الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأُمُورُ)، أي أن الأمور كلها ترجع إليه وحده يوم القيامة، ليحاسب كل نفس بما كسبت، وتجد كل نفس ما عملت محضرا، من خير أو من شر، ويكون له وحده الجزاء، وفي تقديم الجار والمجرور بيان أن المرجع إليه وحده، وله وحده الحساب، وهو بكل شيء عليم.
بعد ذلك خاطب اللَّه تعالى الذين آمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
(77)
واضح كل الوضوح أن النداء للرسول وأتباعه، وليس لكل الناس، فالناس يدخلون في النداء إذا آمنوا ومن يؤمن بالرسالة المحمدية فهذا تكليفها، وهو الصلاة، واختصت بالابتداء لأنها عمود كل دين، ولا دين من غير صلاة وإن اختلفت أشكالها في الديانات السماوية وكل طريق إلى اللَّه واتجاه إليه سبحانه، ولأن الصلاة هي العبادة التي تنصرف فيها النفس والجوارح إلى اللَّه وحده، ولأنها امتلاء النفس بذكر اللَّه تعالى؛ ولأنها إذا أديت على وجهها من قيام وخشوع كامل، وضراعة صادقة، واستحضار النفس لكل معانيها، لَا تقع من الإنسان المنهيات، كما قال تعالى فى خاصتها:(. . . إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ. . .)، وخص الركوع والسجود بالطلب مع أن الصلاة لها أركان قراءة وتكبير، وركوع وسجود، فقال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكمْ)؛ وذلك لأن الركوع والسجود هما الظهر الحسي للخضوع للَّه تعالى خضوعا كاملا، ولأنهما لَا يسقطان عن المكلف قط، فالقراءة قد تسقط عن المكلف إذا كان يصلي مؤتما بإمام قارئ، وتسقط عند العجز عن القراءة، أما الركوع والسجود فلا يسقطان فإن لم يستطع الصلاة قائما، صلى قاعدا، وإذا لم يستطع الصلاة بحركات صلى بالإيماء، وإلا فهو في عفو اللَّه، وروي أن بعض الشافعية أجاز الصلاة بالإيماء بالعينين، ولأنهما لَا يسقطان فكانا رمزا للصلاة كلها.
وبعد الصلاة أمر سبحانه وتعالى بالعبادات كلها، وهذا من قبيل ذكر العام بعد الخاص، فيشمل ذكر العبادة الصوم والحج، والكفارات والنذور، والزكاة، والصدقات المنثورة، وأن يعبد اللَّه تعالى في كل عمل يعمله، بأن يقصد به وجه اللَّه تعالى، فالعامل في مصنع أو في متجر أو فلاحة الأرض يقصد وجه اللَّه ونفع الناس، فيكون في عبادة مستمرة، ويصدق عليه قوله صلى الله عليه وسلم:" لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله "(1).
وقد أمر سبحانه وتعالى بفعل الخير أمرا مطلقا غير مقيد ولا محدود فقال عز من قائل: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكمْ تُفْلِحُونَ)، الخير كل عمل يكون فيه نفع للناس، ويتفاوت الخير فيه بتقارب مقدار النفع، فالنفع الكثير يكون الخير بقدره، ونفع أكبر عدد يكون الخير كله، مع القيام بالعبادات على شتى فروعها وكل أنواعها.
وقال تعالى: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، أي رجاء أن تفلحوا وتفوزوا في الدارين في الدنيا فتكونوا خير الناس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" خير الناس أنفعهم للناس " والرجاء من العباد لَا من اللَّه؛ لأن اللَّه تعالى لَا يرجو بل يعلم وينفذ. إنه عليم حكيم.
ونرى أن الآية ابتدأت بالأمر بتطهير النفوس بتوجهها إلى اللَّه تعالى في الصلاة والعبادة، ثم اتجهت الأوامر إلى نفع الجماعة وأن يكون كل واحد عنصر نفع إنساني فيها.
ثم اتجهت من بعد إلى ما فيه حماية الأمة الإسلامية ونشر دعوتها، فقال تعالى:
(1) سبق قريبا.
(وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ
وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
هذا تكميل ما جاء في الآية السابقة، ففي الآية السابقة كان التدرج من الأمر بتطهير النفس، وملئها باللَّه تعالى في الصلاة والعبادة، ثم فعل الخير لأكبر عدد ممكن في الأمة، وفي هذه الآية المطالبة بالنفع الإنساني بتبليغ الرسالة المحمدية رسالة الإنسانية للناس جميعا، وذلك بالدعوة إلى الإسلام، وهو جهاد، وتذليل العقبات في سبيل هذه الدعوة، وإزالة كل المحاجزات التي تحاجز دونها، ولو كان ذلك بالحرب، ولذا قال تعالى:(وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكمْ).
الجهاد مفاعلة ببذل الجهد، فالمؤمن يبذل جهده في الدعوة إلى اللَّه، والمقاوم من الكفار يبذل جهده في الصد عن سبيل اللَّه، ومقاومة الحق.
وقوله تعالى: (فِي اللَّهِ)،، أي الجهاد لأجل ذات اللَّه وابضغاء مرضاته فـ (فِي) هنا تفيد السببية، كما في الحديث الشريف:" دخلت امرأة النار في هرة "(1)، والإتيان بـ (فِي) بدل " الباء " أو " من " فيه معنى إحاطة اللَّه تعالى بالجهاد بأن يكون كله للَّه تعالى، وقوله تعالى:(وحَقَّ) الإضافة فيه بيانية، أي الجهاد الحق الذي يكون من غير إرادة الفخر، أو ابتغاء دنيا يصيبها، وحق الجهاد أن يخلص النفس من أدران الهوى، وإرادة إراقة الدماء، وأن يجاهد المقاتل نفسه أولا، فيقيها عن شهواتها، ويبعد عنها نزغات الشيطان، وأن يجاهد للحق ورفعته، ويكون الجهاد أحيانا أمام الحكام الغاشمين، ولقد قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم:" أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر "(2)، وإذا قتله يكون خير الشهداء.
(1) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ» قَالَ: فَقَالَ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ: «لَا أَنْتِ أَطْعَمْتِهَا وَلَا سَقَيْتِهَا حِينَ حَبَسْتِيهَا، وَلَا أَنْتِ أَرْسَلْتِهَا، فَأَكَلَتْ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ» . رواه البخاري: (3248)، ومسلم (6931) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
سبق تخريجه.
وحق الجهاد ألا يرفع السيف في سبيل الدعوة الإسلامية إلا إذا تعذرت الإجابة بالتي هي أحسن، وإلا بعد البيان، ومحاجزة أهل الباطل بين الدعوة المحمدية والناس، ولذلك كان الجهاد في الإسلام ليس للشعوب، ولكن لمعسكر السلطان الذي يحول بين الدعوة الإسلامية والشعوب، وإذا وصلت الدعوة إلى الشعوب فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما ربك بظلام للعبيد، فلا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي.
ويقول سبحانه مشيرا إلى الحقائق الإسلامية، ومبينا أن الأمة الإسلامية هي المختارة لهذه الدعوة فقال تعالى:(هُوَ اجتَبَاكمْ)، أي اختاركم من سائر الناس، أي اختاركم واصطفاكم، ونقول هنا: هذا خطاب لكل المسلمين على أنهم الأمة المختارة للتوحيد والدعوة إليه، والجهاد في سبيله، أم أن المخاطب هم العرب على أساس أن البعثة المحمدية كانت فيهم، وأن اللَّه اختار نبيه منهم، وأنهم الذين حملوا الدعوة، وقد بينا لماذا كان الاجتباء في كتاب خاتم النبيين.
ومعنى (اجْتَبَاكمْ)، من الجَبْي بمعنى الجمع، يقال: جبى الخراج، بمعنى جمعه، واجتباه، افتعال من جبى، فهو سبحانه وتعالى جمع الناس جمعا كاملا، وخص بعض هذه الجموع بالخير، فكان المجتبي، وإن اللَّه تعالى اجتبى العرب أو المسلمين بعامة، ليكونوا حاملي الدعوة، والمجاهدين ابتداء في سبيلها، ومنع المحاجزات التي تعترض طريقها بكل طرق الجهاد، وقد قال صلى الله عليه وسلم:" جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم، وألسنتكم "(1).
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أعذار الجهاد، فقال عز من قائل:(وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِن حَرَجٍ) ومع أن هذا النص يشير إلى أن الجهاد مفروض على كل القادرين يشير إلى أصحاب المعاذير كالذين في قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ
(1) سبق تخريجه.
لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92).
فقوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) فيه إشارة إلى أن فرضية الجهاد مرفوعة عن أصحاب المعاذير وقت عذرهم، وهي في الوقت ذاته قاعدة عامة في معاني الشريعة الإسلامية، والحرج أصله الضيق بين الأشياء المجتمعة فهو الضيق في صدور الناس وفي تكليفاتهم.
