الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حيث يجعل رسالته، وقوله تعالى:(الْكِتَابَ) للدلالة على كمال الكتاب في ذاته، فهو الجدير بأن يسمى كتابا، وليس غيره جديرا بهذه التسمية، وله ذلك الشرف الداني، لأنه يشتمل على كل ما يصلح البشر في معاشهم، ومعادهم وما تقوم به مدنية سليمة فاضلة تنفي خبثها، وتدعم خيرها، وله شرف آخر إضافي وهو أنه منزل من اللَّه العزيز الرحيم الرءوف الغفور الذي رحمته وسعت كل شيء.
هذه صفات ذاتية وإضافية، ومن صفاته الذاتية أيضا أنه لَا عوج فيه، ولذا قال تعالى:(وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا)، أي أنه سبحانه خلقه متجها إلى الحق من غير انحراف، وأنه كالجسم الذي لَا يعوَّج حسيا، فإن الجسم قد يكون في ذاته مستقيما، ولكن قد يتعرض لبعض الصدمات التي تجعله يسيخ (1) أو ينقبض، وإن هذا القرآن لَا عوج فيه، لَا من وخارجه ولا من أصل تكوينه، فهو كونه قويما ولا يمسه شيء يزيغ أو ينحرف، فهو قويم غير قابل للاعوجاج.
(1) يسيخ - هكذا بالخاء - يرسخ. القاموس المحيط (ساخ).
(قَيِّمًا
…
(2)
أي أنه مستقيم في ذاته كما أنه لم يعره اعوجاج في أي ناحية من نواحيه، ولا أي معنى من معانيه وهو قيِّم على الكتب السابقة كلها؛ لأنه مهيمن عليها يبين ما نسخ منها، وما لم ينسخ، وما كان فيه تحريف، وما نسي، وما بقي، وهو قيم على مصالح الناس، ودفع مفاسدها، وقيام بنائها الصالح، ومنظم الجماعات الإنسانية على قواعد الأخلاق والفضيلة، وإبعاد المفاسد والرذائل.
وإذا كان لإقامة بناء اجتماعي سليم، وليستقيم الناس في معاشهم ومعادهم، ففيه بيان الأحكام التكليفية لهم وما يجب يوم القيامة، فإن العصاة لَا يستقيمون إلا إذا كان أمامهم عذاب يوم القيامة، قال تعالى:(لِّيُنذِرَ بَأسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ)، أي أن نزوله بما فيه من أخبار البعث والنشور وبما فيه من أحكام تصلح الناس في عامة أمورهم، كان لَا بد أن ينذر بأسا شديدا، والإنذار له مفعولان وهو هنا له مفعولان: أولهما محذوف مع تقديره في الكلام، وهو (الناس)، وثانيهما
موجود، وهو (بَأْسًا شَدِيدًا)، والمراد العذاب الموصوف بأنه بأس شديد، فأطلق الوصف وأريد الموصوف، وفسر بعض العلماء البأس بأنه العذاب العاجل الذي لا يتأخر لحظة عن ميقاته، وهو آت لَا محالة وكل آت فهو لَا بد عاجل، لَا يتخلف أبدا.
وقوله تعالى: (مِّن لَّدُنْهُ) الضمير يعود على اللَّه تعالى؛ من عند اللَّه تعالى، وفي الحكم بأنه صادر عن اللَّه تعالى آت من عنده إرهاب بهذا العذاب؛ لأنه آت من عند الواحد القهار، وبيان لشدته، وتأكد وقوعه، فلا مناص منه، ولا سبيل للابتعاد عن وقوعه.
وكما أنه منذر لمن عصى، فهو مبشر لمن أطاع، فلا جدوى في الإنذار إن لم يكن معه تبشير؛ لأنه يكون تحذيرا لمن يغوى وتبشيرا لمن يفعل الصالحات، فهو تخويف وتشجيع وتحريض؛ ولذا قال تعالى:(وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا) التبشير الإخبار بما يسر ولا يضر، وعبرنا بالموصول للإشارة إلى أن الصلة هي السبب في هذا الجزاء، والصالحات هي الأعمال التي يقصد بها وجه اللَّه، وطلب الخير والنفع وأن تكون القلوب طيبة سليمة، فهي التي تصلح بها الأعمال وهي التي بها تفسد، ويلاحظ هنا أنه ذكر الأعمال الصالحة ولم يذكر الإيمان؛ لأن الإيمان مقدر لأنه أساس الخيرات، ولأنه عمل القلوب فهو داخل في عمل الصالحات، وذكر سبحانه الجزاء فقال:(أَجْرًا حَسَنًا)، تكرم اللَّه تعالى فسمى الجزاء أجرا وكأنه ثمن لخير قُدِّم مع أن الهداية من فضل اللَّه ورحمته، للإشارة إلى أن اللَّه كريم حليم، يمن بالخير ويجازي عليه، ووصف الأجر بأنه حسن، أي أجر يستحسن ويحب ويرغب فيه، ويطلب لأنه في مظهره حسن، وفي حقيقته نعمة دائمة، ولقاء للَّه ورضوان منه، وهو أعظم، وكل ذلك تشمله كلمة حسن.
وإن هذا الأجر الحسن هو الجنة التي يخلدون (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا. . .)؛ ولذا قال تعالى: