِ، بَلْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ عَلَى صِفَتِهِ الْمُلْتَزَمَةِ.
وَالْأَظْهَرُ: أَنَّهُ تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ. فَعَلَى هَذَا، هَلْ يَلْزَمُهُ الدَّمُ؟ قَوْلَانِ، أَوْ وَجْهَانِ. أَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ. وَهَلْ هُوَ شَاةٌ، أَمْ بَدَنَةٌ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ.
فَرْعٌ:
مَنْ نَذَرَ حَجًّا، اسْتُحِبَّ أَنْ يُبَادِرَ إِلَيْهِ فِي أَوَّلِ سِنِي الْإِمْكَانِ. فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْإِمْكَانِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ. وَإِنْ مَاتَ بَعْدَهُ، أُحِجَّ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ؟ وَإِنْ عَيَّنَ فِي نَذْرِهِ سَنَةً، تَعَيَّنَتْ عَلَى الصَّحِيحِ كَالصَّوْمِ، فَلَوْ حَجَّ قَبْلَهَا، لَمْ يُجْزِئْهُ. وَلَوْ قَالَ: أَحُجُّ فِي عَامِي هَذَا، وَهُوَ عَلَى مَسَافَةٍ يُمْكِنُ الْحَجُّ مِنْهَا فِي ذَلِكَ الْعَامِ، لَزِمَهُ الْوَفَاءُ تَفْرِيعًا عَلَى الصَّحِيحِ. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَعَ الْإِمْكَانِ، صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ يَقْضِيهِ بِنَفْسِهِ. فَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يَقْضِ، أُحِجَّ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ، قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : إِنْ كَانَ مَرِيضًا وَقْتَ خُرُوجِ النَّاسِ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الْخُرُوجِ مَعَهُمْ، أَوْ لَمْ يَجِدْ رُفْقَةً، وَكَانَ الطَّرِيقُ مَخُوفًا لَا يَتَأَتَّى لِلْآحَادِ سُلُوكُهُ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْذُورَ حَجٌّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَكَمَا لَا تَسْتَقِرُّ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ. وَلَوْ صَدَّهُ عَدُوٌّ أَوْ سُلْطَانٌ بَعْدَ مَا أَحْرَمَ حَتَّى مَضَى الْعَامُ، قَالَ الْإِمَامُ: إِذَا امْتَنَعَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ لِلْعَدُوِّ، فَالْمَنْصُوصُ: أَنَّهُ لَا قَضَاءَ. وَخَرَّجَ ابْنُ سُرَيْجٍ قَوْلًا: أَنَّهُ يَجِبُ، وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ. كَمَا لَوْ قَالَ: أَصُومُ غَدًا، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ حَتَّى مَضَى الْغَدُ، يَجِبُ الْقَضَاءُ. وَالْمَذْهَبُ: الْأَوَّلُ. وَلَوْ مَنَعَهُ عَدُوٌّ أَوْ سُلْطَانٌ وَحْدَهُ، أَوْ مَنَعَهُ رَبُّ الدَّيْنِ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى وَفَائِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ
عَلَى الْأَظْهَرِ. وَلَوْ مَنَعَهُ الْمَرَضُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، فَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ الْقَضَاءِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَلَا يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الصَّدِّ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِالصَّدِّ وَلَا يَتَحَلَّلُ بِالْمَرَضِ. وَحَكَى الْإِمَامُ عَنِ الْأَصْحَابِ، تَخْرِيجَهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي الصَّدِّ، وَكَذَلِكَ حَكَى الْخِلَافَ فِيمَا إِذَا امْتَنَعَ الْحَجُّ فِي ذَلِكَ الْعَامِ بَعْدَ الِاسْتِطَاعَةِ. وَإِذَا رَأَيْتَ كُتُبَ الْأَصْحَابِ، وَجَدْتَهَا مُتَّفِقَةً عَلَى أَنَّ الْحَجَّةَ الْمَنْذُورَةَ فِي ذَلِكَ، كَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ، إِنِ اجْتَمَعَتْ فِي الْعَامِ الَّذِي عَيَّنَهُ شَرَائِطُ فَرْضِ الْحَجِّ، وَجَبَ الْوَفَاءُ وَاسْتَقَرَّ فِي الذِّمَّةِ، وَإِلَّا، فَلَا. وَالنِّسْيَانُ وَخَطَأُ الطَّرِيقِ وَالضَّلَالُ فِيهِ، كَالْمَرَضِ. وَلَوْ كَانَ النَّاذِرُ مَعْضُوبًا وَقْتَ النَّذْرِ، أَوْ طَرَأَ الْعَضْبُ وَلَمْ يَجِدِ الْمَالَ حَتَّى مَضَتِ السَّنَةُ الْمُعَيَّنَةُ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ.
