الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ
الشَّاةُ الْوَاحِدَةُ لَا يُضَحَّى بِهَا إِلَّا عَنْ وَاحِدٍ، لَكِنْ إِذَا ضَحَّى بِهَا وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ، تَأَدَّى الشِّعَارُ وَالسُّنَّةُ لِجَمِيعِهِمْ، وَعَلَى هَذَا حُمِلَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ضَحَّى بِكَبْشٍ وَقَالَ:«اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ» .
وَكَمَا أَنَّ الْفَرْضَ يَنْقَسِمُ إِلَى فَرْضِ عَيْنٍ، وَفَرْضِ كِفَايَةٍ، فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ التَّضْحِيَةَ كَذَلِكَ، وَأَنَّ التَّضْحِيَةَ مَسْنُونَةٌ لِكُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ.
قُلْتُ: وَقَدْ حَمَلَ جَمَاعَةٌ الْحَدِيثَ عَلَى الْإِشْرَاكِ فِي الثَّوَابِ، وَسَيَأْتِي
[بَيَانُهُ] إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
الْبَدَنَةُ تُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةٍ، وَكَذَا الْبَقَرَةُ، سَوَاءً كَانُوا أَهْلَ بَيْتٍ، أَوْ بُيُوتٍ، سَوَاءً كَانُوا مُتَقَرِّبِينَ بِقُرْبَةٍ مُتَّفِقَةٍ أَوْ مُخْتَلِفَةٍ، وَاجِبَةٍ أَمْ مُسْتَحَبَّةٍ، أَمْ كَانَ بَعْضُهُمْ يُرِيدُ اللَّحْمَ. وَإِذَا اشْتَرَكُوا، فَالْمَذْهَبُ أَنَّ قِسْمَةَ لَحْمِهَا تُبْنَى عَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ، أَمْ إِفْرَازٌ؟ إِنْ قُلْنَا: إِفْرَازٌ، جَازَتْ. وَإِنْ قُلْنَا: بَيْعٌ، فَبَيْعُ اللَّحْمِ الرَّطْبِ بِمِثْلِهِ، لَا يَجُوزُ، فَالطَّرِيقُ أَنْ يَدْفَعَ الْمُتَقَرِّبُونَ نَصِيبَهُمْ إِلَى الْفُقَرَاءِ مَشَاعًا، ثُمَّ يَشْتَرِيهَا مِنْهُمْ مَنْ يُرِيدُ اللَّحْمَ بِدَرَاهِمَ، أَوْ يَبِيعُ مُرِيدُ اللَّحْمِ نَصِيبَهُ لِلْمُتَقَرِّبِينَ بِدَرَاهِمَ. وَإِنْ شَاءُوا جَعَلُوا اللَّحْمَ أَجْزَاءً بِاسْمِ كُلِّ وَاحِدٍ جُزْءٌ، ثُمَّ يَبِيعُ صَاحِبُ الْجُزْءِ نَصِيبَهُ مِنْ بَاقِي الْأَجْزَاءِ بِدَرَاهِمَ، وَيَشْتَرِي مِنْ أَصْحَابِهِ نَصِيبَهُمْ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ يَتَقَاصُّونَ. وَقَالَ صَاحِبُ «التَّلْخِيصِ» : تَصِحُّ الْقِسْمَةُ، قَطْعًا لِلْحَاجَةِ. وَكَمَا يَجُوزُ تَضْحِيَةُ سَبْعَةٍ بِبَدَنَةٍ
أَوْ بَقَرَةٍ، يَجُوزُ أَنْ يَقْصُدَ بَعْضُهُمُ التَّضْحِيَةَ، وَبَعْضُهُمُ الْهَدْيَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْحَرَ الْوَاحِدُ الْبَدَنَةَ أَوِ الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعِ شِيَاهٍ لَزِمَتْهُ بِأَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ، كَالتَّمَتُّعِ، وَالْقِرَانِ، وَالْفَوَاتِ، وَمُبَاشَرَةِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَنَذْرِ التَّصَدُّقِ بِشَاةٍ، وَالتَّضْحِيَةِ بِشَاةٍ، لَكِنْ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ، تُرَاعَى الْمُمَاثَلَةُ وَمُشَابَهَةُ الصُّورَةِ، فَلَا تُجْزِئُ الْبَدَنَةُ عَنْ سَبْعَةٍ مِنَ الظِّبَاءِ. وَلَوْ وَجَبَ شَاتَانِ عَلَى رَجُلَيْنِ فِي قَتْلِ صَيْدَيْنِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَذْبَحَا عَنْهُمَا بَدَنَةً، وَيَجُوزَ أَنْ يَذْبَحَ الْوَاحِدُ بَدَنَةً أَوْ بَقَرَةً، سُبْعُهَا عَنْ شَاةٍ لَزِمَتْهُ، وَيَأْكُلُ الْبَاقِي كَمُشَارَكَةِ مَنْ يُرِيدُ اللَّحْمَ. وَلَوْ جَعَلَ جَمِيعَ الْبَدَنَةِ أَوِ الْبَقَرَةِ مَكَانَ الشَّاةِ، فَهَلْ يَكُونُ
