الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك طرف من أخبار أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وقد ذكرت أخبار إبراهيم في عدة مواضع من القرآن الكريم، ولا تكرار فيها قط، بل ذكر في كل موضع جزء من أخباره يخالف الآخر، ففي سورة البقرة كانت أخبار بناء الكعبة وصلة إبراهيم بخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، وفي آخرها خبر إحياء الموتى، وفي سورة الأنعام كان تأمله في النجم والقمر والشمس حتى اهتدى إلى الله، وفي سورة التوبة كان وصف إبراهيم المصور لشخصه الكريم بأنه أواه حليم، وفي سورة إبراهيم كانت دعوته لذريته:(رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)، وفي السورة نفسها كانت قصة هبة اللَّه له إسماعيل وإسحاق:(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ. . .)، وفي سورة الأنبياء كانت قصة تحطيمه الأوثان وإلقائه في النار:(قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) وهكذا نرى أنه لَا تكرار في القرآن وقصصه، وإذا كانت قصة إبراهيم وموسى ونوح وغيرهم قد تكرر ذكرها في القرآن فليس تكرارا لأخبار واحدة، وإنما تتناول الأجزاء نواحي مختلفة، ولا تتكرر ناحية.
قال تعالى في ابتداء قصة إبراهيم:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا
(41)
الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، والكتاب هو القرآن، و (ال) للاستغراق، المعنى أي أنه هو الكتاب الجدير بأن يسمى كتابا، وهو الكامل والستغرق لكل صفات الكمال، والقصر فيه قصر إضافي، أي أنه لَا كتاب يوصف بالكمال المطلق سواه، وقوله تعالى:(إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا) والصِّدِّيق هو البالغ أقصى درجات الصدق في القول والعمل والإذعان للحق، وهو الذي يصدق الحق إذا ألقي إليه، لَا يماري فيه ولا يمتنع عن الإقرار به والإذعان له، وأي دلالة أبلغ من التصديق والإذعان عندما رأى في المنام أنه يذبح ابنه فَهَمَّ بأن يذبحه، وقد قال تعالى في ذلك: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا
تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109).
وهو نبي من أولي العزم من الرسل، وَجَدُّ خاتم النبيين.
وإن هذا الجزء من قصة إبراهيم فيه علاقة الأبوة بإبراهيم واحترامها والتلطف فيها والرفق بها والمحبة لها.
قال تعالى عنه مخاطبا أباه:
(إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)
ابتدأ بندائه بقوله: (يَا أَبَتِ) وهو نداء المحبة العاطفة المقربة، وذلك شأن الداعي الكامل يبتدئ بما يقرب ولا ينفر.
و
(إِذْ) متعلقة بـ (اذْكُرْ)، أي اذكر حال دعوته لأبيه تلك الدعوة الرفيقة المقربة الميسرة الهادية المرشدة، وأمر اللَّه تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يذكرها في الكتاب لتتلى على الناس ويأخذوها سُنة في الدعوة إلى الحق، وخصوصا الأقربين الأدنين لهم، والتاء في قوله تعالى:(يَا أَبَتِ) عوض عن ياء المتكلم، وذكرها بدل الياء مبالغة في التلطف والرفق، بل ربما يكون فيها من تدلل الأبناء على الآباء معنى محبب مقرب.
وابتدأ بأن قال غير موجه لوما ولكن ساق إرشاده مَساق الاستفهام المستدنى، لا مقام الآمر المستعلي سائلا له سؤال المستفهِم في سياقه، ولكن المنبه بأرفق تعبير:(يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ ولا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا)، لقد وصف معبوده وهو الصنم بثلاث صفات سلبية:
الوصف الأول: أنه لَا يسمع، وكيف يعبد من يسمع ما لَا يسمع، فهو أقل كمالا منه وهو عاجز، لأن عدم السماع عجز.