وَلَوْ نَذَرَ صَلَاةً، أَوْ صَوْمًا أَوِ اعْتِكَافًا فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، فَمَنَعَهُ عَمَّا نَذَرَ عَدُوٌّ أَوْ سُلْطَانٌ، لَزِمَهُ الْقَضَاءُ، بِخِلَافِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِالنَّذْرِ، كَالْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ، وَقَدْ يَجِبُ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ مَعَ الْعَجْزِ، فَلَزِمَا بِالنَّذْرِ. وَالْحَجُّ لَا يَجِبُ إِلَّا بِالِاسْتِطَاعَةِ.
فَرْعٌ:
إِذَا نَذَرَ حَجَّاتٍ كَثِيرَةً، انْعَقَدَ نَذْرُهُ، وَيَأْتِي بِهِنَّ عَلَى تَوَالِي السِّنِينَ بِشَرْطِ الْإِمْكَانِ. فَإِنْ أَخَّرَ، اسْتَقَرَّ فِي ذِمَّتِهِ مَا أَخَّرَهُ. فَإِذَا نَذَرَ عَشْرَ حَجَّاتٍ، وَمَاتَ بَعْدَ خَمْسِ سِنِينَ أَمْكَنَهُ الْحَجُّ فِيهِنَّ، قُضِيَ مِنْ مَالِهِ خَمْسُ حَجَّاتٍ. وَلَوْ نَذَرَهَا الْمَعْضُوبُ، وَمَاتَ بَعْدَ سَنَةٍ وَكَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ الْحِجَجَ الْعَشْرَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، قُضِيَتْ مِنْ مَالِهِ. وَإِنْ لَمْ يَفِ مَالُهُ إِلَّا بِحَجَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ، لَمْ يَسْتَقِرَّ إِلَّا الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ.
فَرْعٌ:
مَنْ نَذَرَ الْحَجَّ، لَزِمَهُ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْضُوبًا فَيُحَجُّ عَنْ نَفْسِهِ.
فَرْعٌ:
لَوْ نَذَرَ الْحَجَّ رَاكِبًا، فَإِنْ قُلْنَا: الْمَشْيُ أَفْضَلُ، أَوْ سَوَّيْنَا بَيْنَهُمَا، فَإِنْ شَاءَ مَشَى، وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ. وَإِنْ قُلْنَا: الرُّكُوبُ أَفْضَلُ، لَزِمَهُ الْوَفَاءُ. فَإِنْ مَشَى، فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَقَالَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» : عِنْدِي أَنَّهُ لَا دَمَ؛ لِأَنَّهُ عَدَلَ إِلَى أَشَقِّ الْأَمْرَيْنِ. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ حَافِيًا، فَلَهُ لُبْسُ النَّعْلَيْنِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
فَرْعٌ:
يَخْرُجُ النَّاذِرُ عَنْ حَجِّ النَّذْرِ بِالْإِفْرَادِ، وَبِالتَّمَتُّعِ، وَبِالْقِرَانِ. وَإِذَا نَذَرَ الْقِرَانَ، فَقَدِ الْتَزَمَ النُّسُكَيْنِ. فَإِنْ أَتَى بِهِمَا مُفْرَدَيْنِ، فَقَدْ أَتَى بِالْأَفْضَلِ، وَخَرَجَ عَنْ نَذْرِهِ. وَإِنْ تَمَتَّعَ، فَكَذَلِكَ وَإِنْ نَذَرَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مُفْرَدَيْنِ، فَقَرَنَ، أَوْ تَمَتَّعَ وَقُلْنَا بِالْمَذْهَبِ: إِنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ نَذَرَ الْحَجَّ مَاشِيًا وَقُلْنَا: الْمَشْيُ أَفْضَلُ، فَحَجَّ رَاكِبًا.