[الْجَمِيعُ] وَاجِبًا حَتَّى لَا يَجُوزَ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْهُ، أَمِ الْوَاجِبُ السُّبْعُ فَقَطْ حَتَّى يَجُوزَ الْأَكْلُ مِنَ الْبَاقِي؟ فِيهِ وَجْهَانِ، كَالْوَجْهَيْنِ فِي مَاسِحِ جَمِيعِ رَأْسِهِ فِي الْوُضُوءِ، هَلْ يَقَعُ جَمِيعُهُ فَرْضًا، أَمِ الْفَرْضُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ؟
قُلْتُ: قِيلَ: الْوَجْهَانِ فِي الْمَسْحِ فِيمَا إِذَا مَسَحَ دُفْعَةً وَاحِدَةً، فَإِنْ مَسَحَ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَالثَّانِي سُنَّةٌ قَطْعًا، وَقِيلَ: الْوَجْهَانِ فِي الْحَالَيْنِ، وَمِثْلُهُمَا إِذَا طَوَّلَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَالْقِيَامَ زِيَادَةً عَلَى الْوَاجِبِ، وَفَائِدَتُهُ فِي زِيَادَةِ الثَّوَابِ فِي الْوَاجِبِ، وَالْأَرْجَحُ فِي الْجَمِيعِ أَنَّ الزِّيَادَةَ تَقَعُ تَطَوُّعًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوِ اشْتَرَكَ رَجُلَانِ فِي شَاتَيْنِ، لَمْ تُجْزِئْهُمَا عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَا يُجْزِئْ بَعْضُ شَاةٍ بِلَا خِلَافٍ بِكُلِّ حَالٍ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: الْوَقْتُ.
فَيَدْخُلُ وَقْتُ التَّضْحِيَةِ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَمَضَى قَدَرُ رَكْعَتَيْنِ وَخُطْبَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَفِي وَجْهٍ: تُعْتَبَرُ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخُطْبَتَهُ. وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِـ (ق) وَ (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) وَخَطَبَ خُطْبَةً مُتَوَسِّطَةً. وَقَالَتِ الْمَرَاوِزَةُ: الْخِلَافُ فِي طُولِ الصَّلَاةِ فَقَطْ، وَالْخُطْبَةُ مُخَفَّفَةٌ قَطْعًا، فَإِنْهُ السُّنَّةُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَمَا أَرَى مَنْ يَعْتَبِرُ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، يَكْتَفِي بِأَقَلِّ مَا يُجْزِئُ، وَظَاهِرُ
كَلَامِ صَاحِبِ «الشَّامِلِ» خِلَافُهُ. وَفِي وَجْهٍ: يَكْفِي مُضِيُّ مَا يَسَعُ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ الْكَرَاهَةِ، وَلَا تُعْتَبَرُ الْخُطْبَتَانِ. وَيَخْرُجُ وَقْتُ التَّضْحِيَةِ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَيَجُوزُ لَيْلًا وَنَهَارًا، لَكِنْ تُكْرَهُ التَّضْحِيَةُ وَالذَّبْحُ مُطْلَقًا فِي اللَّيْلِ، فَإِنْ ذَبَحَ قَبْلَ الْوَقْتِ، لَمْ تَكُنْ أُضْحِيَّةً، فَإِنْ لَمْ يُضَحِّ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ، فَاتَتْ، فَإِنْ ضَحَّى فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فِي الْوَقْتِ، وَقَعَ عَنِ الْوَقْتِ، لَا عَنِ الْمَاضِي، وَهَذَا كُلُّهُ فِي أُضْحِيَّةِ التَّطَوُّعِ، فَأَمَّا الْمَنْذُورَةُ، فَفِي تَوْقِيتِهَا خِلَافٌ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَهْلِيَّةُ الذَّابِحِ.
وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَذْبَحَ ضَحِيَّتَهُ وَهَدْيَهُ بِنَفْسِهِ. وَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ فِي ذَبْحِهَا مَنْ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُوكِّلَ مُسْلِمًا فَقِيهًا، لِعِلْمِهِ بِشُرُوطِهَا. وَلَا يَجُوزُ تَوْكِيلُ الْمَجُوسِيِّ وَالْوَثَنِيِّ، بِخِلَافِ الْكِتَابِيِّ. وَإِذَا وَكَّلَ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْضِرَ الذَّبْحَ. وَيُكْرَهُ تَوْكِيلُ الصَّبِيِّ فِي ذَبْحِهَا. وَفِي كَرَاهَةِ تَوْكِيلِ الْحَائِضِ، وَجْهَانِ:
قُلْتُ: الْأَصَحُّ: لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِيهِ نَهْيٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْحَائِضُ أَوْلَى مِنَ الصَّبِيِّ، وَالصَّبِيُّ الْمُسْلِمُ أَوْلَى مِنَ الْكِتَابِيِّ.
الثَّانِيَةُ: النِّيَّةُ شَرْطٌ فِي التَّضْحِيَةِ. وَهَلْ يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى الذَّبْحِ، أَمْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَقْرُونَةٌ بِهِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ. وَلَوْ قَالَ: جَعَلْتُ هَذِهِ الشَّاةَ ضَحِيَّةً، فَهَلْ يَكْفِيهِ التَّعْيِينُ وَالْقَصْدُ عَنْ نِيَّةِ الذَّبْحِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: لَا يَكْفِيهِ؛ لِأَنَّ التَّضْحِيَةَ قُرْبَةٌ فِي نَفْسِهَا، فَوَجَبَتِ النِّيَّةُ فِيهَا، وَاخْتَارَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: الِاكْتِفَاءَ. وَلَوِ الْتَزَمَ ضَحِيَّةً فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ عَيَّنَ شَاةً عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ، بُنِيَ
[عَلَى] الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْمُعَيَّنَةَ، هَلْ تَتَعَيَّنُ عَنِ الْمُطْلَقَةِ فِي الذِّمَّةِ؟ إِنْ قُلْنَا:
[لَا] فَلَا بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ عِنْدَ الذَّبْحِ، وَإِلَّا، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَلَوْ وَكَّلَ وَنَوَى عِنْدَ
ذَبْحِ الْوَكِيلِ، كَفَى وَلَا حَاجَةَ إِلَى نِيَّةِ الْوَكِيلِ، بَلْ لَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مُضَحٍّ، لَمْ يَضُرَّ. وَإِنْ نَوَى عِنْدَ الدَّفْعِ إِلَى الْوَكِيلِ فَقَطْ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي تَقْدِيمِ النِّيَّةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُفَوِّضَ النِّيَّةَ إِلَى الْوَكِيلِ إِنْ كَانَ مُسْلِمًا، وَإِنْ كَانَ كِتَابِيًّا، فَلَا.
