الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
برسالة سماوية من الله تعالى (فَنَبَذْتُهَا)، أي ألقاها في مهب الريح، كما تلقى النواة وترمى، واستبدل بالتوحيد الشرك والكفر، وأن يكون على دين من يعبدون البقر لعنهم الله تعالى، وقد بين بعد ذلك أن هذا من هوى النفس وليس قائما على منطق من عقل، ولذا قال:(وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)، أي كذلك الذي رأيتم من فتنة بني إسرائيل بهذا التضليل زينت لي نفسي، ومعنى التسويل أنه تردد في هذا الأمر بتساؤل نفسي حتى أختار ما أختار وزينته وحسنته. كان لابد له من عقاب يكون به عبرة في الدنيا، وعقاب الآخرة ثابت له.
ولذا ذكره موسى الكليم بعقاب في الدنيا، وترك عقاب الآخرة لربه الأعلى.
(قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا
(97)
" الفاء " كما ذكرنا للإفصاح عن شرط مقدر تقديره: إذا كان هذا ما صنعت، فاذهب إلى آخره، وقد ذكر له عقابين كما أشرنا عقاب الدنيا وعقاب الآخرة، فأما الدنيا، فقد قال فيه:
(فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقولَ لَا مِسَاسَ) أي فإن الذي يبقى لك فيه أن ينفر الناس منك، وأن تكون في حال من يمسك فيها يؤلمك أشد الإيلام، فإذا لقيت الناس قلت: لَا مساس، أي لَا تمسوني، وإن ذلك يدل دلالة قاطعة على أن المساس يؤلمه، فهو مرض يصاب به، ويكون عبرة بين الناس بآفته.
وأقوال الزمخشري تتجه إلى أن قوله لَا مساس منع من مخالطة الناس، حتى لا يجرهم إلى الضلال والفتنة، وقال في ذلك: عوقب في الدنيا بعقوبة لَا شيء أطمَّ منها وأوحش، وذلك أنه منع من مخالطة الناس منعا كليا، وحرم عليه ملاقاتهم، ومكالمتهم، ومبايعتهم، ومواجهتهم، وكل ما يعايش به الناس بعضهم بعضًا، واذا اتفق أن يماسّ أحدا رجلا أو امرأة حم المماس والممسوس، فتحامى الناس وتحاموه، وكان يصيح: لَا مساس، وعاد في الناس أوحش من القاتل اللاجئ إلى الحرم، ومن الوحش النافر في البرية، هذا هو عقاب السامري في الدنيا نفرة من الناس، ونفرة منه لمرض ألَمَّ به، ومنع من الناس، ونرى الأول كما أشرنا.
وأما العقاب الأخروي فقد ترك أمره لله تعالى، وقال له موسى (وَإنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّن تُخْلَفَهُ) أي أنه جاءٍ لَا محالة، وهو يوم البعث.
واتجه موسى إلى مادة الجريمة بعد أن اتجه إلى المجرم، وهو صورة العجل، أو تمثاله فقال:(وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا) أمره موسى أن ينظر إليه لبيان أنه ليس شيئا يعبد، فإن المعبود باق يدوم ولا يفنى، وأمره بالنظر إليه مع التعبير بأنه إلهه الذي يعبده تهكما به، وبمن اتخذه إلها (الَذي ظَلْتَ) مخفف من (ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكفًا)، أي ظللت مقيما عابدا لله وحده (لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا) يقال حرَّق الشيء إذا برده بالمبرد، حتى صار ذرات تنسف، ومن ذلك قولهم: يحرق الأُرَّم، وإنه بعد بَرْده ينسف في البحر نسفا أي يلقى في البحر ذرات غير متجمعة ولا مجموعة، ومن الخطأ أن يفسر (لَّنُحَرِّقَ) بمعنى الإحراق بالنار؛ لأن النار تذيب الذهب وتصهره، ولا تجعله ذرات تنسف، ولأن اللغة تفسر التحريق بالبرد بالمبرد، وهو المعقول المناسب للمقام، والمتفق مع السياق وكلمة النسف.
* * *
الواحد الأحد، وعاقبة جحوده
(إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ
فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
بين الله سبحانه بعد أن كشف موسى لبني إسرائيل بطلان عبادتهم تمثال العجل الذي عبدوه، وما نزل بمن ابتدع عبادته، ومآل ذلك التمثيل، أخذ يبين المعبود الحق، والإله الذي توافرت فيه أسباب الألوهية مخاطبا الناس أجمعين قريشا وغيرهم من الخليقة وبني إسرائيل وسواهم، فقال عز من قائل:
(إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ) أكد سبحانه وحدانية الألوهية في الله جل جلاله بثلاثة مؤكدات أولها: (إِنَّمَا) فإنها تدل على الحصر، أي أنها تدل على أنه لَا إله غيره، والثاني: بتعريف الطرفين (إِلَهُكُمُ اللَّهُ) جل جلاله فإلهكم معرفة، والله جل جلاله معرفة. والثالث بقوله:(لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) هذا التأكيد كان من مقتضى الحال؛ لأنه تعقيب على قول ناس ضلوا ضلالا بعيدا، حتى بلغ بهم الوهم أن صنعوا تمثالا بأيديهم، وعبدوه، فكان فعلهم بهتانا عظيما بهتوا به العقول والمدارك، وعندما يشتد قول الباطل يكون من مقتضى الحال أن يؤكد بيان الحق ليمحو الأوهام.
ولقد ذكر سبحانه بعد ذلك السبب في أن الله وحده هو الإله، فقال:(وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا)، أي وسع علمه كل شيء فهو سبحانه وتعالى يعلم الوجود كله من مبتدئه إلى منتهاه ومآله ولا يكون ذلك إلا للخالق المدبر سبحانه وتعالى، فالله تعالى كان الإله وحده؛ لأنه خلق كل شيء وحده، فلا بشاركه في خلقه أحد، وهو بهذا ليس من نوع ما خلق، بل هو مخالف لكل الحوادث التي أنشاها، وغيره منها، فهو بمقتضى حكم العقل المعبودُ وحده، ولا معبود سواه؛ لأن ما عداه حجرا أو شخصا أو تمثالا ناقص محتاج إلى غيره، ولا يعبد إلا الكامل واجب الوجود المطلق.