فَرْعٌ:
مَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ، وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، لَزِمَهُ لِلنَّذْرِ حَجَّةٌ أُخْرَى، كَمَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ، وَعَلَيْهِ صَلَاةُ الظُّهْرِ، يَلْزَمُهُ صَلَاةٌ أُخْرَى.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: إِتْيَانُ الْمَسَاجِدِ. فَإِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، أَوْ آتِيهِ، أَوْ أَمْشِيَ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ، لَزِمَهُ إِتْيَانُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: فِي لُزُومِهِ قَوْلَانِ. وَلَوْ قَالَ: أَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، أَوْ آتِيهِ، وَلَمْ يَقُلْ: الْحَرَامِ، فَوَجْهَانِ، أَوْ قَوْلَانِ.
أَحَدُهُمَا: يُحْمَلُ عَلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ، إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ. وَلَوْ قَالَ: أَمْشِيَ إِلَى الْحَرَامِ، أَوِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَوْ إِلَى مَكَّةَ، أَوْ ذَكَرَ بُقْعَةً أُخْرَى مِنْ بِقَاعِ الْحَرَمِ، كَالصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ، وَمَسْجِدِ الْخَيْفِ، وَمِنَى، وَمُزْدَلِفَةَ، وَمَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، وَقُبَّةِ زَمْزَمَ، وَغَيْرِهَا، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ. حَتَّى لَوْ قَالَ: آتِي دَارَ أَبِي جَهْلٍ، أَوْ دَارَ الْخَيْزُرَانِ، كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ؛ لِشُمُولِ حُرْمَةِ الْحَرَمِ فِي تَنْفِيرِ الصَّيْدِ وَغَيْرِهِ. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَاتٍ، فَإِنْ أَرَادَ الْتِزَامَ الْحَجِّ وَعَبَّرَ عَنْهُ بِشُهُودِ عَرَفَةَ، أَوْ نَوَى أَنْ يَأْتِيَهَا مُحْرِمًا، اِنْعَقَدَ نَذْرُهُ بِالْحَجِّ. فَإِنْ لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ، لَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ؛ لِأَنَّ عَرَفَاتٍ مِنَ الْحِلِّ، فَهُوَ كَبَلَدٍ آخَرَ. وَعَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ إِنْ نَذَرَ إِتْيَانَ عَرَفَاتٍ يَوْمَ عَرَفَاتٍ، لَزِمَهُ أَنْ يَأْتِيَهَا حَاجًّا. وَقُيِّدَ فِي التَّتِمَّةِ هَذَا الْوَجْهُ بِمَا إِذَا قَالَ ذَلِكَ يَوْمَ عَرَفَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ. وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ: الِاكْتِفَاءُ بِأَنْ يَحْصُلَ لَهُ شُهُودُهَا يَوْمَ عَرَفَةَ، وَرُبَّمَا قَالَ بِهَذَا الْجَوَابِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ. وَلَوْ قَالَ: آتِي مَرَّ الظَّهْرَانِ، أَوْ بُقْعَةً أُخْرَى قَرِيبًا مِنَ الْحَرَمِ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ قَطْعًا، وَسَوَاءٌ فِي لُزُومِ الْإِتْيَانِ، لَفْظُ الْمَشْيِ، وَالْإِتْيَانِ، وَالِانْتِقَالِ، وَالذَّهَابِ، وَالْمُضِيِّ، وَالْمَصِيرِ، وَالْمَسِيرِ، وَنَحْوِهَا. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَمَسَّ بِثَوْبِهِ حَطِيمَ الْكَعْبَةِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ نَوَى إِتْيَانَهَا.
وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَأْتِيَ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ، أَوِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، فَفِي لُزُومِ إِتْيَانِهِمَا قَوْلَانِ. قَالَ فِي «الْبُوَيْطِيِّ» : يَلْزَمُ، وَقَالَ فِي «الْأُمِّ» : لَا يَلْزَمُ، وَيَلْغُو النَّذْرُ. وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ والرُّويَانِيِّ وَغَيْرِهِمْ.