الثَّالِثَةُ: الْعَبْدُ الْقِنُّ، وَالْمُدَبِّرُ، وَالْمُسْتَوْلِدَةُ، لَا يَجُوزُ لَهُمُ التَّضْحِيَةُ إِنْ قُلْنَا بِالْمَشْهُورِ: إِنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ بِالتَّمْلِيكِ، فَإِنْ أَذِنَ السَّيِّدُ، وَقَعَتِ التَّضْحِيَةُ عَنِ السَّيِّدِ. فَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُونَ، لَمْ يَجُزْ تَضْحِيَتُهُمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقُّ الِانْتِزَاعِ. فَإِنْ أَذِنَ، وَقَعَتْ عَنْهُمْ، كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُمْ فِي التَّصَدُّقِ، وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بَعْدَ الذَّبْحِ وَلَا بَعْدَ جَعْلِهَا ضَحِيَّةً. وَالْمَكَاتَبُ لَا تَجُوزُ تَضْحِيَتُهُ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ، فَإِنْ أَذِنَ، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَبَرُّعِهِ بِإِذْنِهِ. وَمَنْ بَعْضُهُ رَقِيقٌ، لَهُ أَنْ يُضَحِّيَ بِمَا مَلَكَهُ بِحُرِّيَّتِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنٍ.
الرَّابِعَةُ: لَوْ ضَحَّى عَنِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، لَمْ يَقَعْ عَنْهُ. وَفِي التَّضْحِيَةِ عَنِ الْمَيِّتِ، كَلَامٌ يَأْتِي فِي الْوَصِيَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قُلْتُ: إِذَا ضَحَّى عَنْ غَيْرِهِ بِلَا إِذْنٍ، فَإِنْ كَانَتِ الشَّاةُ مُعَيَّنَةً بِالنَّذْرِ، وَقَعَتْ عَنِ الْمُضَحِّي، وَإِلَّا، فَلَا، كَذَا قَالَهُ صَاحِبُ «الْعُدَّةِ» وَغَيْرُهُ. وَأَطْلَقَ الشَّيْخُ إِبْرَهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ: أَنَّهَا تَقَعُ عَنِ الْمُضَحِّي، قَالَ هُوَ وَصَاحِبُ «الْعُدَّةِ» : لَوْ أَشْرَكَ غَيْرَهُ فِي ثَوَابِ أُضْحِيَتِهِ وَذَبَحَ عَنْ نَفْسِهِ، جَازَ، قَالَا: وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ: «اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الذَّبْحُ.
فَالذَّبْحُ الَّذِي يُبَاحُ بِهِ الْحَيَوَانُ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ، إِنْسِيًّا كَانَ أَوْ وَحْشِيًّا، ضَحِيَّةً كَانَ أَوْ غَيْرَهَا، هُوَ التَّذْفِيفُ بِقَطْعِ جَمِيعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِّيءِ مِنْ حَيَوَانٍ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ بِآلَةٍ لَيْسَتْ عَظْمًا وَلَا ظُفْرًا، فَهَذِهِ قُيُودٌ. أَمَّا الْقَطْعُ، فَاحْتِرَازٌ مِمَّا لَوِ اخْتَطَفَ رَأْسَ عُصْفُورٍ أَوْ غَيْرِهِ، بِيَدِهِ، أَوْ بِبُنْدُقَةٍ، فَإِنْهُ مَيْتَةٌ. وَأَمَّا الْحُلْقُومُ،
فَهُوَ مَجْرَى النَّفَسِ خُرُوجًا وَدُخُولًا، وَالْمَرِّيءُ مَجْرَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَهُوَ تَحْتَ الْحُلْقُومِ، وَرَاءَهُمَا عِرْقَانِ فِي صَفْحَتَيِ الْعُنُقِ يُحِيطَانِ بِالْحُلْقُومِ، وَقِيلَ: بِالْمَرِّيءِ، وَيُقَالُ لَهُمَا: الْوَدَجَانِ، وَيُقَالُ لِلْحُلْقُومِ وَالْمَرِّيءِ مَعَهُمَا: الْأَوْدَاجُ. وَلَا بُدَّ مِنْ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِّيءِ، عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ. وَقَالَ الِاصْطَخْرِيُّ: يَكْفِي أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّ الْحَيَاةَ لَا تَبْقَى بَعْدَهُ. قَالَ الْأَصْحَابُ: هَذَا خِلَافُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رحمه الله، وَخِلَافُ مَقْصُودِ الذَّكَاةِ، وَهُوَ الْإِزْهَاقُ بِمَا يُوحِي وَلَا يُعَذِّبُ. وَيُسْتَحَبُّ مَعَهُمَا قَطْعُ الْوَدَجَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَوْحَى، وَالْغَالِبُ أَنَّهُمَا يَنْقَطِعَانِ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِّيءِ، فَإِنْ تَرَكَهُمَا، جَازَ. وَلَوْ تَرَكَ مِنَ الْحُلْقُومِ أَوِ الْمَرِّيءِ شَيْئًا يَسِيرًا، أَوْ مَاتَ الْحَيَوَانُ، فَهُوَ مَيْتَةٌ. وَكَذَا لَوِ انْتَهَى إِلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، فَقَطَعَ الْمَتْرُوكَ، فَمَيْتَهٌ. وَفِي «الْحَاوِي» وَجْهٌ: إِنْ بَقِيَ الْيَسِيرُ، فَلَا يَضُرُّ، وَاخْتَارَهُ الرُّويَانِيُّ فِي «الْحِلْيَةِ» ، وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ.
