الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أمام الناظرين، والوصيد هو فناء الكهف، أو عتبته، أو على مقربة منه، وهذا الكلب يقال إنه كليب صيد لهم فكان مثلهم، ولقد كان ما يقرب من الكرام يكرم مثلهم، فكرم كما كرموا.
(لَوِ اطَلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا) هذه مظاهرهم، ولوِ اطلعت أيها المخاطب المعرف بأمرهم، وفحصت حالهم (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا)، أي لآثار الاستغراب في نفسك ما يبعدك عن أحياء ليس فيهم مظاهر الحياة بل فيهم رهبة وهيبة، وما يثير العجب لأنه غير مألوف أن ترى أشخاصا يمكثون مئين من السنين على حال لَا هي حياة فيها كل مظاهر الحياة من حركة وكلام، ولكنك لَا ترى إلا سكونا، ومظاهر الحياة موجودة من عيون يقظة هذه تجعل الناظرين يجعلهم يحسبون أنهم ليسوا أمواتا ولا أحياء وما لَا يألفه الإنسان يفر منه فرارا، والخلاصة أنهم لو علموا حالهم، واطلعوا على أمورهم لولوا هاربين فارين منهم يحسبون أنهم ليسوا أناسِيَّ.
(وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا) والخطاب للقارئ أو السامع بأخبارهم المعرَّف لأحوالهم، هذه حالهم التي لبثوا عليها حتى بعثهم اللَّه تعالى، ولنقرأ خبر بعثهم، قال تعالى:
(وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا
(19)
إن اللَّه تعالى ضرب على آذانهم فلم يسمعوا، وربط على قلوبهم عندما خاطبوا جبار عصرهم، وحماهم من البلى سنين تجاوزت ثلاثمائة أو يزيد، كما جعلهم كذلك أحياء وإن كانوا من غير حركة إلا أن يتقلبوا يمينا وشمالا حفظا لأجسامهم، كما منَّ عليهم بكل ذلك وبعثهم من رقودهم، أو كما ظهرت آياته في كل هذا بعثهم من رقودهم فهي آيات تتراءى آية بعد آية، والبعث ليس هو البعث من موت، إنما هو اليقظة من منام، وإن طال أمدا، ويقول سبحانه:
(وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ) يجوز أن تكون اللام للتعليل، أي أننا بعثناهم لكي يتساءلوا بينهم، وليتناقشوا في مدة لبثهم، فما كانوا ليتساءلوا لو استمروا في رقودهم، وقد ضربنا على آذانهم، ولكن الأولى ما قاله الأكثرون من المفسرين أن اللام لام العاقبة كاللام في قوله تعالى:(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا. . .)، فالمعنى بعثناهم لتكون العاقبة أن يتساءلوا فيما بينهم عن المدة التي لبثوها، (قَالَ قَائِلٌ منْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ)، كم من الزمن لبثتم، لقد قالت الأخبار التي لَا وجه للظن فيها أنهم ناموا غدوة يوم، وصحوا في عشية يوم آخر عندما كانت إرادة اللَّه تعالى أن يستيقظوا، (قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)، إذا لم يحسب الليل يكون نهارا، وقد يعد يوما، وإن حسب الليل يكون بعض يوم، ونسب هذا القول إلى كلهم، فقال:(قَالُوا)، ويظهر أنه قاله بعضهم، ورضيه كلهم ظنا منهم، ولكن الريب كان يحيط بهم فاختاروا التفويض لعلم اللَّه تعالى بدل الجزم بقول، ويظهر أن حسهم قد جعلهم يرون تغييرا فيما يحيط بهم، أو أن حرص المؤمن بقدرة اللَّه تعالى جعلهم يعتقدون أن التفويض أولى؛ ولذا قالوا:(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتمْ) فوضوا أمر علم الزمن إلى اللَّه تعالى، واللَّه قادر على كل شيء ولكنهم أحسوا بالجوع، بعد هذا اللبث الذي يحتمل أن يكون طويلا، واللَّه به عليم.
ونسب القول إليهم جميعا، ويظهر أن بعضهم قاله ووافق عليه الجميع؛ لأنهم كانوا غير جازمين بزمن معين، والتسليم في هذه الحال أحوط وأسلم، وأشد إيمانا وتثبيتا، وقد أرادوا أن يتركوا الخوض فيما لَا علم لهم به، وأن يشغلوا بأنفسهم، فقال تعالى عنهم قالوا:(فَابْعَثُوا أَحَدَكم بِورِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) اجتمعوا على أن يسدوا غلة الجوع، والورق هي الفضة، والمراد النقود المسكوكة منها، و (الفاء) للإفصاح عن شرط مقدر تقديره إن كنتم لَا تعلمون كم لبثتم، فاشغلوا أنفسكم بأنفسكم، واطلبوا غذاء لكم.