والشريعة الإسلامية جاءت لنفع الناس وجلب الخير لهم، " وخير الدين أيسره "(1)، كما روي عنه صلى الله عليه وسلم، وقد روت أم المؤمنين عائشة عن أعمال النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، ذلك أن الشاق يصعِّب على المؤمن المداومة، والمداومة تربي في النفس عادة الطاعة، وتكون لها في النفس مجار تنير الخير، ولذلك روى في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" أحب الأعمال أدومها وإن قلَّ "، وروي عنه أنه قال:" إن الله يحب الديمة من الأفعال "، ونهى عن التشدد في الدين، وقال:" لَا تشددوا، ولكن سددوا وقاربوا "، وقد وصل الله تعالى شيريعة محمد صلى الله عليه وسلم بشريعة إبراهيم أبي العرب لتقريبها إليهم، فقال:
(مِّلَّةَ أَبِيكمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا)، (مِّلَّةَ) منصوب على الاختصاص، أي أعني ملة أبيكم إبراهيم عليه السلام، وسمي أبًا للعرب، وإن كان أبا لبعضهم؛ وذلك لأن العرب جميعا كانوا يتفاخرون بالانتساب إليه، ولأنه باني البيت الحرام الذي كان مناط عزة العرب أجمعين، ولأنه أب بالفعل لقريش الذين ابتدأت الدعوة المحمدية فيهم، وكان ذكر هذه الدعوة الكريمة تقريبا وتأليفا، وإدناء من الإسلام، (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسلِمِينَ مِن قَبْلُ)، الإشارة إلى القرآن، وسماهم المسلمين من قبل في مثل ما حكاه اللَّه تعالى من دعاء إبراهيم عليه السلام: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا
(1) رواه الطبراني في الكبير، عن عمران بن حصين رضي الله عنه، ورجاله رجال الصحيح، ولفظه:" خَيْرُ دِينِكُمْ أيْسَرَه ". مجمع الزوائد (7385).
مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) وسمى القرآن المتبعين لمحمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ. . .).
قوله تعالى: (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)" اللام " وما بعدها متعلق بقوله تعالى، (وَجَاهِدُوا)، والمعنى جاهدوا لأجل أن يكون الرسول شهيدا عليكم بأنكم بلغتم وأديتم الأمانة التي أودعها اللَّه ونبيه إياكم، فيشهد الرسول بأنكم أديتموها حق أدائها، ورعيتموها حق رعايتها، وإن رسالة نبيكم والقرآن فيهما شهادة للأنبياء أجمعين ومعجزاتهم، ومن أطاعوا ومن كفروا، وأنتم بهذا تكونون شهداء بأن بلغتم لهم رسالات اللَّه مؤيدة بمعجزاتها، وأن منهم من آمن ومنهم من كفر.
ولان لهم هذه المنزلة، ومقامهم من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم والرسائل السابقة أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فقال تعالت كلماته:(فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ)، " الفاء " للإفصاح عن شرط مقدر تقديره إذا كانت لكم هذه المكانة، فادرعوا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والاعتصام باللَّه فأمرهم بإقامة الصلاة وقال:(فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) ائتوا بها مقومة خالصة لوجه اللَّه تعالى بأركانها من ركوع وسجود وقعود خاشعين للَّه مستحضرين لذاته العلية، إذا ذكرتموه وإذ كبرتم، (وَآتُوا الزَّكآةَ)، وقد جمع سبحانه بذلك بين التهذيب الروحي بالصلاة، والتعاون الاجتماعي بالزكاة، ثم أمر بالاتفاق على طاعة اللَّه تعالى فقال:
(وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ) الاعضصام الاستمساك، فمعنى الاعتصام باللَّه الاستمساك به، بأن يكونوا مستمسكين بأوامره ونواهيه، ومستمسكين بذاته العلية لَا يفكرون إلا فيه، ولا يبتغون غيره، ويلتفون حول شريعته غير منفصلين عنه، وهو نعم المولى ونعم النصير، ولذا ختم السورة بقوله:(فَنِعْمَ الْمَوْلَى) الذي تكون له ولاية المؤمن لَا يوالي غيره ولا يواد من يحادّ اللَّه ورسوله، (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) الناصر، فلا ناصر في الشدائد، ولا منجي سواه.
* * *