وَلَوْ قَطَعَ مِنَ الْقَفَا حَتَّى وَصَلَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِّيءَ، عَصَى، لِزِيَادَةِ الْإِيلَامِ. ثُمَّ يَنْظُرُ، إِنْ وَصَلَ إِلَى الْحُلْقُومِ وَالْمَرِّيءِ وَقَدِ انْتَهَى إِلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، لَمْ يَحِلَّ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِّيءِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ وَصَلَهُمَا وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، فَقَطَعَهُمَا، حَلَّ، كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ ذَكَّاهُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ كَانَ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ عِنْدَ ابْتِدَاءِ قَطْعِ الْمَرِّيءِ، وَلَكِنْ لَمَّا قَطَعَهُ مَعَ بَعْضِ الْحُلْقُومِ انْتَهَى إِلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ لِمَا نَالَهُ بِسَبَبِ قَطْعِ الْقَفَا، فَهُوَ حَلَالٌ؛ لِأَنَّ أَقْصَى مَا وَقَعَ التَّعَبُّدُ بِهِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ عِنْدَ ابْتِدَاءِ قَطْعِ الْمَذْبَحِ. وَالْقَطْعُ مِنْ صَفْحَةِ الْعُنُقِ، كَالْقَطْعِ مِنَ الْقَفَا. وَلَوْ أَدْخَلَ السِّكِّينَ فِي أُذُنِ الثَّعْلَبِ لِيَقْطَعَ الْمَرِّيءَ وَالْحُلْقُومَ مِنْ دَاخِلِ الْجِلْدِ، فَفِيهِ هَذَا التَّفْصِيلُ. وَلَوْ أَمَرَّ السِّكِّينَ مُلْصَقًا بِاللَّحْيَيْنِ فَوْقَ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِّيءِ، وَأَبَانَ الرَّأْسَ، فَلَيْسَ هُوَ بِذَبْحٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْطَعِ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِّيءَ. وَأَمَّا كَوْنُ التَّذْفِيفِ حَاصِلًا بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِّيءِ، فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: لَوْ أَخَذَ الذَّابِحُ فِي قَطْعِ الْحُلْقُومِ
[وَالْمَرِّيءِ] ، وَأَخَذَ آخَرُ فِي نَزْعِ حَشْوَتِهِ، أَوْ نَخَسَ خَاصِرَتَهُ، لَمْ يَحِلَّ؛ لِأَنَّ التَّذْفِيفَ لَمْ يَتَمَخَّضْ بِالْحُلْقُومِ وَالْمَرِّيءِ. وَسَوَاءً كَانَ مَا يَجْرِي بِهِ قَطْعُ الْحُلْقُومِ مِمَّا يُذَفِّفُ لَوِ انْفَرَدَ، أَوْ كَانَ يُعِينُ عَلَى
التَّذْفِيفِ. وَلَوِ اقْتَرَنَ قَطْعُ الْحُلْقُومِ بِقَطْعِ رَقَبَةِ الشَّاةِ مِنْ قَفَاهَا، بِأَنْ كَانَ يُجْرِي سِكِّينًا مِنَ الْقَفَا، وَسِكِّينًا مِنَ الْحُلْقُومِ حَتَّى الْتَقَتَا، فَهِيَ مَيْتَةٌ، بِخِلَافِ مَا إِذَا تَقَدَّمَ قَطْعُ الْقَفَا وَبَقِيَتِ الْحَيَاةُ مُسْتَقِرَّةٌ إِلَى وُصُولِ السِّكِّينِ الْمَذْبَحَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يَجِبُ أَنْ يُسْرِعَ الذَّابِحُ فِي الْقَطْعِ، وَلَا يَتَأَنَّى بِحَيْثُ يَظْهَرُ انْتِهَاءُ الشَّاةِ قَبْلَ اسْتِتْمَامِ قَطْعِ الْمَذْبَحِ إِلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، وَهَذَا قَدْ يُخَالِفُ مَا سَبَقَ: أَنَّ الْمُتَعَبَّدَ بِهِ، كَوْنَ الْحَيَاةِ مُسْتَقِرَّةً عِنْدَ الِابْتِدَاءِ، فَيُشْبِهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا، إِذَا تَبَيَّنَ مَصِيرُهُ إِلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، وَهُنَاكَ، إِذَا لَمْ يَتَحَقَّقِ الْحَالُ.
قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ، خِلَافُ مَا سَبَقَ تَصْرِيحُ الْإِمَامِ بِهِ، بَلِ الْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا مُقَصِّرٌ فِي الثَّانِي، فَلَمْ تَحِلَّ ذَبِيحَتُهُ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنْهُ لَا تَقْصِيرَ، وَلَوْ لَمْ يُحَلِّلْهُ، أَدَّى إِلَى حَرَجٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا كَوْنُ الْحَيَوَانِ عِنْدَ الْقَطْعِ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، فَفِيهِ مَسَائِلُ:
إِحْدَاهَا: لَوْ جَرَحَ السَّبْعُ صَيْدًا، أَوْ شَاةً، أَوِ انْهَدَمَ سَقْفٌ عَلَى بَهِيمَةٍ أَوْ جَرَحَتْ هِرَّةٌ حَمَامَةً، ثُمَّ أُدْرِكَتْ حَيَّةً فَذُبِحَتْ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، حَلَّتْ وَإِنْ تَيَقَّنَ هَلَاكُهَا بَعْدَ يَوْمٍ وَيَوْمَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، لَمْ تَحِلَّ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَحُكِيَ قَوْلٌ: أَنَّهَا تَحِلُّ فِي الْحَالَيْنِ، وَقَوْلٌ: أَنَّهَا لَا تَحِلُّ فِيهِمَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الشَّاةِ إِذَا مَرِضَتْ، فَصَارَتْ إِلَى أَدْنَى الرَّمَقِ فَذُبِحَتْ، فَإِنْهَا تَحِلُّ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ سَبَبٌ يُحَالُ الْهَلَاكُ عَلَيْهِ.
وَلَوْ أَكَلَتِ الشَّاةُ نَبَاتًا مُضِرًّا، فَصَارَتْ إِلَى أَدْنَى الرَّمَقِ فَذُبِحَتْ، قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ مَرَّةً: فِيهَا وَجْهَانِ، وَجَزَمَ مَرَّةً بِالتَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبٌ يُحَالُ الْهَلَاكُ عَلَيْهِ، فَصَارَ كَجُرْحِ السَّبْعِ. ثُمَّ كَوْنُ الْحَيَوَانِ مُنْتَهِيًا إِلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، أَوْ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، تَارَةً يَسْتَيْقِنُ، وَتَارَةً يَظُنُّ بِعَلَامَاتٍ وَقَرَائِنَ لَا تَضْبُطُهَا الْعِبَارَةُ، وَشَبَّهُوهُ بِعَلَامَاتِ الْخَجَلِ وَالْغَضَبِ وَنَحْوِهِمَا. وَمِنْ أَمَارَاتِ بَقَاءِ الْحَيَاةِ الْمُسْتَقِرَّةِ: الْحَرَكَةُ الشَّدِيدَةُ بَعْدَ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِّيءِ، وَانْفِجَارِ الدَّمِ