التَّفْرِيعُ: إِنْ قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ: إِنَّهُ يَلْزَمُ إِتْيَانُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِالْتِزَامِهِ، قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنْ حَمَلْنَا النَّذْرَ عَلَى الْوَاجِبِ شَرْعًا، لَزِمَهُ حَجٌّ أَوْ عُمْرَةٌ، وَهَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُحْمَلُ عَلَى الْوَاجِبِ، بُنِيَ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ دُخُولَ مَكَّةَ هَلْ يَقْتَضِي الْإِحْرَامَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، أَمْ لَا؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، فَإِذَا أَتَاهُ، لَزِمَهُ حَجٌّ أَوْ عُمْرَةٌ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا، فَهُوَ كَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَالْأَقْصَى، فَفِيهِ الْقَوْلَانِ فِي أَنَّهُ هَلْ يَلْزَمُ إِتْيَانُهُ؟ وَإِذَا لَزِمَ، فَتَفْرِيعُهُ كَتَفْرِيعِ الْمَسْجِدَيْنِ. أَمَّا إِذَا أَوْجَبْنَا إِتْيَانَ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَالْأَقْصَى، فَهَلْ يَلْزَمُهُ مَعَ الْإِتْيَانِ شَيْءٌ آخَرُ؟ وَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا: لَا، إِذْ لَمْ يَلْتَزِمْهُ. وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، إِذِ الْإِتْيَانُ الْمُجَرَّدُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ. فَعَلَى هَذَا فِيمَا يَلْزَمُهُ أَوْجُهٌ:
أَحَدُهَا: يَتَعَيَّنُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أَتَاهُ. قَالَ الْإِمَامُ: الَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ رَكْعَتَانِ، بَلْ يَكْفِيهِ رَكْعَةٌ قَوْلًا وَاحِدًا. وَذَكَرَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْأَكْثَرُونَ: أَنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَهَلْ يَكْفِي أَنْ يُصَلِّيَ فَرِيضَةً، أَمْ لَا بُدَّ مِنْ صَلَاةٍ زَائِدَةٍ؟ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى وَجْهَيْنِ فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ شَهْرًا بِصَوْمٍ، فَهَلْ يَكْفِيهِ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي رَمَضَانَ؟
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَتَعَيَّنُ أَنَّهُ يَعْتَكِفُ فِيهِ وَلَوْ سَاعَةً؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ أَخَصُّ الْقُرُبَاتِ بِالْمَسْجِدِ.
وَالثَّالِثُ وَهُوَ الْأَصَحُّ: يُتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا، وَبِهِ قُطِعَ فِي «التَّهْذِيبِ» . وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: يَكْفِي فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَنْ يَزُورَ قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَتَوَقَّفَ فِيهِ الْإِمَامُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الزِّيَارَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَسْجِدِ وَتَعْظِيمِهِ. قَالَ: وَقِيَاسُهُ أَنَّهُ لَوْ تَصَدَّقَ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ صَامَ يَوْمًا، كَفَاهُ. وَالظَّاهِرُ: الِاكْتِفَاءُ بِالزِّيَارَةِ. وَإِذَا نَزَّلْنَا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ مَنْزِلَةَ الْمَسْجِدَيْنِ، وَأَوْجَبْنَا ضَمَّ قُرْبَةٍ إِلَى الْإِتْيَانِ، فَفِي تِلْكَ الْقُرْبَةِ أَوْجُهٌ:
أَحَدُهَا: الصَّلَاةُ. وَالثَّانِي: الْحَجُّ أَوِ الْعُمْرَةُ. وَالثَّالِثُ:
يُتَخَيَّرُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ قِيلَ: يَكْفِي الطَّوَافُ، لَمْ يَبْعُدْ. ثُمَّ مَهْمَا قَالَ: أَمْشِي إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّكُوبُ عَلَى الْأَصَحِّ، بَلْ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ كَمَا سَبَقَ فِيمَا إِذَا قَالَ: أَحُجُّ مَاشِيًا. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: يَمْشِي مِنَ الْمِيقَاتِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ: أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَمْشِي مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ. لَكِنْ يُحْرِمُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، أَمْ مِنَ الْمِيقَاتِ؟ وَجْهَانِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْإِفْصَاحِ: مِنَ الْمِيقَاتِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَلَوْ قَالَ: أَمْشِي إِلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، أَوِ الْأَقْصَى، وَأَوْجَبْنَا الْإِتْيَانَ، فَفِي وُجُوبِ الْمَشْيِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْوُجُوبُ. وَلَوْ كَانَ لَفْظُ النَّاذِرِ الْإِتْيَانَ، أَوِ الذَّهَابَ، أَوْ غَيْرَهُمَا مِمَّا سِوَى الْمَشْيِ، فَلَهُ الرُّكُوبُ بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا إِذَا نَذَرَ إِتْيَانَ مَسْجِدٍ آخَرَ سِوَى الثَّلَاثَةِ، فَلَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ، إِذْ لَيْسَ فِي قَصْدِهَا قُرْبَةٌ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: لَا تُشَدُّ الرِّحَّالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ. . . الْحَدِيثَ. قَالَ الْإِمَامُ: كَانَ شَيْخِي يُفْتِي بِالْمَنْعِ مِنْ شَدِّ الرِّحَالِ إِلَى غَيْرِ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ، وَرُبَّمَا كَانَ يَقُولُ: يُحْرِمُ. قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَحْرِيمٌ وَلَا كَرَاهَةَ، وَبِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ، وَمَقْصُودُ الْحَدِيثِ، تَخْصِيصُ الْقُرْبَةِ بِقَصْدِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ سَبَقَ فِي الِاعْتِكَافِ، أَنَّ مَنْ عَيَّنَ بِنَذْرِهِ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ، أَوِ الْأَقْصَى لِلِاعْتِكَافِ، تَعَيَّنَ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَالْفَرْقُ: أَنَّ الِاعْتِكَافَ عِبَادَةٌ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالْمَسْجِدِ، فَإِذَا كَانَ لِلْمَسْجِدِ فَضْلٌ، فَكَأَنَّهُ الْتَزَمَ فَضِيلَةً فِي الْعِبَادَةِ الْمُلْتَزَمَةِ، وَالْإِتْيَانَ بِخِلَافِهِ، وَيُوَضِّحُهُ: أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ إِتْيَانَ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، لَمْ يَلْزَمْهُ، وَفِي مِثْلِهِ فِي الِاعْتِكَافِ خِلَافٌ.
فَرْعٌ:
إِذَا نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، لَزِمَهُ الصَّلَاةُ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ إِنْ عَيَّنَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، تَعَيَّنَ لِلصَّلَاةِ الْمُلْتَزَمَةِ. وَإِنْ عَيَّنَ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ أَوِ الْأَقْصَى، فَطَرِيقَانِ. قَالَ الْأَكْثَرُونَ: فِي تَعْيِينِهِ الْقَوْلَانِ فِي لُزُومِ الْإِتْيَانِ. وَقَطَعَ الْمَرَاوِزَةُ بِالتَّعَيِينِ، وَالتَّعْيِينُ هُنَا أَرْجَحُ كَالِاعْتِكَافِ، وَإِنْ عَيَّنَ سَائِرَ الْمَسَاجِدِ وَالْمَوَاضِعِ، لَمْ يَتَعَيَّنْ. وَإِذَا عَيَّنَ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ أَوِ الْأَقْصَى لِلصَّلَاةِ، وَقُلْنَا بِالتَّعْيِينِ، فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، خَرَجَ عَنْ نَذْرِهِ عَلَى الْأَصَحِّ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ. وَهَلْ تَقُومُ الصَّلَاةُ فِي أَحَدِهِمَا مَقَامَ الصَّلَاةِ فِي الْآخَرِ؟ وَجْهَانِ.
قُلْتُ: فِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ يَقُومُ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ مَقَامَ الْأَقْصَى، دُونَ عَكْسِهِ.
وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، وَنُصَّ عَلَيْهِ فِي «الْبُوَيْطِيِّ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ الْإِمَامُ، أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أُصَلِّي فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، فَصَلَّى فِي غَيْرِهِ أَلْفَ صَلَاةٍ، لَمْ يَخْرُجْ عَنْ نَذْرِهِ، كَمَا لَوْ نَذَرَ أَلْفَ صَلَاةٍ، لَا يَخْرُجُ عَنْ نَذْرِهِ بِصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَأَنَّ شَيْخَهُ كَانَ يَقُولُ: لَوْ نَذَرَ صَلَاةً فِي الْكَعْبَةِ، فَصَلَّى فِي أَطْرَافِ الْمَسْجِدِ، خَرَجَ عَنْ نَذْرِهِ.
فَرْعٌ:
قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْمَذْهَبَ فِي نَذْرِ الْمَشْيِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، أَنَّهُ يَجِبُ قَصْدُهُ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ. فَلَوْ قَالَ فِي نَذْرِهِ: أَمْشِي إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ بِلَا حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ، فَوَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا: يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ وَيَلْغُو قَوْلُهُ: بِلَا حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ. وَالثَّانِي: لَا يَنْعَقِدُ،
ثُمَّ إِذَا أَتَاهُ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا إِحْرَامًا لِدُخُولِ مَكَّةَ، لَزِمَهُ حَجٌّ أَوْ عُمْرَةٌ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَالْأَقْصَى.
قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: يَنْعَقِدُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ:
لَوْ قَالَ: أُصَلِّي الْفَرَائِضَ فِي الْمَسْجِدِ. قَالَ فِي الْوَسِيطِ: يَلْزَمُهُ إِذَا قُلْنَا: صِفَاتُ الْفَرَائِضِ تُفْرَدُ بِالِالْتِزَامِ.
فَرْعٌ:
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ كَجٍّ: إِذَا نَذَرَ أَنْ يَزُورَ قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَعِنْدِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ وَجْهًا وَاحِدًا. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَزُورَ قَبْرَ غَيْرِهِ، فَوَجْهَانِ.
فَرْعٌ:
قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : لَوْ قَالَ: أَمْشِي، وَنَوَى بِقَلْبِهِ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، اِنْعَقَدَ النَّذْرُ إِلَى مَا نَوَى، وَإِنْ نَوَى إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، جُعِلَ مَا نَوَاهُ كَأَنَّهُ تَلَفَّظَ بِهِ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ: الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا. إِذَا نَذَرَ ذَبْحَ حَيَوَانٍ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِهَدْيٍ وَلَا أُضْحِيَةٍ، بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَذْبَحَ هَذِهِ الْبَقَرَةَ، أَوْ أَنْحَرَ هَذِهِ الْبَدَنَةَ، فَإِنْ قَالَ مَعَ ذَلِكَ: وَأَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا، أَوْ نَوَاهُ، لَزِمَهُ الذَّبْحُ وَالتَّصَدُّقُ. وَإِنْ لَمْ يَقُلْهُ وَلَا نَوَاهُ، فَوَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا: يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ، وَيَلْزَمُهُ الذَّبْحُ وَالتَّصَدُّقُ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَنْعَقِدُ. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُهْدِيَ بَدَنَةً أَوْ شَاةً إِلَى مَكَّةَ، أَوْ أَنْ يَتَقَرَّبَ بِسَوْقِهَا إِلَيْهَا
