الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يصرح بأنه وهب لإبراهيم إسحاق، ومن ورائه يعقوب، وجعلهما معا مع أن إسحاق أب ويعقوب ابنه، لأنهما كانا نبيين، وأن نبوتهما هبة الله، وتوالت النبوة والدعوة إلى هدم الأوثان ابنا عن أب عن جد؛ ليقتلعوا عبادة الأوثان من الرءوس التي استمكنت فيها، والنافلة ولد الولد، و (نَافِلَةً) وصف ليعقوب لأنه ولد ولده، أي وهبناه لك هبة زائدة فوق الولد؛ لأن إبراهيم دعا ربه، وقال:(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ).
وهكذا نرى أن الله تعالى أراد لإبراهيم أن تتوارث فيه الدعوة إلى هدم الأوثان، لتذهب روعتها الكاذبة من نفوس الناس، ومحمد صلى الله عليه وسلم من بعده قاوم الوثنية وحده، ولم يكن أحد من ذريته من قاومها، ولكن كان من أصحابه والتابعين من قاومها، حتى روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل "(1) وقال تعالى: (وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ) التنوين قائم مقام المضاف إليه، أي كل واحد من الجد وابنه وحفيده جعلناه من الصالحين، أي المستقيمين في طريقهم إلى الحق، وذكر أنهم صالحون مع أنهم من المصلحين في طريق الحق والهداية إليه، وذلك لأن الصالح في ذات الحق لابد أن يكون مصلحا، لأنه لَا يتم الصلاح إلا إذا جعلنا مصلحا هاديا مرشدا داعيا إلى الحق، وإلى صراط مستقيم؛ ولذا قال تعالى:
(1) سبق تخريجه.
(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ
(73)
(وَجَعَلْنَاهُمْ) الضمير يعود إلى إسحاق ويعقوب وأعيد الضمير بلفظ الجمع لأنه يجمع كل الذرية بعضهم بصريح اللفظ والآخر بطريق الإشارة والتضمين، وقد جاء الصريح في قوله تعالى:(وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134).
(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنَا) أي وجعلنا إبراهيم وذريته أئمة أي رؤساء يوجهون ويرشدون، ويقتدى بهم، ويكونون قوة للخير والهداية (يَهْدُونَ بِأمْرِنَا)، أي يدعون بدعاية الله، وإضافة الهداية إلى أمر الله للإشارة إلى طاعتهم أولا، ولبيان صواب ما يدعون إليه وأنه الحق لَا ريب فيه (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ) أي ألهمنا نفوسهم وقلوبهم فعل الخيرات وهديناهم إليها، بما أوحينا به لرسلهم الذين جاءوا رسولا بعد رسول، كما قال تعالى:(ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا. . .)، أي رسولا بعد رسول، وكل أولئك في ذرية إبراهيم عليه السلام والخيرات جمع خير، وهو كل ما فيه نفع للناس، ويقصد به فعله لنفعه للناس، ولإرضاء الله تعالى ثم قال سبحانه:(وَإِقَامَ الصَّلاةِ) أي أداءها على وجه أكمل من خضوع وخشوع، واستحضار لذات الله كأنهم يرونه، وإذا لم يروه يحسون بأنهم في حضرته يرجون رحمته ويخافون عذابه ويطلبون محبته ورضوانه، (وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ) ليكون المجتمع كله متعاونا بارا يبر بعضه بعضا (وَكانوا لَنَا عَابِدِينَ) أي كانوا في كل أحوالهم وأعمالهم عابدين لله تعالى، وكل عمل فيه عبادة إذا قصد بإتقانه إرضاء الله وحده ومحبته سبحانه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله "(1).
وفى قوله تعالى: (وَكانُوا لَنَا عَابِدِينَ) تقديم الجار والمجرور، وهذا يفيد الاختصاص أي لنا وحدنا لَا يشركون بي شيئا، والجملة تدل على استمرار العبادة أولا، لوجود " كان " الدالة على الاستمرار، وثانيا الوصف (عَابِدِينَ) أي مستمرين حتى تصير العبادة وصفا لهم فهم في عبادة مستمرة آناء الليل وأطراف النهار.
بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى إشارات بينة إلى إبراهيم وبنيه، ويعقوب وذريته عاد إلى لوط بعد نجاته فقال:
(1) سبق تخريج ما في معناه من أحاديث.
(وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)
(وَلُوطًا) منصوب بفعل محذوف تقديره واذكر لوطا، وخص لوطا بالذكر، ولم يذكر قوم لوط لحقارتهم ومهانتهم وسوء أفعالهم، وخبيثة نفوسهم حتى انحطوا عن مرتبة الحيوانية في شذوذ الفطرة، وفي ذكر لوط منفردا عن قومه تنويه بشأنه، ورفعة لذكره، وبيان أنه لَا يضر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون قومه مفسدين غير مهديين، فإنه جاء لهداية الضال وإصلاح الفاسد، فإن لم يصلحوا دمر الله عليهم وأنشأ قوما آخرين. (آتَيْنَاهُ حُكْمًا) الحكم هنا الحكمة والحلم والصبر على معاشرة المفسدين، وإلا فأي حكمة أوتيها ذلك النبي الكريم الذي استطاع بها أن يعاشر أولئك الشواذ من الإنسانية يدعوهم ويأخذهم بالهداية والإرشاد والرفق في القول ويستمر في رعايتهم هاديا مرشدا من غير سأم ولا ملال، حتى إذا جاءه ملائكة الله يبدو سوء نفوسهم ويظهر حتى يداريهم ليسكتوا فلا يسكتون. (وَعِلْمًا) وهو علم النبوة وبعثه، وما أجدت دعوته فحقت عليهم كلمة العقاب وحقت للوط النجاة، كما تنجو الفضيلة منِ ردغة (1) الرذيلة على أقبح صورها، ولذا قال تعالى:(وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَة الَّتِي كَانت تَّعْمَل الْخَبَائِثَ) أي نجيناه سالما طاهرا مطهرا (مِنَ الْقَرْيَة) أي المدينة العظَيمة، أو المدائن العظيمة، وذكرت بالمفرد لإرادة جنس هذه القرية المَوصوفة بذلك الوصف المشئوم البغيض، (الَّتِي كَانَت تَّعْمَل الْخَبَائِثَ)، وهي جمع خبيثة، ولا يمكن أن توصف إلا بهذا الوصف أو ما يشبهه، ولقد قال تعالى فيها (. . . أَتَأتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ)، ووصفت القرية بأنها كانت تأتي الخبائث مع أن الذي يفعلها آحادها، ولكن لأنها عصت وطمت كأنما صارت الأرض ذاتها تفعلها، ولقد قال تعالى بعد ذلك:(إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ) أعيد الضمير على أهل القرية لأنهم الذين فعلوا ما فعلوا حتى صاروا عار هذه القرى الظالمة، وهذه الجملة السامية:(إِنَّهُمْ كَانوا) في مقام سبب ما فعلوا ويفعلون من خبائث.
و" السوء " ما يسوء ويؤذي النفس والطبائع السليمة، (فَاسِقِينَ) شاذين خارجين على الفطرة الإنسانية إذ انهووا إلى ما دون الحيوان.
(1) الرَّدَغَة، محَرَّكة، وتُسكَنُ: الماءُ، والطينً، والوَحلُ الشديد " القاموس المحيط - ردغ.