وَيَذْبَحَهَا وَيُفَرِّقَ لَحْمَهَا عَلَى فُقَرَائِهَا، لَزِمَهُ الْوَفَاءُ، وَلَوْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلذَّبْحِ وَتَفْرِقَةِ اللَّحْمِ، لَزِمَهُ الذَّبْحُ بِهَا أَيْضًا. وَفِي تَفْرِقَةِ اللَّحْمِ بِهَا وَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا: لَا تَجِبُ تَفْرِقَتُهُ بِهَا إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ، بَلْ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَأَصَحُّهُمَا: الْوُجُوبُ. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَذْبَحَ خَارِجَ الْحَرَمِ وَيُفَرِّقَ اللَّحْمَ فِي الْحَرَمِ عَلَى أَهْلِهِ. قَالَ فِي التَّتِمَّةِ: الذَّبْحُ خَارِجَ الْحَرَمِ لَا قُرْبَةَ فِيهِ، فَيَذْبَحُ حَيْثُ شَاءَ، وَيَلْزَمُهُ تَفْرِقَةُ اللَّحْمِ، وَكَأَنَّهُ نَذَرَ أَنْ يُهْدِيَ إِلَى مَكَّةَ لَحْمًا. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَذْبَحَ بِمَكَّةَ وَيُفَرِّقَ اللَّحْمَ عَلَى فُقَرَاءِ بَلَدٍ آخَرَ، وَفَّى بِمَا الْتَزَمَ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَنْحَرَ أَوْ أَذْبَحَ بِمَكَّةَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلَفْظِ الْقُرْبَةِ وَالتَّضْحِيَةِ، وَلَا التَّصَدُّقِ بِاللَّحْمِ، فَفِي انْعِقَادِ نَذْرِهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الِانْعِقَادُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَعَلَى هَذَا فِي وُجُوبِ التَّصَدُّقِ بِاللَّحْمِ عَلَى فُقَرَائِهَا الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ. وَلَوْ نَذَرَ الذَّبْحَ بِأَفْضَلِ بَلَدٍ، كَانَ كَنَذْرِ الذَّبْحِ بِمَكَّةَ، فَإِنَّهَا أَفْضَلُ الْبِلَادِ. وَلَوْ نَذَرَ الذَّبْحَ أَوِ النَّحْرَ بِبَلْدَةٍ أُخْرَى وَلَمْ يَقُلْ مَعَ ذَلِكَ: وَأَتَصَدَّقُ عَلَى فُقَرَائِهَا، وَلَا نَوَاهُ، فَوَجْهَانِ، أَوْ قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا وَهُوَ نَصُّهُ «الْأُمُّ» : لَا يَنْعَقِدُ. وَالثَّانِي: يَنْعَقِدُ. فَإِنْ قُلْنَا: يَنْعَقِدُ لَوْ تَلَفَّظَ مَعَ ذَلِكَ بِالتَّصَدُّقِ أَوْ نَوَاهُ، فَهَلْ يَتَعَيَّنُ التَّصَدُّقُ بِاللَّحْمِ، عَلَى فُقَرَائِهَا، أَمْ يَجُوزُ نَقْلُهُ إِلَى غَيْرِهِمْ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. الْمَذْهَبُ: أَنَّهُمْ يَتَعَيَّنُونَ. وَقِيلَ: فِيهِ خِلَافٌ مَأْخُوذٌ مِنْ نَقْلِ الصَّدَقَةِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَتَعَيَّنُونَ، لَمْ يَجِبِ الذَّبْحُ بِتِلْكَ الْبَلْدَةِ، بِخِلَافِ مَكَّةَ، فَإِنَّهَا مَحَلُّ ذَبْحِ الْهَدَايَا. وَإِنْ قُلْنَا: يَتَعَيَّنُونَ، فَوَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ الذَّبْحُ بِهَا، بَلْ لَوْ ذَبَحَ خَارِجَهَا وَنَقَلَ اللَّحْمَ إِلَيْهَا طَرِيًّا، جَازَ، وَبِهَذَا قَطَعَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» وَجَمَاعَةٌ. وَالثَّانِي: تَتَعَيَّنُ إِرَاقَةُ الدَّمِ بِهَا كَمَكَّةَ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَحَكَوْهُ عَنْ نَصِّهِ فِي «الْأُمِّ» . وَلَوْ قَالَ: أُضَحِّي بِبَلَدِ كَذَا، وَأُفَرِّقُ اللَّحْمَ عَلَى أَهْلِهَا، انْعَقَدَ نَذْرُهُ، وَيُغْنِي ذِكْرُ التَّصَدُّقِ، وَنِيَّتُهُ. وَجَعَلَ الْإِمَامُ وُجُوبَ التَّفْرِقَةِ عَلَى أَهْلِهَا وَوُجُوبَ الذَّبْحِ بِهَا عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ. قَالَ: وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: أُضَحِّي بِهَا، فَهَلْ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ تَخْصِيصَ التَّفْرِقَةِ بِهِمْ؟ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ: أَنَّهُ تَجِبُ